بين يدي «الغياب»
ا الذي يمكن لبضعة
سطور إضافية ، إن تضيفه إلى محمود درويش ، أو إلى طوفان الكلمات التي كتبت
عن الرجل في حياته ، وتلك التي ستتدفق من دون توقف ، ولسنوات وعقود على
مماته ؟...سؤال داهمني وأنا في "عز" المخاض للكتابة عن رجل ملأ الأرض
والفضاء ، و"سرت" كلماته في عروقنا وشراييننا مذ كنا فتيانا نبحث عن
"المقاومة في الشعر" أو "شعر المقاومة" فتقع أعيننا على "سجل أنا عربي.."
، وتنحفر الكلمات في الذاكرة والوجدان ،
كالنقش في الحجر.ما
أصعب الحديث في حضرة دوريش أو بعده ، وما أصعب الكتابة "في حضرة الغياب" ،
غياب الرجل الذي طاولت قامته ، قمم الكرمل وجرزيم وعيبال والجرمق ، فانتصب
رمزا لفلسطين ، وراية وارفة ظلالها ، تطل على قارات العالم الست ، من فوق
"سبع طباقا".في ذاكرتي الشخصية ، والشخصية جدا ، لا يرد درويش إلى خاطري
وحيدا منفردا ، فقد ارتبط اسمه في ذهني باسم ياسر عرفات...وليعذرني النقاد
والمؤرخون ، فالمفارقة غريبة بعض الشيء خصوصا حين يقترن اسمان ورمزان
تباعد ما بينهما "هوة" تكاد تكون بحجم "الجرف القاري" أو "حفرة الانهدام"
، أحدهما: أبو عمّار ، أمعن في تحطيم قواعد اللغة العربية جميعها ، من دون
أن يبقي منها حجرا فوق آخر ، والآخر: محمود درويش حلقت اللغة بجناحيه في
فضاء العالمية والحداثة ، بعد أن اغتنت بمفرداته واشتقاقاته ، وتهذبت بسمو
روحه وكبريائها.على أنني وأنا أسعى في تفسير هذا الارتباط الجزافي بين
الراحلين ، تستوقفني أسئلة الهوية والكيانية الفلسطينية ، فما من رجل
ارتبط اسمه بـ"البعث" الفلسطيني من رماد الاقتلاع والتبديد والمصادرة ،
مثل ياسر عرفات ، وما من رجل أعطى الهوية الفلسطينية مضمونها الإنساني
وبعدها الثقافي المثير للفخر والاعتزاز ، كمحمود درويش ، وربما لهذا السبب
بالذات ، لم تكن الدعابة "القاسية" على درويش - كما أحسب - بلا معنى ، حين
كان يطلق عليه وصف "الشاعر العام" ، على غرار اللقب الأثير على نفس عرفات
وروحه: القائد العام.وأقول "دعابة قاسية" لأنني أعتقد أن درويش الذي لم
ترتبط فلسطين باسم مثقف كما ارتبطت باسمه ، لم يكن "شاعر مقاومة" ولا
"شاعر قضية" ، إلا في بعض وجوهه وبعض مراحل مسيرته ، ومن الصعب احتجازه في
هذا القمقم ، خصوصا بعد أن تخطت قصيدته بأدواتها وموضوعاتها ، المسألتين
معا ، ومن الظلم له وربما للمقاومة والقضية ، الإصرار على هذه الاختزالات
، ففلسطين القضية والرمز والمقاومة ، أكبر من تختصر بأعمال شعرية كاملة ،
أيا كان صاحبها وعدد مجلداتها ، والشاعر حين يحلق على ارتفاع شاهق ، في
فضاءات الثقافة الإنسانية والعالمية ، يكبر أن يصب في "قوالب"
الإيديولوجيا الجاهزة.رحم الله درويش ، فقد أغلق برحيله الباب على حقبة
جميلة مضت في كفاح شعب فلسطين وحراكه الثقافي والسياسي والاجتماعي ، لكأني
بآخر الفرسان والنبلاء الذي كتب ذات مرة عن "ذل اللجوء الدمشقي" ، لم
يحتمل "ذل اللجوء في الوطن" ولم يطق تهافت صغار السياسيين وكبار المفاوضين
، فآثر الغياب...ولا أدري إن كنا سنبكي غيابه أم غيبتنا وغياباتنا.
*الدستور