بث زائف
لا أمتلك إحصائية دقيقة حول بث وسائل الاعلام العربية _بتنوعها الصوتي والمقروء والمتلفز والإلكتروني_ لحجم المساحة المعطاة لقضايا التنمية المستدامة وعلاقة الإعلام بالتنمية، ولربما أن السبب في ذلك قلة مثل هذه الدراسات المسحيّة والرصديّة التي تنفع نتائجها مدراء البرامج ورؤساء التحرير والإدارات العليا في وسائل الإعلام وتساعدهم في بناء خطط برامجية وتغطيات تمنح المجتمعات التي يتوجهون لها حقهم في التنمية بمفهومها الشامل والأعم .
.
وبشكل عام، في ظل عدم وجود هذه المعلومات وبالتوازي مع تنامي الوسائل الإعلامية الترفيهية والسينمائية والإخبارية، فإنني ألاحظ عدم وجود مساحة كافية وتكاد تكون معدومة في بعض القنوات الإعلامية لملف التنمية، ولا أرى أن التمويل مشكلة لوسائل الإعلام، فالتمويل قد يسبب مشكلة للإعلام المجتمعي والحكومي، بينما الإعلام الخاص يتمتع بتمويل كاف لتسيير إنتاجه.
.
إذن، الإعلام التنموي والتوجه للمجتمعات برفع الوعي والتنمية السياسية والإقتصادية والثقافية والفكرية والإجتماعية _ وهنا لا أقصد فقط بث الأخبار والبرامج التي تشرح وتوضح للجمهور ماهية أي مشروع تنموي أو قوانين وتشريعات_ لا يحتاج التمويل الكبير، ولا يتعارض مع التسلية والترفيه، فساعات البث والنصوص المنشورة كبيرة جدا، لكن مفهوم التنمية والإعلام التنموي يغيب عن غرفة الأخبار، وكوادر إعداد البرامج.
.
فهل يسأل رئيس التحرير ومدير البرامج الصحفيين والإعلاميين عن الهدف من طرح فكرة ما؟ وهل يسعى لإيجاد مساحة للتنمية وتمكينها ؟ وهل يعي أهمية ذلك في دول تسمى "بالنامية"، ترتفع فيها معدلات الجريمة والفقر والبطالة وما إلى ذلك من مشكلات حلها يبدأ بترسيخ التنمية الإعلامية والوصول للجمهور ليس لحل مشكلاته اليومية، بل لتحفيزه على القيام برد فعل يصب في خزان التنمية المنشودة على مستوى الحي الذي يعيش به والمنطقة والمدينة والدولة.
.
ولا تلام الوسائل الإعلامية التي تفضل الربح والقطف من سلة الترفيه والتسلية على حساب القيم والضوابط الأخلاقية والمهنية وأنا لا أقول أن هذه الوسائل غير أخلاقية أو غير مهنية، وهما نسبيتان _ أي الأخلاق والمهنية_ فالمستثمر والقطاع الخاص لم يدخل قطاع الإعلام للتنمية فقط، فالربح المادي أساسي، وهذه ليست إشكالية وسائل الإعلام الخاصة فقط التي تفضل الربح حتى لو ضربت القيم المجتمعية، إنما هي مشكلة في إعادة تعريف وتعميق مفهوم "المسؤولية المجتمعية" في ظل التغيرات السريعة في العالم.
.
إننا يجب أن ننفض الغبار عن القناعة الراسخة لدينا بأن وسائل الإعلام لا تستطيع الإستمرار بلا ربح مادي، فهناك أمثلة كبيرة العالم والمنطقة العربية لوسائل إعلام لا تربح، وتسير أمورها من خلال تمويل ذاتي ومشاركة مجتمعية ودعم قطاع خاص أو حكومي كتلفزيون الخدمة العامة، وتغطي نفقاتها ولا تربح أو أن هامش ربحها بسيط مقارنة بغيرها من ملاك سوق الإعلام. ولا يمكن أن نقبل غياب الإعلام التنموي بحجة قلة الموادر المالية.
.
وعلينا أيضا أن نحدد ما نقصده بالمضامين التنموية، فعندما نقدم برنامج تنموي للجمهور، هل نقوم بدراسة حاجات الجمهور التنموية، وأولوياته لتغيير واقعه للأفضل، وبناء عليه هل نحدد خطواتنا في صناعة الرسالة الإعلامية؟ أظن أن الإجابات حول المضمون التنموي لا يصح أن تخرج من غرف الأخبار ومعدي البرامج، بل من المجتمع وعلى حراس البوابة أن يفكروا مليا في آلية تحقيق رؤى وتطلعات المجتمعات التي هم جزء منها،
.
وما البث الزائف الذي نسمعه ونشاهده ونقرؤه يوميا إلاّ نتيجة غياب الدراسة والخطة المشار إليها . والمتتبع لما يصدر من تقارير عن منظمات عالمية كتقرير التنمية البشرية، والأهداف الإنمائية للألفية، وتقرير المعرفة العربي وغيرها الكثير، والتي تحدد بدقة مشكلات المنطقة العربية التنموية ومكامن القوة فيها. يعلم تماما أن السواد الأعظم من وسائل الإعلام العربية يكتفي بنشر خبر حول صدور التقرير وأبرز ما جاء فيه، ومن ثم وضعه على الرف، في خطوة اعتدنا عليها لصالح الجري المراثوني خلف الحدث اليومي وما يعصف بالمنطقة.
.
ما أحوجنا اليوم لوسائل إعلام تنموي تبني على ما تراكم من إمكانيات واسعة يتمتع بها الإعلام لتسهم في تعظيم مشاركة المجتمع في كافة عمليات التنمية وتحويله إلى مجتمع مساند للعملية التنموية والتغيير الاجتماعي والثقافي والإقتصادي الإيجابي الذي ينعكس نهاية على نوعية حياة الإفراد والجماعات.