بول فيريليو: الحداثية الفائقة ونقد التكنولوجيا (1)

بول فيريليو: الحداثية الفائقة ونقد التكنولوجيا (1)
الرابط المختصر

 

مصطلح الحداثية الفائقة (hypermodernism) هو المصطلح الذي أطلقة المنظر الثقافي جون أرميتاج على النظرية الثقافية التي وضعها الفيلسوف الفرنسي بول فيريليو في ثنايا كتبه وأعماله. وكان أرميتاج المتخصص في فكر وفلسفة فيريليو قد حصل على درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة نورثمبريا البريطانية عام 2002 على مجمل أعماله المطبوعة عن فكر فيريليو . والجدير بالذكر أن أرميتاج قد نحت مصطلح الحداثية الفائقة منذ العام 2000 وذلك في كتابه (بول فيريليو: من الحداثية إلى الحداثية الفائقة وأبعد) والصادر عن دار سيغ اللندنية.

 

عمل فيريليو رساما ورافق الفنان الشهير ماتيس لفترة من الزمن، كما أنه انضم إلى الجيش الكولونيالي الفرنسي في الجزائر، وتحول لاحقاً إلى الفنون المعمارية وعين أستاذا في مدرسة Ecole speciale d Architecture المعمارية المختصة بباريس. ثم ساهم مع جاك دريدا وآخرين في تأسيس كلية الفلسفة الدولية. وعلى الرغم من تخصصه في فنون العمارة وبناء المدن إلا أن فيريليو كتب ـ مثله مثل رفاقه ومجايليه من الفلاسفة أمثال فوكو، وجيل دولوز، وفليكس غواتاري، وجين بودريلار، وليوتار ـ في مواضيع ثقافية مختلفة ومتنوعة.

 

يرى أرميتاج أن فيريليو واحد من أهم المنظرين الثقافيين الفرنسيين المعاصرين. وقد اشتهر باختراعه لمفاهيم جديدة تشخص المرحلة المعاصرة مثل مصطلح درومولوجي dromology الذي يعنى علم السرعة. هذا المفهوم البالغ الأهمية عند النظر في تركيب المجتمع بالنسبة للحرب؛ فقد لاحظ فيريليو أن السرعة التي تحدث بها الأشياء قد تغير طبيعتها الأصلية وأن الذي يتحرك بسرعة أكبر سيهمن على من يتحرك بسرعة أقل، بمعنى أن من يسيطر على الأرض يمتلكها ولا يتعلق الأمر بالقوانين والعقود ولكنه يتعلق بسرعة الحركة والتنقل والتداول، وقد أعلن فيريليو عند نحته لهذا المفهوم أن منطق التسارع يقع في قلب تحويل وتنظيم العالم الحداثي. ويعتقد أرميتاج أن فكر فيريليو يتجاوز مصطلح ما بعد الحداثية، وأنه يجب إدراكه بوصفه مساهمة في الجدل الناشئ حول بعد ما بعد الحداثية. ويرى أيضاً أن أهمية الأعمال الثقافية لفيريليو تنبع من ادعائه الأساسي بأن المركب العسكري- الصناعي military-industrial complex في ثقافة تهيمن عليها الحرب يتمتع بدلالة حاسمة في النقاشات حول خلق المدن والتنظيم المكاني للحياة الثقافية؛ فعلى سبيل المثال أكد معظم القادة السوفيت منذ أواخر العشرينيات على الإنتاج العسكري على حساب الاستثمار في الاقتصاد المدني. وقد مكن ذلك المؤسسة العسكرية الصناعية من الاستيلاء على أفضل المدراء والعمال والموارد. ونتيجة لذلك أنتج الاتحاد السوفيتي السابق أمضى الأسلحة وأكثرها تقدما في العالم. وكان التكامل بين الحزب والحكومة والقطاع العسكري اشد ما يكون في مجال الصناعات العسكرية الدفاعية. وفي أواخر الثمانينيات كان الاتحاد السوفيتي قد خصص ربع الناتج الاقتصادي الإجمالي لقطاع الدفاع. وكان المركب العسكري ـ الصناعي يوظف خمس السكان البالغين القادرين على العمل في البلاد. ومع أواخر الثمانينات كان ربع السكان منخرطين في أنشطة عسكرية سواء كانت خدمة فعلية آو أنتاجا عسكريا أو تدريبا عسكريا للمدنيين.

 

وفي كتابه (السرعة والسياسات) يمنحنا فيريليو (نموذج حرب) ذي مصداقية لنمو المدن الحديثة ولتطور المجتمع الإنساني. وبذلك ـوتبعا لفيريليو، فإن المدينة المحصنة في الحقبة الإقطاعية كانت ثابتة و(آلة حرب) لا يمكن تعويضها بشكل عام، بالإضافة إلى دورها في تعديل دورة وزخم تحركات الجماهير في المناطق الحضرية. وهكذا فقد كانت المدينة المحصنة فضاءً سياسياً للجمود القابل للسكن (habitable inertia)، والتكوين السياسي، والدعامة المادية للحقبة الإقطاعية. ويطرح فيريليو سؤالاً أساسياً وهو: لماذا اختفت تلك المدن المحصنة ؟ لتكون الإجابة غير التقليدية التي يقدمها فيريليو أن ذلك يعود إلى ظهور منظومات الأسلحة المتسارعة والقابلة للنقل على نحو متزايد ومتسارع أكثر من أي وقت مضى. وقد فضحت هذه الابتكارات المدينة المحصنة، وحولت حرب الحصار إلى حرب حركة. فضلاً عن أنها قوضت الجهود التي تبذلها السلطات لتنظيم تدفق المواطنين في المناطق الحضرية وبشرت بالتالي بوصول ما أطلق عليه فيريليو التداول السكني habitable circulation للجماهير، وبذلك فإن فيريليو يرى ـ وخلافاً لماركس ـ أن الانتقال من الإقطاعية إلى الرأسمالية لم يكن تحولا اقتصادياً بقدر ما أنه عسكري، ومكاني، وسياسي، وتكنولوجي. وهكذا فإذا كان ماركس قد كتب في المفهوم المادي للتاريخي فإن فيريليو قد كتب عن المفهوم العسكري للتاريخ.

 

تميل (آلة الحرب) إلى استنزاف موارد التنمية المجتمعية لصالح الصناعة والتكنولوجيا والعلوم العسكرية وتقوض بالتالي النمو الاجتماعي بحيث يصبح التخلف هو العلامة الفارقة للمجتمع المعاصر. وبالنسبة لفيريليو فإن تسارع الأحداث والتطور التكنولوجي والسرعة في العصر الحالي يعني حركة مزدوجة بين الانفجار الخارجي (explosion) والانفجار الداخلي implosion. بمعنى أن الحرب الجديدة آله تجمع اختفاءين مزدوجين: اختفاء المادة في الانحلال النووي واختفاء الأماكن في إبادة النقل بالمركبات. وتتجه سرعة الدمار اليوم نحو سرعة الضوء بفضل أسلحة الليزر وأنظمة الأسلحة التي يسيطر الكمبيوتر بشكل غير مسبوق في التاريخ: حرب لم تعد تعترف بتحصينات الجغرافيا الإستراتيجية لأن بمقدورها أن تصل إلى أي بقعة في العالم من أي بقعة فيه، وبتعبير فيريليو" إستراتيجية الحركة البراونية عبر التجانس الجيو-ستراتيجي للعالم". وهكذا فإن النمنمة المكانية الإستراتيجية قد أصبحت نظام اليوم، الذي وبالترافق مع التحول الميكروتكنولوجي في الإنتاج والاتصالات، وانكماش الكوكب تمهد الطريق نحو ما أطلق عليه فيريليو (الحرب الخالصة): الحالة التي تكون فيها التكنولوجيات العسكرية والنظام التكنولوجي المصاحب هو المتحكم في كل جانب من جوانب حياتنا. ومن وجهة نظر فيريليو فإن آلة الحرب هي القوة المهيمنة للتطور التكنولوجي والتهديد النهائي للبشرية، ذلك أنها تخلق حالة الطوارئ الدائمة حين تهدد المحرقة النووية كل بقاء للنوع البشري. ويتضمن ذلك تحولا من (الجغرافيا السياسية) إلى الزمن السياسي ومن سياسات المكان إلى سياسات الزمان التي تكون فيها القوة الاجتماعية السياسية المهيمنة لكل من يتمكن من السيطرة على وسائل الاتصالات والمعلومات وآلات التدمير.

 

عمق فيريليو استكشافاته المعمارية منذ العام 1958، بعد اكتشاف ما يزيد عن 1500 قبو بناها النازيون على طول الساحل الفرنسي لصد هجمات الحلفاء. وبدا واضحا أن فيريليو يعتمد نفسيا على (نظرية الإدراك) الجشطالية التي لم تكن مسئولة عن تطور مفهوم الوظيفة المائلة (oblique function) عند فيريليو وكلود بيرنت، فحسب ولكنها كانت الأساس الذي ارتكزا عليه في تصميم كنيسة بنكر في مدينة نيفر الفرنسية عام 1966. وتقوم فكرة الوظيفة المائلة على إمالة الأرض من اجل تثوير النموذج الفكري القديم المتعلق بالجدار الراسي. وفي الحقيقة فإن إمالة الجدار تجعل منه عينياً وملموساً تماما كما تخيل المعماريان الفرنسيان المدن التي ستبني بهذه الطريقة. ويهتم الميل في الأساس بخبرة الجسد المادية في الفضاء. ويتضمن الميل أيضاً محاولة التسلق وسرعة الانحدار، وبهذه الطريقة لا يستطيع الجسم تجريد نفسه من الفضاء حين يشعر بدرجة من الميل والانحدار.

 

بعد ذلك توسعت اجتياحات فيريليو للمجال الثقافي. فمثلا جادل فيريليو في عام 1970 بأن عسكرة فضاء المدن المعاصرة الذي لا هوادة فيه هو الذي دفع إلى ما أطلق عليه دولوز وغواتاري تقلص الحدود الجغرافية أو كسر حاجز الحدود (deterritorialization)  في الفضاء الحضري الرأسمالي، الذي هو بمصطلحات فيريليو وصول السرعة (arrival of speed) أو سياسة الوقت chronopolitics. وبمراجعة السقوط الدرومولوجي (السريع) الذي تسببت به تكنولوجيا الاتصالات وثورة المعلومات، يتفحص فيريليو أفاق (المقاومة الثورية) لـ (القوة الخالصة) ويسبر أغوار العلاقة بين التكنولوجيات العسكرية وتنظيم الفضاء الثقافي. وفي الثمانينات أسس فيريليو المرحلة الهامة التالية من عمله النظري من خلال أفكاره عن الجماليات المشتقة من الاختفاء (disappearance), وتكسير fractalization الفضاء المادي، والحرب، والسينما، والخدمات اللوجستية، والإدراك. وعلى هذا الصعيد يقول آرثر كروكر" أن فيريليو قد فحص وبشكل حاسم الانعكاسات الثقافية الناتجة عن توظيف أجهزة التحكم عن بعد والتكنولوجيات المتعلقة بالسيطرة والتحكم الحركي (السيبرنتك cybernetic) في بيئة حضرية ذات ثقافة تكنولوجية". وقد وضع فيريليو نظريته الثقافية التي أطلق عليها ما بعد الاينشتاينية من خلال تتبعه لدور المرحلة الثالثة من الأسلحة العسكرية  في تشكيل تكنولوجيات المعلومات والاتصالات الجديدة والتي ركزت على أفكار مثل الجمود القطبي polar inertia، أو الثالث (third the)، أو زرع الثورة (transplant revolution)، أو فن ستيل آرك الأدائي السيبرنيتيكي, وحربي الخليج وكوسوفو. كما أنه ركز على مفاهيم مثل الاستيطان الداخلي (endo-colonization) والفضاء النسوي أو النسوية السايبيرية cyberfeminism، والأصولية التكنولوجية (technological fundamentalism) وقنبلة المعلومات (the information bomb) واستراتيجيات الخداع (the strategies of deception).

 

وعلى الرغم من مساهمة فلسفة وفكر فيريليو في تطوير نظرية (الحداثية الفائقة) الثقافية التي عمل عليها كل من أرميتاج (1999) وآرثر وماريلويز كوكر(1997) فإنه من المهم أن نذكر أن فيريليو يصف نفسه ناقدا لفن التكنولوجيا وليس منظراً ثقافياً أو اجتماعياً. وفي الحقيقة فإن فيريليو يمقت النظرية الثقافية وعلم الاجتماع بصورة خاصة. إلا أن أرميتاج يرى في فيريليو منظرا ثقافيا بعد ما بعد حداثي من طراز خاص ويتناول في دراساته التي نذرها لفكر وفلسفة فيريليو مفاهيمه السابقة وانعكاساتها الثقافية.

 

يبدأ أرميتاج بمفهوم الدرومولوجيا أو علم السرعة ومفهوم الحادث المتكامل (integral accident)، ويرى أن هذه الأطروحات قد أبرزت انتقادات فيريليو السياسية والعسكرية للثورة  في نقل المعلومات ولتقلص الحدود الجغرافية التي أظهرتها آثار الأنفاق النازية حول باريس. وهذه الأفكار بالتحديد هي التي لفتت إليه انتباه المنظر الثقافي ما بعد الحداثي بومان  ومنظر ثقافة المعلومات في عصر العولمة سكوت لاش.

 

في مفهوم الحدث المتكامل يرى فيريليو أنه لا يمكن للتكنولوجيا أن توجد دون احتمال وقوع حوادث فمثلا تسبب اختراع القاطرة في حوادث خروجها عن القضبان. وبذلك فإن فيريليو يرى الحوادث بوصفها نمواً سلبياً للايجابية الاجتماعية والتقدم العلمي. فقد فصلنا التلفزيون مثلا عن حوادث المكان والزمان الحقيقيين. وفقدنا الحكمة، والبصيرة بأفقنا المباشر ولجأنا إلى أفق غير مباشر لبيئتنا المخفية. ومن هذه الزاوية، فإن الحدث يُصور عقلياً بوصفه نوعاً من النيازك الكسيرية، التي تتوارى آثارها خلف الظلام الدامس. وهكذا فإن المنظر الذي يؤطر الحدث المعروض يخفي الصدامات المستقبلية. وقد زعم أرسطو أن لا علم يتعلق بوقوع الحدث، ولكن فيريليو لا يتفق معه حين يشير إلى أن المصداقية المتنامية للمحاكاة الزائفة قد صممت للهروب من الحدث. هذه الصناعة (المحاكاة الزائفة) التي يراها فيريليو بوصفها وليدة زواج غير مقدس بين ما بعد الحرب العالمية الثانية والمركب العسكري – الصناعي. وخير مثال على الحدث المتكامل عند فيريليو هو إعصار كاترينا والأحداث الكارثية التي تلته وجلبت أعين العالم نحو سلسلة مترابطة من المكان والزمان.

 

كانت فكرة فيريليو عن المفهوم الدرموكراتيكي للسلطة هي الدافع الأساسي وراء شكوكه حول الاقتصاد السياسي للثروة. وقد تأثر بنصوص صن تزو الصينية القديمة (فن الحرب). ويقترح فيريليو في مناقشاته لموضوعة (إيجابية الفاشية) و(سلبية مناهضة الفاشية) في تيار المستقبلية الإيطالية لفيليو توماسو مارينيتي، أنه لا يمكن إدراج الاقتصاد السياسي في إطار الاقتصاد السياسي للثروة مع إدراك إدارة اقتصاد الدولة بوصفه الهدف العام لها. وبالنسبة له، فإن تواريخ المؤسسات الاجتماعية السياسية مثلها مثل التحركات العسكرية والفنية الشبيهة بالمستقبلية أثبتت أن الحرب والحاجة للسرعة كانت أسس المجتمع الإنساني، وليس التجارة والرغبة في الثروة. ومن المهم التأكيد على أن فيريليو لا يجادل بأن الاقتصاد السياسي للثورة قد قمع بالاقتصاد السياسي للسرعة ولكنه يقول أنه بالإضافة إلى الاقتصاد السياسي للثروة هناك اقتصاد سياسي للسرعة.

 

ويرى فيريليو أيضاً أن الأساس المنطقي للحرب المحضة قد يغلف بوصفه منطق العلم التكنولوجي العسكري في عصر حرب المعلومات Infowar، ذلك العصر الذي يتم فيه استحضار أعداء مدنيين غير محددين من قبل الدولة من اجل تبرير الإنفاق المتزايد على المرحلة الثالثة من الأسلحة العسكرية، وخصوصا تلك التي تتعلق بتكنولوجيا الاتصالات والمعلومات الجديدة مثل الانترنت. وبالنسبة له فإن المركب العسكري الصناعي (military-industrial complex) الذي أطلق عليه المركب العسكري العلمي(military-scientific complex) لم يتناقص في عصر ما بعد الحرب الباردة ولكنه ازداد. ولم تكن أسلحة المركب العسكري العلمي مسئولة عن الأحداث المتكاملة مثل أزمة سوق الأوراق المالية عام 1987 أو فشل برنامج التداول الآلي فقط، ولكنها المسئولة عن فكرة أنه في المستقبل القريب لن تكون الحرب هي استمرار السياسات بوسائل أخرى ولكن الحادث المتكامل هو الذي سيؤدي هذا الدور: دور استمرار السياسات بطريقة أخرى.

 

في كتابيه (جماليات التلاشي The Aesthetics of Disappearance) و(البعد المفقود The Lost Dimension) ، يقول فيريليو العاشق لهندسة ماندلبروت الكسيرية أن النظرية الثقافية لابد أن تأخذ بعين الاعتبار الانقطاعات في إيقاع الوعي الإنساني والانفجارات المورفولوجية في البعد المادي. وبتوظيف مصطلح (picnolepsy) الذي يعني الانقطاعات المتكررة  ونظرية اينشتاين النسبية لاحظ فيريليو أن المدينة المعاصرة والرؤية الحداثية هما نتيجة السلطة العسكرية وتكنولوجيات التلاشي السينمائية المرتكزة على الزمن.

 

وعلى الرغم من أن هناك جوانب سياسية وسينمائية تتداخل في وعينا البصري بمنظر المدينة، إلا أن قدرة الجانبين السياسي والسينمائي على تعيين التلاشي التكنولوجي لجماليات ليوتار الكبرى والسرديات المكانية وعودة السرديات الصغرى أمر لا يمكن تجاهله. وبمصطلحات فيريليو فإن الهندسة الكسيرية الماندلبروتية تكشف ظهور مدينة التعريض الزائد overexposed city وذلك عندما يتمزق الانفجار المورفولوجي بين المكان والزمان إلى عدد لا يحصى من التفسيرات البصرية وأزمات البعد المادي. أطلق بول فيريليو وصف المدينة الزائدة التعريض على المدينة المكثفة والديناميكية بشكل جذري، التي يعاد بناء جانب من جوانبها باستمرار بواسطة الشاشات الإلكترونية. وهو بذلك يلمح إلى واحدة من المواضيع المفضلة لديه: نزع المادية عن المدينة بفعل تأثير تكنولوجيا المعلومات. فتبعاً لفيريليو، غيرت هذه التكنولوجيات إدراك البشر للزمن. فقد أفسح الوقت الزمني والتاريخي الطريق أمام الوقت الحقيقي لشاشة الكمبيوتر والتلفزيون، حيث يظهر كل شيء على الفور. في الوقت الحقيقي يلغي مفهوم البعد المادي، وبينما نحن نتحرك بشكل أسرع في جميع أنحاء العالم فإن تقديرنا لضخامته يقل شيئاً فشيئاً. مدينة التعريض الزائد ـ إذا ـ هي تلك المدينة التي يخترقها الإعلام والدعاية، وتكنولوجيا المعلومات. وهي المدينة التي استبدلت الجدران والبوابات بفتحات القنوات الإعلامية، والمعلومات، وشبكات الاتصالات وكل أنواع التكنولوجيات الجديدة، بحيث أصبحت كل تكنولوجيا نافذة على العالم الخارجي تندثر فيها الحدود والمساحات الحضرية لصالح القنوات الجيوسياسية العالمية، والفضاء السايبيري الاستشرائي. وبتعرضها الزائد للثقافة والاتصالات العالمية، فإن المدينة تفقد خصائصها المميزة وتفسح الحياة المدينة الطريق لحياة سايبيرية تكنولوجية، افتراضية، وغير متجانسة، ذات فضاء متكسر، وتوقيت عالمي يُمّكن الأفراد من اختبار الإحداث بالتزامن مع حدوثها في مكان في العالم.

 

والمهم هنا هو أن اهتمامات فيريليو بجماليات الاختفاء وأزمة البعد المادي لم تطبق من خلال البناء النصي للتفسيرات الثقافية الشاملة بل أنها طبقت من خلال الموضعة الإستراتيجية للانقطاعات المنتجة وللديناميكيات الإبداعية التي أطلق عليها (الميل tendency). وقد وضح فيريليو في كتابه (البعد المفقود) أن دور المدينة الزائدة التعريض هو اختفاء الجماليات وكل الأبعاد في المجال العسكري والسينمائي.

 

يتحدث فيريليو في (البعد المفقود) عن انحسار المدينة وفقدان المركز والتشرد في مجتمع المعلومات وما بعد الصناعة، وعن ضياع الكائن بشكل حاسم، وعن الخبرة المعاشة في عالم التمثيلات المتولدة تكنولوجياً، وعن أنماط الرؤية. وبالنسبة لفيريليو، فإن المدينة تتزحزح بعيداً عن المركز بسبب صعود الضواحي، ومن ثم بسبب الاتصالات السلكية واللاسلكية، ومراكز العمل والتفاعل الجديدة في مجتمع ما بعد الصناعة.

 

وعندما يجرى الحديث عن مدينة التعريض الزائد في سياق القضايا المعروضة على المحاكم والمتعلقة بوفاة الأميرة ديانا وقضية قتل سمبسون لزوجته وصديقها قال فيريليو:" كل المدن اليوم هي مدن التعريض الزائد. لندن، على سبيل المثال، كانت مدينة تعريض زائد عند دفن الأميرة ديانا، ونيويورك أيام اعترافات كلينتون بشأن مونيكا لوينسكي".

 

في كتاب (الحرب والسينما) يطبق فيريليو فكرة الاستبدال (substitution) عندما يناقش الأنواع المختلفة من الحقيقية التي ظهرت منذ بداية الزمن. ويبدو اهتمام فيريليو الأساسي ـ وهو بذلك يتشابه مع بودريلار ومفهومه عن التزييف أو المحاكاة simulation ـ هو الربط بين الحرب والاستبدال السينمائي، وما أطلق عليه لوجستيات الإدراك: توريد الصور السينمائية والمعلومات إلى الخط الأمامي. وتكمن أهمية مفهوم لوجستيات الإدراك في سياق حروب الحداثة الفائقة مثل حرب الخليج عام 1991 وكوسوفو عام 1998. إذ لم تختفي الملامح الطبوغرافية الثابتة في خضم المعارك ولكن بنية الحرب نفسها اختفت. فقد كان أمام القيادة العسكرية العليا خياران: دفن نفسها في مخابئ تحت الأرض بهدف التهرب مما أطلق عليه (الموت من أعلى) أو التحليق في السماء مع نية غزو ما أطلق عليه فيريليو (الفضاء المداري). وبتجريده للوجستيات الإدراك حيث (يختفي العالم في الحرب، وتخنفي الحرب بوصفها ظاهرة من عيون العالم)، يكون فيريليو قد حلل العلاقة بين الحرب والاستبدال والإدراك الإنساني المصطنع منذ ثمانينيات القرن الماضي. تعود اهتمامات فيريليو بالحرب، والسينما ولوجستيات الإدراك إلى مزاعمه بأنه يمكن مقارنة الإدراك العسكري في الحرب بالإدراك المدني، وتحديدا بفن صناعة الأفلام. وتبعا لذلك، فإن الاستبدال السينمائي يؤدي إلى (حرب الصور) أو (حرب المعلومات) التي هي ليست حربا تقليدية، حيث الصور المنتجة هي صور من المعارك الفعلية. ولكنها حرب حيث التفاوت بين صور المعارك والمعارك الفعلية يندرج في إطار تبدل الواقع أو انعدام الاستيعاب derealized. فالحروب عند فيريليو لم تعد (حول المواجهة) ولكنها حول الحركة ـ حركة (الموجات الكهربائية المغناطيسية). وموقف فيريليو هذا الذي يؤكد أن الحرب والسينما لا يمكن تميزهما عن بعضهما البعض لازال عرضة للنقاش والجدل مثله مثل موقف بودريلار الذي زعم فيه أن حرب الخليج  لم تحدث أصلا. أما موقفه المتعلق بظهور حرب المعلومات فإنه يتفق مع وجهة نظره بأن السبيل الوحيد لرصد التطورات الثقافية في آلة الحرب هو اتخاذ موقف نظري حاسم فيما يتعلق بالمتوازيات المختلفة التي توجد بين السينما، والحرب، ولوجستيات الإدراك. وهي وجهة النظر التي حملتها مقالته النقدية اللاذعة (آلة الرؤية).

 

وفي عالم فيريليو لم يعد الناس يصدقون أعينهم. فضلاً عن أن إيمانهم بالإدراك أصبح عبداً لإيمانهم بـ(خط الرؤية sightline) التكنولوجي: وهي حاله اختزل فيها الاستبدال المعاصر (المجال البصري) إلى (خط الرؤية). وبالنظر إلى الكتاب من هذه الزاوية ـ يقول أرميتاج ـ فإن (آلة الرؤية)هو مسح لـ(الإدراك الخالص pure perception) في مقابل ما وضعه المركب العسكري العلمي من بدائل وإمكانيات تكنولوجية مشئومة مثل الواقع الافتراضي والإنترنت. وبمصطلحات فيريليو فإن الهدف الرئيسي من الإدراك الخالص هو(تسجيل تراجع الواقع). كما أن جماليات التلاشي هي شكل من الجماليات المشتقة من حدود غير مسبوقة يفرضها التقسيم الآلاتي الفعال لصيغ الإدراك والتمثيل على الرؤية الموضوعية . وتبعاً لذلك فإن فيريليو يدرك آلات الرؤيا بوصفها نتاجات متسارعة لما أطلق عليه (الرؤية بلا نظرsightless vision). وهذه في حد ذاتها نسخة طبق الأصل من العمى المكثف الذي سيصبح الشكل الأخير من عملية التصنيع: تصنيع غض البصر (the industrialisation of the non-gaze) . ويفصل فيريليو العلاقة بعيدة المدى بين الرؤية وتكنولوجيات التحكم عن بعد في كتابه (الجمود القطبي) الذي سنتناوله في المقالة القادمة معما تبقى من كتب فيرليو ومصطلحاته الثرية.

 

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك