ببيض النمل
يشكل التنبؤ بمسار واقعة معينة أمرا معقدا بمقدار ما كان المسار جزءا من مسار تاريخي طويل ،وكان اطراف الواقعة عددا كبيرا ،وكان الجزء الاكبر من شارع هذا المسار غير مُضاء، ويطغى على شبكة المصالح التداخل المقصود وغير االمقصود، بل ويتباين اطراف الواقعة من حيث درجة العقلانية والمؤسسية في وضع بدائل القرار ثم في اختيار البديل الذي يبدو أنه الاصلح، فبعض الاطراف تشارك في صنع قراراته مؤسسات وافراد وقوى ضغط واحزاب، وبعضها ينفرد صانع القرار بكل تفاصيل المسار من ألفه الى يائه.
ان المواجهة الدائرة في غزة تشكل مركز الحدث، وحولها اقليم هو أعلى اقاليم العالم "عسكرة واستبدادا وعدم استقرار"، ثم تأتي الدائرة الدولية حيث غيلان المسرح التي لا يقل تشابك مصالحها عن درجة فوضى الاقليم، كل ذلك يستدعي تحديد الهدف لكل الاطراف الفاعلة في الميدان ثم مدى توفر الادوات لهذا الطرف لتحقيق اهدافه ،ليلي ذلك احتمالات اتساع او انحسار جغرافية الحدث. ولتصل الى ذلك ، لا بد أن تحسب الامور ببيض النمل كما قال لينين..، وحتى عند محاولة حساب ذلك ستكون كما قال الشاعر الصيني فانغ يينغ " أعمى يبحث في ليلٍ دامس عن قط اسود دخل الى كهف مظلم".
الأهداف:
1- تتشارك اسرائيل والولايات المتحدة ودول عربية في هدف مركزي هو اجتثاث المقاومة في غزة كمقدمة لاحباط المقاومة في الضفة الغربية، ونزع الموضوع الفلسطيني من التداول الدولي بشكل تدريجي ومن خلال استئجار دور جديد لسلطة التنسيق الامني في القطاع.
2- بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتراجع القوى اليسارية في العالم والمنطقة العربية، وبعد الفشل الذريع للتيار القومي في تجاربه كلها ، بقيت التيارات الاسلامية – وبخاصة حركة الاخوان المسلمين - هي الاكثر عافية ولو ان بعض الامراض تنهشها،لكن هذا الجسد- من منظور خصوم هذا التيار الديني- تم استثماره وانهاكه في جوانب باطنها خلاف ظاهرها، كما جرى في افغانستان وفيما سموه الربيع العربي ، وفي تأجيج الصراع داخل هذا التيار بخاصة بين الشيعة والسنة منعا لاحتمال انتزاع هذا التيار كراسي السلطة هنا وهناك ، لكن هذا التيار ينطوي في شرائحه على قوى مقاومة عقلانية وواعية وأقل انقيادا اعمى، وأدركت هذه الشرائح أن الضرورة تقتضي ان تتكاتف،فكان محور المقاومة، فكان التشكيك فيه ، ومحاولة زرع الفتن بين قياداته وانصاره..وشكلت ضربة "طوفان الاقصى" قبسا وهاجا رسخ ثقة جمهور هذا التيار ووسع قاعدته، فاليسار العربي والقوميون العرب بل وبعض الليبرالين والمسيحيين أغبطهم ما قامت به مقاومة غزة، فالى جانب الخسارة الاسرائيلية، فان الانظمة العربية والولايات المتحدة شعرت أن طوفان الاقصى سيعيد للحركات الاسلامية المقاومة ألقها ويرسخ اقدامها في الجغرافيا السياسية العربية بل والاسلامية، ومن هنا نفهم الخنق العربي لغزة والتعلل بذرائع أوهى " من بيت العنكبوت" في "تقطير الامدادات الطبية والغذائية والطاقة لغزة ، وكل ما نسمعه هو جعجعة ولا طحنا..وهنا التقت اهداف الانظمة العربية واهداف اسرائيل والولايات المتحدة ، فاسرائيل تقوم بالجريمة،والولايات المتحدة تمنع محاسبتها،والانظمة العربية تقف عند معبر رفح ولا تجتازه الا بالقدر الذي تقبله اسرائيل املا في فوز هذا الثالوث برأس المقاومة ولكل دوافعه واهدافه.
3- ان استمرار النزاع بوجهه الاجرامي الحالي ليس في مصلحة اسرائيل ولا الولايات المتحدة، وقدرة المقاومة على افشال المسعى الاسرائيلي سيجعل الفترة تطول للحرب الحالية ، وفي ذلك ارهاق للجيش الاسرائيلي ،وللاقتصاد الاسرائيلي، وللمجتمع الاسرائيلي، ولعل اعلان 28% من يهود اسرائيل –في استطلاع اسرائيلي اليوم- بالتفكير في مغادرة فلسطين مؤشر مقلق لصانع القرار الاسرائيلي، فاذا فشل الجيش في "هدفه المعلن باجتثاث حماس ،واستعادة الرهائن والاسرى" فانه يراهن على نفاذ الاحتياطي اللوجستي للمقاومة متكئا على الاقفال العربي والاسرائيلي المحكم عليها، وانتظار ان تنهار المقاومة داخليا ويشتد التذمر ضدها من المجتمع الغزي.ولكنه يدرك ايضا ان استمرار التزايد العددي لخسائره العسكرية ، واحتمال موت الاسرى، يشكل ضاغطا عليه.. وهنا تصبح المعادلة واضحة : من يصرخ أولا...
4- الخطورة الاكبر في كل الحسابات اتساع رقعة المواجهة من مستواها المحلي الى الاقليمي،ومن المؤكد ان اسرائيل والولايات المتحدة واوروبا وايران ليسوا راغبين في هذا الاحتمال، ومقباس ذلك هو الدعوات لوقف القتال، لكن ذلك يشير الى ان هذه الدعوة تنطوي على قدر من الفجوة بين امريكا التي بدأت تقر بضرورة " هدنة انسانية" شريطة ان لا تستفيد منها حماس، وبين اسرائيل التي لا تقبل حتى بهذه الهدنة، ويبدو ان الرهان الاسرائيلي هو أن ايران لن تتدخل تحت اي ظرف من الظروف، لكنها قد تقوم بدور "المايسترو" لهجمات مؤذية لاسرائيل من حزب الله ومن انصار الله ومن المقاومة العراقية، وقد تكون هذه الفجوة هي نقطة الخلاف بين امريكا واسرائيل، اما موقف الدول العربية فهو موقف "الملتحق " لا "المبادر ".
في ضوء كل ذلك يبدو:
أ- إذا كانت المقاومة في موقف صعب فان التصريحات الاسرائيلية تشير الى نزق اسرائيلي غير معتاد ويداري قدرا غير محتمل من اليأس ، إن الدعوة لضرب غزة بقنبلة نووية على لسان وزير اسرائيلي ، وإعلان وزير آخر بأنهم سيقتلوا " السنوار" وكاننا في صراع ثأري قبلي، ثم الضغط من اهالي الرهائن على نيتنياهو، والفيديوهات التي تبثها المقاومة عن تصيد جنودهم ، وتزايد الاضطراب في الضفة الغربية ، ناهيك عن تحولات تتكرر في مئات الصحف الاجنبية تشير الىقدر من التغير في النظرة لاسرائيل التي سعت لتكريس صورة الدولة الحضارية في الذهن العالمي والدولة الساعية للسلام ، وهو ما جعل ايهود اولمرت رئيس وزراء اسرائيل يقول ان نيتنياهو اخطر على اسرائيل من حماس.
ب- ان احتمال القبول بهدنة انسانية امر وارد، مع تشديد الرقابة على وجهة المساعدات والوقود ، وقد يجري تمديد تدريجي على الهدنة ضمن شروط الافراج عن الرهائن الاسرائيليين وعددهم كبير،وقد تطرح الولايات المتحدة او اسرائيل (او حتى بعض العرب ) فكرة مرابطة قوات دولية في شمال غزة لتشكل فاصلا بين المقاومة وبين مستوطنات غلاف غزة، ويتم التمديد تدريجيا لهذه القوات على غرار ما في هضبة الجولان وفي جنوب لبنان.
ت- ستعمل اسرائيل على محاولة جعل التفاوض الدولي (ياستثناء موضوع الرهائن) مع سلطة التنسيق الامني لتدعيم شرعيتها المتهالكة تماما، من خلال الاصرار على ان فتح المعابر يستوجب تواجدها في هذه المعابر، ونشر رجال امن التنسيق الامني، ومحاولة مراقبة مصروفات السلطة وحرمان المنتمين للمقاومة منها.
ث- قد تفلت الامور من بين اصابع الجميع، وقد تصبح الصواريخ عابرة الحدود هي لغة الحوار ، ولا يجوز استبعاد ذلك ،والوضع الآن هو 50% لهذا الاحتمال..واي مبادرة ذكية من احد الاطراف قد تلجم ذلك، واي حساب خاطئ او عن دهاء مبيت قد يرخي عقاله..
مرة اخرى، من يصرخ أولا، ومن يحسبها ببيض النمل..ومع كل هذا ربما.