"بتقول إيه"

"بتقول إيه"
الرابط المختصر

 

في رمضان 1989 أذاع التلفزيون المصري برنامجاً بعنوان "بتقول إيه؟" تقوم فكرته على استغلال سمتين متجذرتين في شعوبنا بحكم الثقافة والتنشئة الاجتماعية والسياسية واللعب عليهما؛ ألا وهما: انعدام الثقة بالنفس وشخصية "أبو العريف" المتلبسة في معظم أفراد مجتمعاتنا.

كان مقدم البرنامج يبادر إلى سؤال ضيوفه الذين غالباً ما يختارهم عشوائياً، فيبدأ باستخدام مصطلحات وعبارات سفسطائية متخصصة وثقيلة ثم يتلعثم في الكلام وتتداخل جمله بحيث تغدو كالهلوسة بلا معنى. أذكر أنه التقى شخصاً عرّف على نفسه بأنه مهندس معماري، سأله المذيع: "بالنسبة لمشكلة التضخم الاقتصادي وعجز ميزان المدفوعات، هل هي مجزتأشصحة؟ أم أنها قضية ممكن تفحيشها بسندرافصة متشنقطصفعشسة وتحتاج لخطة؟"، بلا تردد أجاب الضيف: "طبعا تحتاج لخطة ولخطة دقيقة كمان"! من لقاءات عدة في كل حلقة نَدَر أن يتجرأ أحد ويسأل المذيع: "بتقول إيه؟".

في حين كان أصدقائي يضحكون وهم يشاهدون هذا البرنامج معتبرينه نوعاً من المتعة الخفيفة على المائدة الإعلامية الرمضانية، كنت أصاب بإحباط وخوف شديدين مع كل مرة يجيب فيها الضيف عن السؤال وتمر الحلقة دون أن يسأل أحد مقدم البرنامج "بتقول إيه"، فهذا الموقف –على عفويته الظاهرة- مخيف جداً لما يعكسه من حالة "الماسوشية، masochism" الفكرية الجمعية التي تسود مجتمعات العالم الإسلامي منذ قرون، بحيث أن السواد الأعظم من أفراد هذه المجتمعات يصدق بل يؤمن بأنه عاجز فكرياً وغير قادر على فهم كل شيء وأن العقل في أصله قاصر والمدارك في جوهرها محدودة كمّاً ونوعا، هذا ليس محض إيمان فحسب بل كثير من الناس يستعذب  هذه الحالة الازدرائية للذات بوصفها من آيات التسليم والخضوع لقوى يجب أن نستحضر دائماً عظمتها وجبروتها من خلال تحقير وتصغير عقولنا وأفكارنا، ولنا في من سبقونا عبرةً حيث كانوا كلما حققوا "إنجازاً" معيناً ذكّروا أنفسهم بأنهم "ضعفاء" و"أذلاء" و "ضئيلون".

يعزز من حالة "الماسوشية" إرث أيديلوجي مدعّم بواقع ممارساتي يُجذّر في الضمائر فكرة أن البلاء والنوائب والملمات بما فيها الفقر والجوع والكبت والحرمان والقهر... كلها من معالي الحِكَم واختبار العزائم والصبر والهمم، وهي من بعد من مجيزات الصراط من فوق جهنم إلى الفردوس الأعلى، فكل ما لا يُعرَف له سبباً أو يحار المرء في فهم علته أو "حكمته" فلا ينبغي السؤال عنه، وإن حدث فما من جواب سوى: "ما أوتينا من العلم إلا قليلا ونسلّم به تسليما".

إن التنشئة التي قوامها مفاهيم وقواعد من مثل: "تغليب النقل على العقل" وترجيح "المنقول على المعقول" و "عجز العقل وقصوره" و "محدودية الإدراك والمدارك"... سوف لن تنتج سوى أمة يسودها الشعور بالدونية والارتياب في إمكاناتها وقدراتها الفكرية والإبداعية الفردية، فترى أفرادها يعودون إلى "أهل الذكر" في زواجهم وطلاقهم وعملهم وديونهم وممارستهم لحقهم السياسي وحتى طريقة نومهم وأكلهم وتفسير أحلامهم! فإذا كان المرء ليس بوسعه اتخاذ قرار في أدق وأبسط شؤون حياته اليومية خشية الوقوع في محظور أو معصية، فأنى له أن يظن في نفسه المعرفة والمقدرة على التأمل والتفكير والتحليل والتأصيل لما هو أبعد من ذلك.

 

أدرك معظم من حكموا ويحكمون دول العالم الإسلامي هذه العلة فاستغلوها –وما يزالو- أيما استغلال، فما حيلة مواطن بسيط أمام حاكم أو رئيس وزراء أو وزير أو جماع إلائك؛ حين  يطلون عليه من خلال شاشة التلفاز بعد وصلة من الأغاني "المارشالية"، عفواً "الوطنية" ويشرعون في عملية إتخام جماعي للناس بجمل وعبارات وأرقام في الغالب هم أنفسهم لا يَعون كنهها، فتراهم يسوقون جملةً من المبررات لتفنيد عجزهم ووهن أدائهم والنكول عن وعودهم الإصلاحية الاقتصادية والسياسية والتعليمية، هذه المبررات هي ذاتها المشكلات والعقبات الناتجة عن سوء تخطيطهم وضعف أدائهم وربما فسادهم، لينتقلوا بعد ذلك لنشر الذعر والخوف مما تسببوا به ثم تبرؤوا منه، لينتهوا باستدرار العطفوطلب التحمّل وتوسل الدعاء والصلوات والدعم المعنوي؛ حيث أن الدعم المادي يؤخذ من الجيوب الخاوية دون استئذان.

 

إنها لعبة الدوامة التي تغرق المستهدف بها في موج متلاطم من المصطلحات والعبارات والسياقات السفسطائية الثقيلة مع عزف موازي على وتر العاطفة والاستعطاف وقرع مستمر في الخلفية لطبول "الخطر المحدق" و "مصلحة الوطن العليا".... ليجد المواطن العادي نفسه في متاهة بل في أزمة مفاهيمية لا يستطيع استيعاب تراكيبها وتلافيفها؛ ظانّاً  أن العلة فيه وليست فيها.

 

بالنسبة لفئة المثقفين و "النخب"، فإن قوانين منع أو مكافحة الإرهاب والمطبوعات والنشر وتنظيم الصحافة وغيرها من الأدوات والقنوات التي تؤدي جميعها إلى محاكم أمن الدولة أو المحاكم العسكرية ومن ثم إلى ما وراء القضبان؛ كفيلة بأن تغذي في أفرادها رقيباً ذاتياً سادياً أشد استبداداً من رقيب الدولةالمتسلط ليلجم كل لسان يهمّ بسؤال: "بتقول إيه"، وإن حدث الأسوأ وأفلت لسان الفطرة والمنطق من عقال الرقيب الذاتي  وسأل: "بتقول إيه" فتلك فرصة سانحة ليكون صاحبه أو صاحبته عبرة لمن يعتبر بل ولمن لا يعتبر "ويكون لمن خلفه آية"، والأمثلة بيننا ومن حولنا حية وعديدة ومتجددة.

 

عزيزي المواطن في أي رقعة من هذا الجزء البائس من العالم، أنت حر ودستورك يكفل لك الحق في التعبير وإبداء الرأي والسؤال، اسأل ما تشاء، اسأل عن مكافحة الفساد وتعزيز الشفافية والنزاهة والحاكمية الرشيدة، أين كنا وإلى ما صرنا وإلى أين نسير؟ اسأل عن جلوس ابنتك وابنك 10 سنوات أو ربما 20 سنة في البيت دون عمل بعد أن ابتلعت الجامعات تحويشة عمرك وعمرهم ليجدوا أنفسهم يعملون بالمياومة في مهن وحرف يمتهنها الأميون، اسأل عن مناصب وأماكن دراسة أبناء وبنات أكلة السحت ممن  ينظّرون عليك ويلومونك لأنك تريد أن تدخل أبناءك وبناتك الجامعات وتتمنى أن تراهم يعملون في مجال اختصاصهم، اسأل عن قوانين وأنظمة ولوائح وقرارات بها من العلل والعَوار ما يستوجب نشرها في صفحة الوفيات بدلاً من صفحات الجريدة الرسمية، اسأل عن عودة الترميز في الكتابة الأدبية والصحفية وقد دفنها غيرنا منذ عقود، اسأل عن وعود الإصلاح الاقتصادي وما يواكبها ويتلوها من ازدياد في العجز والدين والتضخم، اسأل عن التغني بالحريات واحترام الكرامة والحقوق وما يواكبه من اعتقالات وتهامات ومحاكمات ؟؟؟

 

اسأل عن هذا وذاك وعن كل ما يدور في خاطرك وإليك جواب "العارف بالله أبو العُرّيف الحاكم بأمره": "في الواقع إن الدولة تسعى لتعزيز كل سشعصفقسيوبدجي، وبطيعة الحال هذه مسألة تحتاج لزشفصقطعسة و شعثقطمصبهويزشحضزويص، وهذا يتطلب وقت وجهد، أليس كذلك؟؟؟"؟؟؟ "نعم هو كذلك وواضح جداً بتقول إيه".

أضف تعليقك