باصات سياحية لعمان
ليست أزمة النقل والمواصلات في عمان بسبب اختلاف باصات النقل فيها من حيث الشكل واللون عن باصات لندن، ولم تأخذ باصات لندن طابعها السياحي وسمعتها وثقة الناس بها بسبب لونها وشكلها، وبالطبع فإن أحدا في عمان لا يدرك هذه المعلومة، وإذا كانت أمانة عمان تعتقد أنها بحاجة لاجتذاب الناس وتشجيعهم على استخدام باصات النقل العام بهذه الطريقة فتلك مصيبة، وإن كانت تظن أن فهم المواطنين ومستواهم الإدراكي للأزمة على هذا النحو فالمصيبة أعظم، وإذا مضينا في هذا المسار من التفكير والتساؤل فأتوقع أننا سنرجح قناعة محزنة ومؤسفة أن أزمة المواصلات في البلد سببها أزمة تفكير ورؤية المسؤولين للمواطنين وإدراكهم ومسؤوليتهم، ولا أعرف كيف تكونت قناعة في الأردن لدى فئة من الناس بأنهم وحدهم الذين "يفكون الخط" وأن المواطنين ليسوا شركاء ولا يملكون أهلية وأن الطبيعة منحتهم الوصاية على المواطنين.
وإذا صح هذا التخمين (وأرجو أن يكون مخطئا) فإن كل الدراسات والأفكار
والموازنات والمشروعات التي تقدم لحل الأزمة وجميع الأزمات لا فائدة منها
أو هي غير متجهة إلى موضعها الصحيح، وأن الحل يبدأ بتدخل علاجي وتأهيل
نفسي وطبي للمسؤولين والمستثمرين (شركاء السلطة التنفيذية) وتعليم أساسي
في معنى المواطنة والمشاركة والمنصب، وربما نحتاج إلى عرافين وشيوخ
ليقنعوا "المحظوظين" في بلدنا أنهم ليسوا المهدي المنتظر ولا المسيح
المخلص، وأن دمهم ليس أزرق، ويذكروهم بسيرتهم الذاتية القريبة جدا والتي
يعرفها جميع الناس في هذا البلد المتداخل ببعضه، وليس ثمة فائدة من وراء
كل الاقتراحات والمقالات والتحقيقات الصحافية والمساءلة في البرلمان
والرقابة الداخلية والتفتيش والمحاسبة ولا التخطيط والاستشارات حتى لو
قدمتها جامعة هارفارد إذا كان ذلك كله سيوضع بين يدي فئة من الناس غائبة
عن الوعي تعتقد أنها تعيش في كوكب آخر أو قادمة من كوكب متقدم لإنقاذ
المتخلفين والفاشلين من أمثالنا.
الأزمة بصراحة في الغربة الشديدة والجذرية بين فئة تدير الموارد والضرائب
وتملك القرار وتخطط وتفكر وبين دافعي الضرائب والمواطنين ممن "لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا" و"المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" الذين
لم تغير في حياتهم ومشاركتهم لا الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية
ولا الضرائب التي يدفعونها ولا الأرقام الوطنية التي يحملونها.
المواطنون يدفعون من قوتهم ومواردهم لأجل الاستخفاف بهم وتجاهلهم والضحك
عليهم، وينتخبون لأجل مزيد من المعاناة والنزف، ولا يجد الأوصياء حاجة
لتفسير ما يفعلونه بالضرائب والموارد العامة، وربما ينتظرون الإعجاب
والدهشة بالباصات الجميلة والمزركشة، وأخشى من القول إنهم يعتقدون أن هذا
ما ينقصهم وما يحتاجون إليه، وتتضافر الأدلة كل يوم على اعتقاد المسؤولين
بعدم حاجة المواطنين إلا إلى الفرح والابتسامة، حتى الحدائق العامة تجد
الأمانة أنها غير لازمة أو لا يستحقها المواطنون فتحولها إلى أبراج ومحلات
تجارية واستثمارات الله وحده يعلم من المستفيد منها.
المسألة بسيطة جدا وتحتاج إلى تجربة واحدة ينفذها معالي أمين عمان ودولة
رئيس الوزراء ومعالي الوزراء والمسؤولين أن يحاولوا التنقل في عمان ليوم
واحد بين المناطق وباستخدام المواصلات ويروا بأنفسهم كيف يسير أهم قطاع في
الخدمات وفي حياة المواطنين وكيف يدبرون أمورهم وماذا يحتاجون وماذا
ينقصهم، ولا بأس أيضا أن ينشطوا ذاكرتهم فالكثير منهم كانوا يوما يقفون في
الطوابير بانتظار باصات لا يعرف أحد متى تأتي وأنهم كانوا كما المواطنين
اليوم مايزالون بحاجة إلى مهارات في القفز والركض لا تقل عن قدرات الكنغر
للتعامل مع الأرصفة والشوارع التي صممت لغير البشر أو التي لا يعلم
مصمموها ومنفذوها أن الأمطار تسقط في فصل الشتاء وعندما تسقط تجري المياه
وأنها "المياه" عنيدة وغير متعاونة وترفض التصرف مثل الناس المروضين وتصر
على أن تتخذ لها مجاري وفق قوانين الطبيعة، وأن الشمس تسطع في فصل الصيف
وأن درجة الحرارة تتجاوز الأربعين،.. وأن أهم قطاع في حياة الناس يديره
ويتحكم به مجموعة من المتسربين من المدارس.











































