بول فيريليو: الحداثية الفائقة ونقد التكنولوجيا(2)

بول فيريليو: الحداثية الفائقة ونقد التكنولوجيا(2)
الرابط المختصر

الجزء الثاني من 

في (الجمود القطبي) يفحص فيريليو الإدراك الخالص والسرعة والسكون البشري. فمثلاً في فصل (الضوء غير المباشر) يتناول فيريليو الفرق بين شاشات الفيديو التي اعتمدها نظام المترو في باريس والأجسام الحسية الحقيقية المدركة حسياً مثل المرايا من منظور نظري يتوافق مع ما أسماه فوكو (مجتمعات المراقبة surveillance societies) وما أطلق عليه دولوز (مجتمعات السيطرة control societies). وفي المقابل، تهتم الفصول الأخرى من الكتاب بمعالجة التناقض بين الجمود المولد تكنولوجياً والحركة الإنسانية المتولدة بيولوجيا. وحين يناقش فيريليو إدخال آلات الموجة (wave machines) في حمامات السباحة اليابانية، وطمس الأوقات المحلية المتنوعة في جميع أنحاء العالم واستبدالها تدريجيا بـ(التوقيت العالمي) الموحد، يلاحظ فيريليو التفاوت بين الاتصالات الضوئية الكلاسيكية والتبديل الكهروضوي.

 

يرى فيريليو أن المهم في عصر الإدراك الخالص ليس خلق التباطؤ والتسارع ولكن المهم هو خلق (الجمود القطبي). ذلك أن الجمود لم يكن موجوداً في عصر الحركة في الحداثة المبكرة التي يصفها بأنها عصر التحرر، وبالتالي فإن فكرة الجمود القطبي تستبعد الجوانب البديلة من معادلة السرعة التسارع أو التباطؤ ـ في العصر الصناعي. أما في عصر ما بعد الصناعة حيث سرعة الضوء المطلقة، فإن الزمن الحقيقي حل محل المكان الحقيقي. وفي مثل هذه الظروف، فإن الفرق الجغرافي بين 'هنا' و 'هناك' يطمس بفضل سرعة الضوء مثله مثل التاريخ الذي اصطدم بجدران الزمن، فضلا عن أن الجمود القطبي في صيغته النهائية التي يمثلها المليارديرات المنعزلون من أمثال هوارد هيوز أصبحت سجناً فوكووياً. وبانعزاله في غرفة واحدة في فندق ديزرت أن في لاس فيغاس لمدة خمسين عاما يشاهد فيلم الحرب الباردة (Ice Station Zebra) مراراً وتكراراً، فإن راهب فيريليو التكنولوجي ليس فقط تجسيدا للجمود القطبي، ولكن الأهم هو أنه أول قاطن في (الظاهرة الجماهيرية mass phenomenon). وقد امتدت هذه الظاهرة إلى ما هو أبعد من السينما المحلية وجمهور التلفزيون لتصل إلى مناطق الحروب في النزاعات الحديثة. ووفقا لفيريليو، فإن الجيوش الآن تشاهد الحرب التي تخوضها من ثكناتها العسكرية كما في حرب كوسوفو مثلا.

 

وبتعبير فيرليو"فإن الجيش اليوم يحتل الأرض بمجرد أن تضع الحرب أوزارها". وعلى نطاق أوسع، تسعى كتابات فيريليو عن الجمود القطبي لإظهار أن أجزاءً شاسعة من المساحات المدنية والعسكرية الجغرافية المادية لم تعد ذات محتوى بشري كبير. ولذلك فقد تحول اهتمام فيريليو في كتابه (فن المحرك) إلى العلاقة بين مسافات الجسم البشري والتكنولوجيا. ومع بدايات القرن الحادي والعشرين، اهتمت نظرية فيريليو الثقافيةبما أطلق عليه الثالث، أو زرع الثورة الانهيار شبه الكامل للتمييز بين جسم الإنسان والتكنولوجيا. ترتبط الثورة الثالثة ارتباطا وثيقا بالتعزيز التكنولوجي واستبدال أجزاء الجسم من خلال نمنمة الكائنات التكنولوجية، ولذلك فإنها ثورة التكنوعلمية العسكرية ضد جسم الإنسان من خلال تعزيز ما أطلق عليه فيريليو (علم تحسين النسل البشري الجديد neo-eugenics. تراوحت هذه الاهتمامات بين نقد فن ستيل آرك الأدائي السيبرنيتيكي واهتمامه بمصير الطيارين في حرب كوسوفو. فالنسبة لفيريليو، فإن كلا من ستيل آرك الاسترالي والطيارين يمثل الشيء ذاته" الرجل الأخير قبل أن يبدأ التشغيل الآلي إعطاء الأوامر". ولا بد أن نلاحظ ـ والكلام لأرميتاج طبعا ـ أن نقد فيريليو للأتمتة يرتبط ارتباطا وثيقاً بتطوير مفهومه عن الاستيطان الداخلي. إذ ما الذي يحدث عندما تتحول قوة سياسية مثل الدولة ضد شعبها، أو ـ كما في حالة التكنوعلمية العسكرية ـ ضد جسم الإنسان. ونتيجة لذلك ففي كتبه التالية (السماء المفتوحة) و(سياسات الأسوأ جداً) و(قنبلة المعلومات) يخوض فيريليو في نقد حاد للنسوية الفضائية التي اتبعت (إعلان مبادئ الكائن السيبرنيتيكيmanifesto for cyborgs) لدونا هاراواي والصادر عام 1985. يصف فيريليو النسوية الفضائية بأنها ثورة في الصراع ضد البطريركية كما أنها ثورة التكنولوجيا السابرنيتيكية ولكنه لم يخصص وقتا كافيا لنقد كل مصطلحاتها. فيرى فيريليو مثلا في الجنس السايبيري ((cybersex استبدالاً للعواطف بالتكنولوجيا.

 

وتبعا لفيريليو فلا بد من رفض الحياة الجنسية السايبرنيتيكية، وتركيز الاهتمام النظري على الإنسان، ومقاومة إخضاع الرجال والنساء على حد سواء عن طريق التكنولوجيا. فالفضاء النسوي كما يراه فيريليو هو مجرد شكل آخر من أشكال الأصولية التكنولوجية  التي هي دين كل أولئك الذين يعتقدون بسلطة التكنولوجيا المطلقة. لقد استسلمت مناصرات الفضاء النسوي مع عدد أخر من المجموعات الثقافية المتعددة لمسارات الفضاء السايبيري بعد أن غادرت ساحات الحساسية الدينية المطلوبة لفهم آلهة الوجود المطلق، والفورية، ومتاحية المعلومات، وتكنولوجيا الاتصالات.

 

يركز فيريليو في كتابه (إستراتيجية الخداع)على الحرب في كوسوفو، ويجادل بأن الحرب كانت فاشلة على حد سواء لأوروبا ومنظمة حلف شمال الأطلسي. ولكنها كانت ناجحة للولايات المتحدة الأمريكية. وذلك لأن الولايات المتحدة الأمريكية قد استغلت الحرب وأجرت في كوسوفو (تجربة) توظيف الأدوات المعلوماتية والسايبرنيتيكية التي روج لها البنتاغون كثيرا تحت اسم (الثورة في الشؤون العسكرية Revolution in Military Affairs واختصاراً (RMA). وهكذا فإن فيريليو يدرك هذه الثورة بوصفها مماثلة لمفهومه عن (قنبلة المعلومات) والحرب السايبرية، وهي متوافقة كذلك مع زعمه بأن الهدف الحالي للولايات المتحدة هو السعي إلى ما يطلق عليه رؤساؤها العسكريون مصطلح الهيمنة العالمية للمعلومات Global Information Dominance (GID)). يرى أرميتاج أن تفسير فيريليو للفضاء العسكري والتنظيم الاجتماعي للأرض التابعة لدولة ما يعد مساهمة هامة في النظرية النقدية الثقافية لأنها تحيد عن المناقشات الحالية العقيمة حول المفاضلة بين الحداثة وما بعد الحداثة. ويرى أيضاً أن توصيف المنظرين الثقافيين أمثال ديفيد هارفي وجيف وايت والفيزيائيين الإيجابيين مثل ألآن سوكال، وجاك بريكمون لفكر فيريليو بوصفه ما بعد حداثياً خطأً جسيما لعدة أسباب يفصلها أرميتاج على النحو التالي:

·        على الرغم من أن مفهوم ما بعد الحداثة قد برز أولا في النقد المعماري في الستينيات، وهي الفترة التي بدأ فيها فيريليو عمله معمارياً، إلا أن فكر فيريليو لم يكن ردة فعل على النمط العالمي ولا على الحداثة. لقد رأى فيريليو في ما بعد الحداثة (نكبة) معمارية وليس لها علاقة بكتاباته المرتكزة على الظاهاراتية  وذلك لأن أعمال فيريليو تعتمد على التقاليد الحداثية في الفن والعلوم. وقد لاحظ أرميتاج في أكثر من موضع من كتاب (قنبلة المعلومات)، أن فيريليو يشير بشكل روتيني إلى كتاب حداثيين مثل كافكا الذي منح إعلانه بأن (السينما تتضمن وضع العين في اتساق منتظم) نكهة خاصة. ويمكن قول الشيء نفسه عن علاقة فيريليو القتالية بكل من فيليو توماسو مارينيتي و(مستقبليته) الحداثية، وتطبيقات الأخوة تشابمان ما بعد الحداثية  أو حتى تطبيقات الفن المعاصر. ومن الواضح ـ يقول أرميتاج ـ أن مرجعية فيريليو الفلسفية تعود إلى هوسرل ومارلو بونتي، والظاهاراتيين، والحداثيين. وعلاوة على ذلك، فإنه يستشهد بانتظام بكتابات آينشتاين عنالنسبية العامة وغيرها من نظريات الحداثة المبكرة.

·        ومن ناحية أخرى، لا يرى فيريليو أن هناك صلة بين فكره وبين منظري التفكيكية وما بعد البنيوية مثل دريدا . فهو على سبيل المثال، لم يبد أي اهتمام بنظرية دي سوسير في اللغويات البنيوية، مفضلا عليها عالم الظواهاراتية والوجودية. وبوصفه مناهضاً للماركسية والسارتارية، فضلا عن أنه مسيحيا لا سلطويا ملتزما (anarcho-Christian) ومفكراً لا يثق على الإطلاق بالتحليل النفسي، فإن فيريليو لا يملك إلا القليل من القواسم المشتركة مع رواد البنيوية مثل بارت السيميائي، وألتوسير الفيلسوف الماركسي، ولاكان المحلل النفسي، وليفي ستروس الأنثروبولوجي  كما أن علاقاته مع (الانضباط والعقاب) لفوكو و(ألف هضبة) لدولوز غواتاري تحتاج أيضا إلى مقاربة نقدية خاصة. ويعود ذلك إلى أن فيريليو وخلافا لكل منظري ما بعد البنيوية مسيحيا ملتزما وإنسانيا. ولهذا السبب فإن أعماله عارضت وجهة نظر معادي الإنسانية وفلسفة مسيح فوكو ودولوز و غواتاري ونيتشه. وقد صرح فيريليو أنه وعلى الرغم من إعجابه بالجزء الأُوبرالي عند لنيتشه إلا أنه يحتمل (الفلسفة الكامنة وراءه). لقد كانت فلسفة نيتشة (مثيرة للاشمئزاز) بالنسبة لفيريليو. وهكذا فقد كانت العلاقة بين فكره وبين نظريات فوكو ودولوز و غواتاري و ما بعد البنيويين تقاربية وغير محددة، وهو أمر أشار إليه فيريليو مرارا. لقد حدد فيريليو المؤشرات الحاسمة في كل نظرياته وهي: الحرب العالمية الثانية، والإستراتيجية العسكرية، والتخطيط المكاني.

 

وعلاوة على ذلك، وخلافا لكثير من منظري ما بعد الحداثة الثقافية، فإن فيريليو لا يدين الحداثة كليا. وبدلا من ذلك، فإنه ينظر إلى عمله بوصفه (تحليلا نقدياً للحداثة)، ولكن من خلال إدراك واستيعاب التكنولوجيا التي يرى أنها كارثية (catastrophic) إلى حد كبير ولكنها ليست نذيراً بإضرابات عنيفة اجتماعية أو سياسية (catastrophist). ويجادل فيريليو" بأننا لم نتجاوز الحداثية حتى الآن" ومن ثم فإن (مأساة الحرب الشاملة) تقع في صلب نظرية فيريليو الثقافية. وبتركيز أفكارهاعلى سرعات الحداثة المتفاوتة، فإن نصوص فيريليو تهتم بالتالي بخصائص هامة مثل: التكنوعلمية، والمراقبة، والتمدن، والاغتراب. وعلى الرغم من سمعته بوصفه كاساندرا ، فإن فيريليو يصر في كثير من الأحيان على أن مفهومه للحداثة ـ باعتباره متميزا عن منظري ما بعد الحداثةـ متفائل في الأساس.

 

لا ينفر فيريليو من العقل كلياً حتى ولو أنه انتقد جوانب عديدة من (مشروع التنوير). وهو بالتأكيد معارض للماركسية والهيغيلية. وبهذا الصدد فلنا أن نقول ومن خلال أطروحاته أنه يمثل نوعا من اليسار الهايدغري (left Heideggerian). وبذلك فإن علاقته النقدية بالحداثة تختلف عن تلك التي اعتمدها ما بعد الحداثيين مثل وايت وتقارب أطروحات سكوت لاش عن التنوير والكائنات التكنولوجية والحداثة والعلاقة وخصوصا تلك التي ضمنها لاش في كتابه (حداثة أُخرى, عقلانية مختلفة).

 

لا يوجد علاقة واضحة بين فكر فيريليو وفكر دعاةما بعد الحداثة مثل ليوتار أو بودريلار. وعلى عكس كتابات ليوتار، على سبيل المثال، فإن فيريليو بقي وفيا لمبدأ الأمل فيما يتعلق بمعنى التاريخ، حتى في ذلك الوقت الذي اصطدم فيه التاريخ بجدران الزمن الحقيقي. ويمكننا القول أن مجمل أعمال فيريليو هو محاولة مستمرة لخلق معنى للتاريخ يخصه وحده، ثم ومن خلاله يصبح هذا المعنى خاصاً بنا. لم يقبل فيريليو بفكرة زوال كل السرديات الكبرى، بل أنه أكد وعلى سبيل المثال" أن سرد العدالة أبعد من متناول أي تفكيك". ويمكننا أن نفهم عداءه لمفهوم المحاكة الزائفة عند بودريلار من خلال عدائه للماركسي، والسيميائية، ولعدمية نيتشه. ويمكن القول أيضا أن غراي جينوسكو أستاذة الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة ليكهد الكندية كانت على حق حين لاحظت توافق فرضية فيريليو عن السرعة مع أفكار مارشال ماكلوهان، إلا أننا يجب ألا نغفل حقيقة أن فيرليو وعلى عكس كثير من منظري ما بعد الحداثة لم يكن معجباً بلهاث ماكلوهان خلف وسائط تكنولوجية جديدة، فنجد على سبيل المثال أن غراي جينوسكو تقارن بين الرجلين وتقول"إن الاختلافات بين فيريليو وماكلوهان عميقة، سيما فيما يتعلق بتمثيل الدافع نحو الأتمتة". وتتابع أن" آلة حب ماكلوهان، وآلة حرب فيريليو تخلق أنواعا مختلفة تماما من العوالم: متخاصمة أو متواصلة". وتبعاً لذلك فإن آلة حرب فيريليو لا علاقة لها بمفهوم الحقيقة الفائقة والتهكم عند بودريلار ولا بمفهوم ماكلوهان عن آلة الحب. وفي الحقيقة فإن فكر فيريليو يهتم بالحقائق التاريخية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية في الحياة اليومية.

 

لذلك يرى أرميتاج أنه من الصعب استيعاب فكر بول فيريليو بمصطلحات ما بعد الحداثة. ويعتقد أنه من الأفضل مقاربة فكره بوصفه منظراً ثقافياً يتناول ما يمكن أن يطلق عليه قضية الحداثية الفائقة أو المنطق الثقافي للنزعة العسكرية المعاصرة. وفي الوقت نفسه يرى أرميتاج أن الحداثية الفائقة لازلت مصطلحا مؤقتاً في رحم النظرية الثقافية المعاصرة. ويمكن القول أن المصطلح قد بدأ مع كروكر  في كتابه (الفرد الممسوس). ومع ذلك، يرى أرميتاج وفيريليو أيضاً أنه من الضروري الابتعاد عن افتراضات الاستقطاب بين الحداثة وما بعد الحداثة، لأنه لا بد من التحول نحو فهمعمل فيريليو عن التسريع من خلال الكثافة والشدة المفرطة والإزاحة المتأصلة في الفكر الثقافي الفائق الحداثة عن المركب العسكري العلمي.

 

ورغم أن هناك العديد من المسائل المثيرة للجدل التي تتصل بنظرية فيريليو الثقافية، فإن نقده الفائق الحداثة للتكتيكات والاستراتيجيات والتكنولوجيات العسكرية قد أخذ يتصادم مع فكرة عدد متزايد من المنظرين الثقافية الآخرين أمثال الأخوين كروكر. السبب في مثل هذه الصادمات هو أن نصوص فيريليو من قبيل(سياسة الأسوأ جداً)، و(الجمود القطبي)، و(قنبلة المعلومات)، و(إستراتيجية الخداع) تعالج بعض أكثر التطورات الثقافية المعاصرة إثارة للقلق في أيامنا المعاصرة. وعلاوة على ذلك، فإنه غالبا ما يتم تصميم هذه التطورات للحفاظ على قوة (النخب الحركية العالميةglobal kinetic elites الافتراضية بشكل متزايد على حساب خلق الجثث محلية فعلية لما أطلق عليه أرميتاج 'الطبقات الدنيا (البطيئة)(the (s)lower classes). لقد نظًر فيريليو للمنطق الثقافي للنزعة العسكرية المعاصرة. وهذا هو أهم جانب من جوانب تفكيره. وحين يكشف الحالات الدرومولوجية والسياسية للقرن الحادي والعشرين، فإنه يفسر الحداثة بمصطلحات المفهوم العسكري للتاريخ والاستيطان الداخلي لجسم الإنسان من قبل التكنوعلمية العسكرية. ولهذا السبب فإن مفهوم الاحتياجات الثقافية الفائقة الحداثية لا بد ـ يقول أرميتاج ـ أن يتصدر أي فهم لمساهمة فيريليو الخاصة في النظرية الثقافية.

 

وتبعا لذلك ـ ولكلام لأرميتاج ـ فإن فيريليو واحد من أكثر المنظرين الثقافيين تحفيزاً للفكر في ساحة الفكر الثقافي المعاصر. وخلافا لما بعد الحداثية التي روج لها بودريلار وليوتار، فإن الحداثية الثقافية لفيريليو لا تعبر عن نفسها بوصفها انحرافا عن الحداثة والحداثية ولكنها تحليلا نقديا لهما من خلال الإدراك الكارثي للتكنولوجيا. لهذه الأسباب ولغيرها ـ يتابع أرميتاج ـ يحدد فيريليو موقفه العام بوصفه ناقداً لفن التكنولوجيا. وهكذا فإن الموقف النظري وحساسية فيريليو الثقافية بشأن التكنولوجيا تبقى خارج نطاق النظرية النقدية الثقافية، ذلك أنه لم يعتمد على التفسيرات الفكرية ولكن على"النوعية الضمنية الواضحة".

 

والخلاصة أن فيريليو كما يراه أرميتاج هو المنظر الثقافي الذي تناول الاتجاهات المؤثرة في المرحلة الحالية من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنه المنظر الثقافي الذي يرفض النظرية الثقافية تماما. والمثير للجدل هو ما إذا كان هناك الكثير الذي يمكن تحقيقه من محاولة المنظرين الثقافيين تأسيس (الحقيقة) أو غيرها استنادا إلى فكر فيريليو لأن استجابات فيريليو الحاسمة للعسكرة، وسياسة الوقت، والفن، والسينما، والتكنولوجيا هي في الواقع استجابات أخلاقية وعاطفية على وصول الثقافة التكنولوجية. ومع ذلك، فمن المهم أن نتذكر أن استجاباته لم تكن استجابات سلبية لناقد منظر، ذلك أنه سبق أن أكد أن" المقاومة ممكنة دائماً! ولكن يجب علينا الانخراط في المقاومة قبل كل شيء من خلال تطوير فكرة 'الثقافة التكنولوجية". إن فيريليو يدرك جيداً أن عمله" يرفض في كثير من الأحيان بتهم فضائحية" ، فقد لاحظ مثلا أن فرنسا لا تتسامح مع التهكم والتلاعب بالكلمات والحجج التي تأخذ الأمور إلى أقصاها وزيادة.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك