بانسيون بيت لحم: قصة ألفة المكان وتوق الإنسان للحرية

الرابط المختصر

هي قصة تتعدى المكان ..وتتجاوز حقيقة؛ أنه الأول من نوعه والوحيد في الأردن ..يتموضع بهدوء على تلة وادعة في جبل الحسين ويطل على اللويبده ..يتبادلان طوال ساعات النهار الذكريات المعطرة بالماضي الذي تأبى أن تغيب..إنه “بانسيون بيت لحم “…

على تقاطع مدرسة الفرير العريقة وباتجاه وسط البلد تنظر يمينك تطالعك آرمه عتيقة رسم عليها بحروف واضحة وبسيطة أسم المكان ورقم هاتف ….
انتصر عليّ فضولي بعد أشهر عديدة لمطالعتي لهذه الآرمة وقررت أن أطلب الرقم ليرد علي صوت دافئ لسيدة قالت” أنه من المستغرب أن يرى البعض مشروعها الذي رأت فيه هي وأختها في عام 1976 سنة تأسيسه مصدراً للرزق ومكاناً للاستقرار غريباً”.
تكمن غرابة التجربة من ناحيتين، الأولى: بأن البانسيون كمشروع عائلي وهو - أن يقوم الشخص بتأجير غرف في بيته لمسافرين أو سياح - غير موجود في الأردن باستثناء هذا النزل، والناحية الأخرى: أن تفكر حنة الربضي مضيفتنا وأختها تريزا -التي رحلت إلى دار الحق قبل سنتين- في هذا المشروع واختيارهما المقامرة في مجتمع لم يكن بذات الانفتاح آنذاك .. وهو ما أكدته حنة بطريقة غير مباشرة في الإشارة إلى الصعوبات التي واجهنها بقوة واستطاعتا التغلب عليها بصعوبة ولكن بنجاح، ثماره أن النزل ما زال مستمراً حتى اليوم باستقطاب نزلائه وضيوفه وما زال يحافظ على نظافته ورونقه.
بوابة الحلم..مقابل دنانير
وقفنا على مدخل البانسيون على بداية درج يقودنا للأسفل ويشرف على حديقة منسقة بعناية تضم مختلف أنواع الزهور والأشجار يبدو بوضوح أنه يتعاقب عليها باستمرار فصول ربيع مثمرة …رغم جمال المنظر لم استطع إغفال لوحة إعلانية في خلفية المشهد تروج لرحلات إلى أمريكا يبرز فيها بوضوح تمثال الحرية ..ولم استطع كذلك إغفال الربط بأن النزل بات بوابة للحلم بالحرية للعديد من نزلائه الذين ينتظرون فيزا للسفر إلى أوروبا وأمريكا بعد هروبهم من نار الأوضاع المحزنة في العراق، في ظل غياب الأمن و الأمان فجاءت مجموعة من الفتيات كمن سبقوهن من شباب ورجال وعائلات للسكن هنا بانتظار بطاقة الحلم …
للأسف رفضت الفتيات الحديث معنا خوفاً من أن تكشف هوياتهن فالشك صار هو عنوان حياتهن اليومية…. الذي تخفف من حدته بعض الشيء أجواء الألفة التي تلف النزل وتربط صاحبته ونازليه برابط قوي رغم قصر فترات استضافتهم فيها مقابل دنانير بسيطة لا تتجاوز الثمانية يومياً إذا أردت غرفة منفصلة وإذا قبلت مشاركتها مع أحدهم فتتراوح الأجرة ما بين ثلاثة دنانير إلى خمسة يومياً…بعد أن كانت البداية بنصف دينار قبل عقود وهي حتى الآن غير شاملة الطعام …
ثمانين عاماً وحنة : حارسة المكان ووريثة الذكريات
النزل مكون صالة كبيرة وأربعة غرف ومطبخ كبير ومرافق صحية لم تصدمنا نظافة المكان وترتيبه بالواقع… ولكن أن تقوم حنا ذات الثمانين عاماً بالإشراف عليها هو ما لفت نظرن، من قدرتها على الاحتفاظ بهذه الحيوية رغم تلك السنوات قابلناها في الفناء الخارجي حيث تقوم بتعريض بعض مراتب التخت لشمس الظهيرة المنعشة ذلك النهار..
جلسنا بعد الترحيب بنا في الصالة التي تغمرها الألفة وتزين جدرانها صور ولوحات عديدة بعضها خطته ريشة تريزا الراحلة التي يبدو أن حنة ترفض هذا الرحيل بالحديث عنها باستمرار وعن أعمالها وذكرياتها وكأنها ورثتها هي الأخرى حتى باتت تملكها من فرط الحب وربما من فرط الشوق كيف لا” ونحن أختان اشتركنا بالسراء والضراء وبصنع هذا المكان”
لفت نظري صورة عائلية حميمية للملك الراحل حسين والأميرة منى يحتضنان بعفوية الأمير فيصل والتوأمان الأميرتان عائشة وزين مؤطرة برسومات على قماش حريري” كانت تريزا رسمتها بعد أن أحضرتها من وسط البلد نهاية السبعينات آنذاك” تتذكر حنة بحنين.
من همس الأطفال بدأت الفكرة
“استأجرنا البيت أنا وأختي ولم يكن بهذا الشكل قمنا بترميمه وتصليحه” تقول حنة ، كان البيت واسعاً على أختين قدمتا إلى العاصمة عمان بعد رحلة امتدت من عمر مبكر جداً عندما حملتهم أم من قرية رميمين في البلقاء إلى دير للراهبات في القدس انتقلن بعدها إلى بيت لحم –وهنا يظهر بعد الاسم - ثم قررتا العودة إلى مسقط رأسهما في البلقاء بداية الخمسينيات …تقول حنة ” لم نستطع التأقلم مع الحياة هناك في رميمين وقررنا الرحيل إلى عمان ..درست في معهد للسكرتاريا وعملت فيه بعد التخرج كمدرسة ثم بعدها تنقلت في عدة وظائف في شركات كبرى ومهمة إلى أن قررت أنا وأختي افتتاح مشروع خاص بنا”
“وقع الاختيار على استثمار البيت الواسع الذي استأجرناه وقررنا افتتاح حضانة إلا أن أعباء المشروع وطلبات الأهالي منعتنا من الاستمرار فالتعامل مع الأطفال أسهل بكثير من التعامل مع أهاليهم” تقول حنة ضاحكة.
“قررنا بعدها تحويل بيتنا إلى بانسيون وحصلنا على الموافقات الرسمية وما زالت تجدد لنا الرخصة حتى اليوم…وأسم النزل مدرج في السفارات والبعثات الدبلوماسية ويأتينا زوار من اليابان والصين وتايلند وارويا وأمريكا … أما البلدان العربية فتنحصر في العراق لبنان سوريا فلسطين ..”
السمعة الطيبة هي الأهم
تركز حنة على نوعية الزبائن بل أصبحت أكثر تشديداً من السابق كما تقول وتحاول أن يكون غالبية نزلائها من السيدات ” هيك المشاكل أقل مع كل اللي بنسمعه إرهاب وجريمة…..” تشرح حنا …فأنا ما زلت مستأجرة وأدفع لصحاب المكان 120 دينار شهريا مضاف إليها المصاريف وهو مصدر رزقي الوحيد وهو يقوم على السمعة الطيبة التي لم أخسرها ولا أنوي ذلك..رغم المنغصات التي مرت عليها نتيجة عدم راحة المحيطين لمثل هذا المشروع في السابق ، رغم اكتظاظ جبل الحسين وخاصة الشارع ذاته بالفنادق والشقق الفندقية.

حنة لم تندم على بدء المشروع “ولن أندم” تقول بتصميم ، و في ذلك رسالة لكل من يتوق للحرية والاستقلال بأن يبدأ أول خطوة وكل ما يلي ذلك هو في غاية السهولة ….

ما يميز المكان الدف والألفة بين سكانه بالإضافة إلى نظافته وترتيبه وإطلالته المميزة على عمان يطالعك فيها مبنى مجلس الأمة بمحاذاة مشروع وسط عمان الجديد بأبراجه الحديدية تحت التأسيس الذي يدفعك للتساؤل؛ هل سيصمد هذا النزل البسيط أمام كل ما تشهده عمان من طفرة عقارية وإنسانية بتنا متحفزين أمام نتائجها المجهولة.