بائعات البسطات: فقر ورحلة عذاب.. لأجل حفنة قروش

الرابط المختصر

كيف
يمكن للحياة أن تحتمل بالنسبة لمرأة تشقى شظف العيش، وتكتوي زيادة على ذلك بلظى
التمييز الجائر. بائعات البسطات جزء لا يتجزأ من مشهد الأسواق الفقيرة،
نساء في الأغلب، بلغن من العمر
عتيا، يزاحمن المارة على الأرصفة، يفترشن بسطات لبيع: السجائر او بعض المنتجات
الزراعية والحيوانية كالبيض والاجبان والألبان والحليب او بعض الخضروات. وهن بذلك
يساهمن في العمل الانتاجي مرتين، وتستغل قوة عملهن مرتين، مرة عندما يعملن في
المنزل في رعاية افراد الاسرة، ومرة عندما ينزلن الى الاسواق بائعات.

لا يكفي ان تعمل المرأة في البيت في رعاية أسرتها وزوجها الذي يكون في
الغالب إما مريضا او معاقا او عاطلا عن العمل او متجبرا، فعليها ان تعتمد على
نفسها في إعالة الاسرة عن طريق عمل شاق، لا يكفي مردوده لسد رمق فرد فكيف بأسرة.

فقر.. وتمييز أيضا!

الحاجة ام حسن، ستينية، تفترش بسطة على احد ارصفة جبل الحسين، تبيع فيها
الملوخية المقطوفة، زوجها اقترن بامرأة اخرى، وتشارك بيتها مع 15 فرادا آخرين هم
عدد أفراد اسرتها، تقول عن "مهنتها" بحرقة: "غير نافعة لا مع
تاجر ولا مع صاحب بيت. أبيع الملوخية والبامية، ولدي بنات يساعدونني على حمل
الأغراض من مكان سكني في مخيم البقعة إلى جبل الحسين".

ام حسن، تسرد بتفصيل اكثر مشاق مهنتها، فتقول: "أبيع الملوخية بـ15
قرشا، وكل 100 كيلو بـ15 دينارا، نقطفها (من المزرعة) بـ4 دنانير، وإيجار السيارة بـ5
دنانير، توصلني من البقعة إلى الحسين، وأكياس تعبئة الملوخية تكلفني دينار ونصف،
وبعد هذا الدفع ماذا سأحصل؟ لا يبقى للعائلة إلا اربع دنانير ونصف لكل 300 كيلو
ملوخية".

ام حسن، قد تكون مثل الكثيرات غيرها، فهذه ظاهرة منتشرة في البيئات
الفقيرة، حيث الزوج عندما يصبو، فيتزوج أكثر من امرأة، مستندا الى قانون جائر بحق
النساء، او متعذرا بحجج ان زوجته الاولى لم تنجب سوى البنات، وينجب عشرات الاطفال،
ظنا منه ان رزقهم على الله، حتى لو لم يعمل.

فأم حسن وقد اقترن زوجها بامرأة ثانية وانجب 13 بنتا، وجدت نفسها مجبرة على
العمل، لسد حاجات اسرتها، عندما يبقى الزوج المستند الى رزق في السماء، متعطلا في
بيته، فتقول ام حسن: "عائلتي مكونة من 13 بنت، جوزي لا يعمل، التعب الذي
أتعبه لا يعلم به إلا الله عمري 60 سنة،اعمل من الصباح حتى آذان العشاء، يبدأ عملي
من الساعة التاسعة صباحاً".

وتضيف ام حسن، وقد بدت عليها آثار التعب ممزوجة بحزن متأصل في نفسها: "لدينا
اخوان زوجي متخلفين، وزوجي أصابع قدميه مقطوعة، ونحن في البيت 13 بنت لي ولضرتي. أعمل
منذ تسع سنوات بجبل الحسين، والمحلات تسمح لي بوضع بضاعتي".

"مهنة" لا تسمن ولا تغني

الحاجة ام محمد،
مصرية تركت أربعينيات العمر، وترك الزمن عليها آثار الكد المتواصل، أجبرت على
اختيار الرصيف مكانا لبسطة متواضعة تبيع عليها السجائر والقداحات وغيرها، بسبب
تعطل زوجها عن العمل او عدم كفاية دخله عندما يشتغل، فتقول: "في هذه
الأيام اكسب مكسب بسيط جدا لا يتعدى الدينارين والنصف، أحاول ان أعيش منها، فأجلب
الطعام لأولادي ، وزوجي يحاول ان يساعدني في ذلك فهو يبيع الشاي إلا انه لا يعمل
لان الأمانة (امانة العاصمة) منعته من العمل".

لا تخضع "مهنة" البيع على البسطات لأي قانون انساني على الاطلاق،
فهي وان بدت بسيطة، الا انها مهنة شاقة وظروفها غير انسانية على الاطلاق، فساعات
العمل طويلة تتجاوز الاثني عشرة ساعة في اليوم، ورحلة المرأة الى الرصيف رحلة صعبة
وشاقة، من البيت الى المرزعة، ثم الى الرصيف.

وعند ام محمد، بائعة الحليب، فهي مهنة لا تستحق التعب، ولكن ما العمل،
فتقول: "لدي 40 رأس ماعز، لا احد
يساعدني في عملي، عندي طفلة صغيرة تدرس يوميا، احصل على 5 دنانير يوميا، آتي كل
يوم من السلط لبيع الحليب أحسن من البلاش".

وتضيف متحدثة عن رحلتها اليومية الصعبة: "صار لي عشرين سنة، وأنا
أبيع الحليب، منذ كان أطفالي صغار السن. أنا معروفه، والكل يأتي لعندي والزبائن
على الدور، بعدما افرغ من البيع اركب سرفيس واذهب للعبدلي ومن ثم للسلط".

وتضيف: "بكون هون من الـ6 صباحا وانهي عملي على ال3 ظهرا، لكن
الزبائن يتوافدون لشراء الحليب من الثامنة صباحا،هذه التنكة الكبيرة بتعب من
حملها، لكني افعل ذلك، من اجل أطفالي، أنا الوحيدة التي اصرف على البيت، لأني زوجي
رجل كبير في السن، وأولادي لهم حياتهم
المستقلة، أنا اصرف على زوجي المسن وعلى بناتي الاثنتين وولدي الصغير، أنا قادرة
على تلبية احتياجاتهم".

وبالنسبة لام حسن فهي مهنة لا يعول عليها كثيرا، وتقول: "زوجي مريض
لا يستطيع العمل، لا يوجد معيل لنا نحن 13 شخصا يعتاشون على 4 دنانير من هذه
البسطة، لا يكفينا خبز يومنا. أعمل ثلاثين كيس ملوخية او أربعين، ونحن في البيت 16
نفر، خبز بدينارين لا يكفينا في اليوم"
.

الحاجة ام كاظم،
عراقية، تقول: "أبيع الدخان وصبغات الشعر وولاعات وأمور أخرى متعددة وهذه
الأمور تجلب لي ما بين الأربع والثلاث ليرات ولا تكفي هذه النقود لمصروفنا اليومي
لقد جلبنا من العراق بعض النقود التي نحاول ان نعمل بها اليوم من خلال شراء
البضائع وبيعها".

أمانة عمان تطاردهن

تقضي بائعات البسطات كل نهارهن، إما تحت وهج الشمس الحارقة في ايام الصيف،
او تحت رحمة البرد والمطر والثلوج في الشتاء، وعليهن ان يتحملن كل امزجة الزبائن
المتقلبة والمتطلبة والمساومات التي لا تنتهي، واحيانا كثيرة التعرض للسخرية او
التحرش اللفظي، وبخاصة اذا كانت امرأة وافدة. وزيادة على ذلك ملاحقة الشرطة لهن،
او موظفي الامانة، بحجة المحافظة على الارصفة نظيفة، او عدم اعاقة سير المشاة
عليها، او ارضاء للتجار اللذين يسوءهم البيع على البسطات بسبب المنافسة.

تقول ام حسن: "أعمل تحت الشمس، والأمانة تصادر بضاعتنا، شحدة ما
بدنا نشحد، بيع ما بدهم يانا نبيع وين نروح، لا أوسخ مكاني، ولا أريد الحديث معهم
يريدون أن يوصلوني للشرطة، وعندها يأخذوا بضاعتي ويذهبون، وأنا أذهب إلى
بيتي".

وتطلق ام محمد زفرة طويلة، وتردف بحزن متسائلة: "ماذا أفعل؟ تأتي الشرطة أحيانا وتمنعنا
من العمل، فأجمع إغراضي وأعود إلى منزلي ثم أعود مرة أخرى في المساء".

اما ام مصطفى فتقول
عن معاناتها مع موظفي الأمانة: "تأتي الأمانة أحيانا، وتطلب منا ان تغادر،
فنعمل على جمع إغراضنا، ونعود إلى منازلنا، وأحيانا تأخذ الأمانة ما لدينا، وعندما
لا تكون الأمانة موجودة نستمر في العمل إلى ما بعد العشاء، وهو عمل شاق جدا ولكن
تعودنا على هذا الوضع".

إذا كان على امانة عمان مراعاة تجار المحال الكبيرة، او الحرص على نظافة
شوارع عمان، فان النظرة الى الانسان اهم كثيرا من دورة الاقتصاد، فهو في الاول
والاخير موجه للانسان، ونظافة الشوارع ليست هدفا بحد ذاته بقدر ما هي وسيلة لحماية
الانسان. ولكن نظرة الامانة القاصرة عن رؤية الجوهر الانساني جعلها تستسهل مطاردة
بائعي البسطات بدلا من ايجاد حل حقيقي يساعد هؤلاء النسوة على العمل الشريف في
ظروف افضل وتجنيبهن شر السؤال. فهل الامانة معنية مثلا بايجاد اكشاك مخصصة لهن
بدلا من منحها لنقابات فاضت خزائنها بالمال، كنقابة الصحفيين، او شركات كبرى لن
يؤثر عليها كثيرا ان هي لم تمتلك كشكا في هذه المنطقة او تلك، بل قد تنهي حياة اسر
كاملة تعتاش من البسطات ان منعت الأمانة هؤلاء البائعات من حقهن في الحصول على
ظروف عمل افضل.

السوق
معلم

إذا كان على بائعات البسطات، اختيار هذه المهنة الشاقة بسبب قسوة ظروف
العيش او بسبب تجبر الزوج، واذا كانت قوة عملهن تستغل في الاعمال المنزلية، فهن
عرضة لاستغلال التجار ايضا، ولكن هذا الاستغلال اكسبهن قدرة على تعلم بعض مفاهيم
السوق، وتاليا تخفيف وقع الاستغلال من التجار، على الاقل. تقول ام حسن، بائعة
الملوخية: "إذا أعطيت التجار يبيعون بضاعتي، فعندها ماذا سأحصل من الأربع
دنانير التي أحصل عليها يومياً، يوما بإعطائهم بضاعتي، ولم يكف المردود، لأنهم يريدون
أيضاً مالاً، ولا يكفيني دينارين ونصف".

وتقول ام محمد، بائعة الحليب: "إذا بعت لتاجر سيأخذ مني الكيلو بـ15
قرشا، لكن أنا أبيعه بـ 25 قرشا، وهذا استغلال وخسارة لي".

ام حسن، تدرك تماما عملية الاستغلال فتقول: "لا ابيع للتجار لانها
ما بتزبط معي، يعني كل الارباح ستذهب للتجار، عملتها مرة زمان وما وفت معي".

عنف الحرب وشظف الحياة

إذا كانت ظاهرة بائعات البسطات في الاردن ليست جديدة وشكلت على الدوام جزءا
من مشهد الاسواق في الاحياء الفقيرة، فان جديدها هو زيادة عدد البائعات على
البسطات وانتشارهن في اماكن كثيرة، بما في ذلك المناطق "الاوفر حظا"،
بحسب المصطلحات المحببة للحكومة. وتعود اسباب هذه الزيادة الى تغول الفقر الناجم
عن السياسيات الاقتصادية للحكومات المتعاقبة، ما ادى الى ارتفاع نسبة الفقر في
البلاد. كما تعود الى زيادة عدد العمال الوافدين الهاربين من شظف العيش في بلادهم
كمصر، او من الفقر وويلات الحروب كما هي الحال مع العراقيين.

الحاجة أم علي، بائعة سجائر هربت من العراق بسبب الحرب والفقر، تقول: "ماكو،
الوضع سيء".

وتضيف: "أتيت إلى الأردن لظروف الحرب والقصف والخوف هو الذي دافعنا
للقدوم إلى الأردن خوفا من القتل والذبح اليومي في العراق والحالة في العراق
" زي الزفت "، ليس باليد حيلة " غصبن عني " ما يجبرك على المر
سوى الامر منو".

أما أم احمد فتقول: "أبيع لأني أريد ان أعيش بدي أكل، وانا من
العراق وتتقي من حم الشمس بوضع الكرتونة تقيها حرارة الشمس الحارقة في الصيف ولا
احصل في اليوم غير ربع دينار وانا امرأة حرمة فقيرة لا املك أي شيء دينار ما اطلع ما يشبعنا وادفع
حقها من بيعي لبضاعة ".

وام كاظم تقول: "جئنا
انا وزوجي من العراق وكان زوجي يعمل ويساعدني حتى جاءت الأمانة ومنعته من العمل
هنا".

وام محمد ايضا،
مصرية الجنسية، اتت الى الاردن هربا من الفقر المدقع الذي كانت تعيش فيه مع
عائلتها في مصر، ولكنها لم تجد في الاردن ما كانت تحلم به من بحبوحة في العيش وقد
اجبرت على العمل على الرصيف لمساعدة زوجها بائع الشاي الذي تطارده الامانة فيجد
نفسه ايام كثيرة غير قادر على العمل، وعلى ام محمد يقع عبء العمل وتسول رحمة
الشرطة وموظفي الامانة للسماح لها في الجلوس على البسطة.

على أي حال، قد لا
تكون النساء بائعات البسطات وحدهن عرضة للاضطهاد، ففي حالة الفقر تستوي المشقة
ليتوزعها الرجل والمرأة، ولكن على النساء وحدهن تحمل عبء الاضطهاد مرتين. مرة في
البيت من الزوج الذي لن يستوعب انها تعمل كما هو، وعليهن وحدهن عبء العمل في تربية
الاطفال ورعايتهم، فالرجل لم يخلق لهذا فهو بامكانه عند نهاية يوم عمله اذا كان
عاملا ان يشاهد "المونديال" او يذهب الى المقهى ام ان يمدد جسده منتظرا
خدمات الزوجة المرهقة.

والمرأة هنا مضطهدة
مرة اخرى حين تخرج الى العمل وتتحمل قسوة الظروف واستغلال التجار وملاحقة الامانة
والشرطة وتحرش الزبائن والمارة واصحاب المحال التجارية وقائمة من اشكال العنف
والتمييز لا تتطلب الكتابة والتعاطف بقدر ما تحتاج الى مساهمة جادة من المؤسسات
الرسمية والاهلية لتحسين ظروف هذا القطاع "المنسي" من النساء العاملات.

أضف تعليقك