الواقعية الرأسمالية: ألا يوجد بديل؟

الواقعية الرأسمالية: ألا يوجد بديل؟
الرابط المختصر

 

صدر في بريطانيا عام 2010 كتاب يحاول تشخيص حالة الركود الفكري والثقافي للرأسمالية مع بدايات القرن الحادي والعشرين، في وقت تبدو فيه الأحزاب السياسية اليسارية أو الحركات الثقافية الحالية عاجزة عن تقديم بدائل أو طرح مقاومة أصيلة.

 

يخلص مارك فيشر في كتابه (الواقعية الرأسمالية: ألا يوجد بديل؟) والصادر عن دار زيرو البريطانية، إلى مقترحات لطرق وأساليب جديدة لإدراك السياسات اليسارية ودور المثقفين في نشرها.

 

يحمل الفصل الأول من الكتاب عنوان" من السهل تصور نهاية العالم على تصور نهاية الرأسمالية" وهي عبارة منسوبة إلى فريدريك جيمسون وسلافوي جيجيك. تلتقط  هذه العبارة  بدقة ما يقصده بمفهوم الواقعية الرأسمالية(capitalist realism):" الإدراك العام بأن الرأسمالية ليست فقط النظام السياسي والاقتصادي الوحيد القابل للحياة، ولكن أيضاً يستحيل أن نتخيل اليوم بديلاً متماسكاً".

 

تًستمد قوة الواقعية الرأسمالية جزئياً من الطريقة التي تستوعب بها الرأسمالية وتستهلك كل التاريخ السابق، ذلك أن واحداً من تأثيرات نظام التكافؤ system of equivalence الرأسمالي أنه يمكنه منح قيمة نقدية لأي كائن ثقافي، سواء كان ديناً، أو مواد إباحية، أو رأس مال. إن جولة في المتحف البريطاني تمكننا من رؤية الأشياء وهي تنتزع من عالمها الحي وتجمع كما لو أنها على متن مركبة فضائية ضارية وهذا سيُكّون لدينا فكرة عما يجري بالفعل: ففي عملية تحويل الممارسات والطقوس إلى كائنات جمالية فحسب، يُسخر من الثقافات السابقة وتتحول معتقداتها إلى تحف فنية. وتبعا لذلك فإن واقعية الرأسمالية الواقعية ليست نوعا معينا من الواقعية، بل أنها أشد شبهاً بالواقعية في حد ذاتها. وهذا يتوافق مع ملاحظة ماركس وإنجلز في البيان الشيوعي:" لقد أغرقت [الرأسمالية ] الرعشة القدسية للورع الديني، والحماسة الفروسية، وعاطفة البرجوازية الصغيرة، في أغراضها الأنانية المجرَّدة من العاطفة، وحولت الكرامة الشخصية إلى قيمة تبادلية، وأحلّت حرية التجارة الغاشمة وحدها، محل الحريات المُـثـبَتة والمكتسبَة التي لا تحصى. وبكلمة أحلّت استغلالا مباحا وقحا مباشرا وشرسا، محل الاستغلال المُغلَّف بأوهام دينية. فالبرجوازية جرّدت كل الفعاليات، التي كان يُنظر إليها حتى ذلك الحين بمنظار الهيبة والخشوع، من هالتها. فحوّلت الطبيب ورجل القانون والكاهن والشاعر والعالم، إلى أجراء في خدمتها".

 

إن هذا التحول من الإيمان إلى الجماليات، من المشاركة إلى التفرج، قد عُقد ليكون واحد من فضائل الواقعية الرأسمالية. وبزعمها ـ كما يقول باديوـ أنها قد حررتنا من (التجريد الفادح) المستوحى من (إيديولوجيات الماضي) فإن الواقعية الرأسمالية تطرح نفسها بوصفها درعا يحمينا من الأخطار التي يطرحها الاعتقاد نفسه.

 

ومن المفترض أن موقف (المسافة الساخرة) ما بعد الحداثي هو لتحصيننا ضد فتن التعصب. فقد قيل لنا ـ في محاولة لخفض توقعاتنا ـ أن ثمنا صغيرا لابد من دفعة لحمايتنا من الإرهاب والشمولية. ولكننا كما لاحظ باديو (نعيش في تناقض):دولة وحشية غير عادلة بشكل كبير ـ حيث يتم تقييم كل الموجودات بالمال وحده – ولكنها تقدم لنا بوصفها مثالية. ولتبرير محافظتهم، فإن أنصار النظام القائم لا يدعون فعليا أن دولهم مثالية رائعة، ولكنهم قرروا القول ـ بدلا من ذلك ـ أن كل ما عدا هذه الدول رهيب وشرير. فمثلا تراهم يقولون: نحن قد لا نعيش في حالة الخير الكامل، ولكننا محظوظون أننا لا نعيش في حالة من الشر. ديمقراطيتنا ليست كاملة، لكنها أفضل من الدكتاتوريات الدموية. والرأسمالية ظالمة، ولكنها ليست مجرمة مثل الستالينية. وفي حين أننا تركنا الملايين من الأفارقة يموتون بالإيدز، ولكننا لم ننشر إعلانات قومية عنصرية مثل ميلوسيفيتش. وفي الوقت الذي نقتل فيه العراقيين بطائراتنا، لا نقطع حناجرهم بالسواطير كما يفعلون في رواندا، الخ. وهنا نجد أن (الواقعية) مماثلة لنظرة المكتئب الانكماشية الذي يعتقد أن أي دولة إيجابية وأي أمل هو وهم خطير.

 

ومن المثير للإعجاب ـ في رأي فيشر ـ هو تناول ماركس ودولوز وغواتاري للرأسمالية بوصفها احتمالية مظلمة لازمت جميع النظم الاجتماعية السابقة. رأس المال ـ كما يقولون ـ هو (الشيء غير المسمى) والبغيض الذي تجنبته المجتمعات الإقطاعية والبدائية فعلاً، ولكنه عندما وصل، نزعت الرأسمالية القداسة عن الثقافة باسم رأس المال. إنه النظام الذي لم يعد يحكمه أي قانون متعال، بل على العكس، إنه يفكك كل هذه الرموز فقط لإعادة تثبيتها على نحو مخصص عند الحاجة. إن حدود الرأسمالية ليست ثابتة عند صيغة معينة ولكنها تحدد (ويعاد تحديدها) براغماتيا وتحسينياً على نحو مستمر.

 

رأس المال ـ كما يقول دولوز وغواتاري ـ هو رسم مبهرج متعدد الأشكال والألوان أكثر من أي وقت مضى. إنه هجين غريب من تقاليد الحداثة الفائقة وتلك التي عفا عليها الزمن. وفي السنوات التي تلت كتابة دولوز وغواتاري لكتابهما (الرأسمالية والفصام) بدا الأمر كما لو أن نبضات نزع الحدود deterritorializing للرأسمالية قد اقتصر على التمويل، فيما تركت الثقافة وحدها خاضعة لقوى إعادة الحدود reterritorialization. هذا الشعور بالضيق والشعور بأن لا شيء جديد يلوح بالأفق هو في حد ذاته (لا شيء جديد). ولذلك نجد أنفسنا في(نهاية التاريخ) سيئة السمعة التي هلل لها فرانسيس فوكوياما بعد سقوط جدار برلين. لم تنتشر أطروحة فوكوياما التي تدعي بأن التاريخ قد بلغ ذروته مع الرأسمالية الليبرالية على نطاق واسع فحسب، ولكنها قبلت بل وافترضت على مستوى اللاوعي الثقافي أيضاً. ويذكر فيشر أنه حتى عندما طرح فوكوياما فكرته أن التاريخ قد وصلت إلى شاطئه النهائي، لم تكن فكرة متغطرسة أو ازدائية.

 

لقد حذر فوكوياما أن مدينته المشرقة ستكون مسكونة بالأشباح ولكنه يعتقد أن أشباحها نيتشويون وليسو ماركسيين. إن بعضاً من صفحات نيتشة الأكثر تبصراً هي تلك التي يصف فيها التشبع الزائد للعصر بالتاريخ. الأمر الذي سيقود العصر إلى مزاج خطير من السخرية من نفسه ـ كما كتب في (ترنيمة للحياة) ـ وبالتالي إلى صيغة من الكلبية أكثر خطورة، تستبدل فيها المشاركة والاندماج بلمسة كوزموبوليتانية. وهكذا يصبح من السهل تصور نهاية العالم: حالة رجل نيتشه الأخير، الذي شهد كل شيء، ولكنه ضعيف بسب الوعي الزائد بالذات على وجه التحديد. لا يختلف موقف فوكوياما عن موقف فريدريك جيمسون، الذي ادعى أن ما بعد الحداثة هي المنطق الثقافي للرأسمالية المتأخرة. وقال أن فشل المستقبل كان جوهرياً في المشهد الثقافي ما بعد الحداثي. وقد تنبأ بدقة أن هذا المشهد سوف تهيمن عليه المعارضة أدبية(pastiche) والإحياء (revivalism) ـ بدلاً من الأصالة والابتكار.

 

وبالنظر إلى أن جيمسون قد قدم سببا مقنعا للعلاقة بين ما بعد الحداثة الثقافية وميول معينة في الرأسمالية الاستهلاكية (أو ما بعد الفوردية)، فمن الممكن أن يبدو أنه ليست هناك حاجة لمفهوم الواقعية الرأسمالية على الإطلاق. يقول فيشر ـ إن الأمر قد يبدو صحيحاً إذ أن ما أطلق عليه (الواقعية الرأسمالية) يمكن أن تندرج تحت عنوان ما بعد الحداثة حسب تنظير جيمسون لها. لكن على الرغم من عمل جيمسون البطولي، إلا أن مصطلح ما بعد الحداثة بقي خلافي بشكل كبير وظلت معانيه غير مستقرة ومتعددة. والأهم من ذلك ـ يقول فيشر ـ أن بعض العمليات التي وصفها تحليل جيمسون تفاقمت الآن وأصبحت مزمنة لدرجة أنها قد تغيرت كماً ونوعاً. لذلك يرى فيشر أن توظيف مصطلح (الواقعية الرأسمالية) أكثر ملائمة من مصطلح ما بعد الحداثة في توصيف المرحلة الحالية ويعزو الأمر إلى ثلاثة أساب:

أولاً: في الثمانينيات من القرن الماضي وفي الوقت الذي طرح فيه فريدريك جيمسون أطروحته عن ما بعد الحداثية كان هناك بديلا سياسيا للرأسمالية ـ حتى وان كان اسميا أو غير فاعل بما فيه الكفاية. أما في الوقت الحالي فإن ما نتعامل معه هو إحساس أعمق واشمل من الإعياء والعقم الثقافي والسياسي.

وثانياً: أن ما بعد الحداثة تتضمن علاقة من نوع ما بالحداثة. فقد بدأ جيمسون العمل على استجواب الفكرة التي تقول بأن الحداثة تمتلك إمكانات ثورية بحكم ابتكاراتها الشكلية وحدها ـ وهو رأي أدورنو على سبيل المثال. ولكن ما حدث ـ وفقا لجيمسون ـ هو إدماج الموتيفات الحداثية في الثقافة الشعبية (فمثلا ظهرت تقنيات السريالية في الإعلانات التجارية). في الوقت نفسه فقد تم استيعاب وتسليع أشكال حداثية خاصة. والنتيجة أن عقائد الحداثة الأساسية التي تقوم على الإيمان بالنخبوية والنموذج الثقافي المونولوجي من الأعلى إلى الأسفل قد واجهت تحدياً ثم رفضاً باسم التعديدية والاختلاف والتنوع. ولكن الأمر يختلف تماما في الوقت الراهن ذلك أن الواقعية الرأسمالية قد اعتبرت أن هزيمة الحداثة أمراً مفروغاً منه. وقد تعاود الحداثة الظهور من وقت لأخر ولكنها تظهر فقط بوصفها نمطاً جماليا جامداً وليس طريقة حياة على الإطلاق.

وثالثاً: لقد مر جيل كامل منذ انهيار جدار برلين. ففي الستينيات والسبعينيات، كانت مشكلة الرأسمالية هي كيفية احتواء واستيعاب الطاقات من الخارج. ولكنها الآن تواجه مشكلة مناقضة تماما وهي: كيف يمكنها أن تعمل دون خارج مغاير تحتوية وتصلحه وتدجنه ؟ وبالنسبة لمعظم الشباب تحت سن العشرين في أوروبا فإن عدم وجود بدائل للرأسمالية لم تعد حتى قضية تستحق النقاش. فقد احتلت الرأسمالية بسلاسة كل أفق ممكن تصوره. وقد اعتاد جيمسون أن يسجل برعب بالغ الأساليب التي تسربت بها الرأسمالية إلى اللاوعي. والآن فإن حقيقة أن الرأسمالية قد استعمرت حتى أحلام البشر أضحت أمرا مفروغا منه ولا يستحق التعليق. ومن الخطورة والتضليل تخيل أن الماضي القريب كان حالة تشبه نعيم ما قبل الهبوط من الجنة من ناحية انه يعج بالإمكانيات السياسية، إذ علينا دائماً تذكر الدور الذي لعبته عملية التسليع في إنتاج الثقافة طوال القرن العشرين.

 

إلا أن النضال القديم بين التحول أو الانقلاب (detournement)  واستعادة المفقود (recuperation) وبين التخريب والتأسيس يبدو أنه قد استنفذ تماماً. وما نقوم به الآن ليس إدماج incorporation المواد التي بدت سابقا ذات قدرات تخريبية محتملة، ولكننا وبدلا من ذلك ـ نتعامل مع حالات ما قبل الإدماج (precorporation):التنسيق الاستباقي وتشكيل الرغبات والتطلعات والآمال بواسطة الثقافة الرأسمالية. والشاهد، على سبيل المثال، هو إنشاء مناطق ثقافية (بديلة) أو (مستقلة) مستقرة تكرر إلى ما لا نهاية لمحات التمرد والاحتجاج القديمة كما لو أنها تقدم للمرة الأولى. أن تلك الثقافات (البديلة) و(المستقلة) لا تعين شيئاً خارج الثقافة السائدة، وإنما هي أنماط، بل أنها في الواقع أنماط سائدة داخل التيار الرأسمالي نفسه.

 

لقد كان معنى أن تكون واقعياً هو أن تتصالح مع الواقع المختبر بوصفه صلباً غير منقول ولكن الواقعية الرأسمالية تهدف إلى إخضاعنا ـ مثل أجزاء قابلة للاستبدال في آله كونية ـ الواقعيه لدنة بلا حدود، قادرة على إعادة تشكيل نفسها في أيه لحظة.  وأصبحنا في مواجهة ما أطلق عليه جيمسون يوماً: الحاضر القابل للاستبدال (fungible present) الذي يكون فيه المكان والنفوس قابلة لإعادة التشكيل والتغير حسب الرغبة". وأصبح الواقع هو خيارات متعددة توفرها الوثائق الرقمية ـ التي تتميز بسهولة استعادتها وعرضها ـ وهكذا يمكننا استدعاء اللحظة السابقة في أي وقت حيث لا قرار نهائي وكل الأمور قابلة للمراجعة والتغير بفضل الاحتفاء بالتعددية: تعددية الحقيقة.

 

والمفارقة التي يجب أن ننطلق منها ـ يقول دولوز ـ هو التكافؤ بين معدلات التغير على كافة مستويات الحياة الاجتماعية والمعيارية في كل شيء ـ المشاعر مع البضائع الاستهلاكية، اللغة مع الفضاء المبني ـ الذي يبدو أنه لا يتوافق مع تلك التحولية. وما يتضح للعقل بعد ذلك هو إدراك انه لم يكن هناك أي مجتمع معياري بقدر هذا المجتمع وان تيارات الزمانية البشرية والتاريخية والاجتماعية لم تتدفق بمثل هذا التجانس من قبل... إن ما نشعر به الآن ـ تبعاً لذلك ـ وما يبدو للعيان بوصفه القوام الأكثر عمقا وجوهرية لما بعد الحداثةـ على الأقل فيما يتعلق ببعدها الزمني ـــ هو انه في حين إن كل شيء يخضع للتغير في الأزياء وصور الإعلام , إلا أن لا شيء يمكنه أن يتغير على الإطلاق.

 

ولا شك أن ذلك يعد مثالا على الصراع بين نزع الحدود وإعادة التحديد الذي قال عنه دولوز وغواتاري بأنه قوام الرأسمالية. ولن يكون مفاجئا إذا أن يًسفر عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي عن التوق الشديد إلى الأشكال الثقافية المألوفة، التي نعود إليها بنفس الطريقة التي عاد فيها بورن إلى أعماقه.

 

وإذا كان دولوز وغواتاري قد جادلا بأن الفصام هو الحالة التي تميز الحواف الخارجية للرأسمالية، فإن الاضطراب ثنائي القطبية هو المرض العقلي المناسب للرأسمالية. إن دورات الجنون والاكتئاب المتعاقبة التي تميز المرض هي سمات الرأسمالية نفسها التي تترنح بين دورية الهوس (الممثل في الوفرة الطائشة) والاكتئاب (الممثل في الكساد الاقتصادي). ويلاحظ فيشر أن الرأسمالية ـ وبدرجة غير مسبوقة في أي نظام اجتماعي ـ تتغذي على أمزجة الجموع ثم تعيد إنتاجها. ويخلص فيشر إلى أن رأس المال لا يمكن أن يعمل خارج دائرة الهذيان والثقة.

 

وهكذا، يؤكد مارك فيشر إرهاق العالم واندفاعه إلى الحضيض. هذا العالم الذي ليس مصطنعاً فحسب، بل هو في حد ذاته قوة منتجة للتصنع الذي يؤكد تواطؤه السلبي ضمن المرحلة النهائية التي لا تبشر بنتيجة نهائية يمكن توقعها، وفي الوقت ذاته لا توفر منفذا إلى مستقبل يوتوبي بوصفه أسطورة نائية: ولكنها تنذر فقط بالانهيار النهائي إلى عالم الرجل الأخير الذي لا يتأثر ولا يحاول أن يفعل شيئًا نتيجة القوى الارتكاسية التي سيطر عليه ليردد بحق مع رجل نيتشه الأخير: (لقد اخترعت السعادة) فيما هو يستمع بذعر إلى إيقاع الآلة العملاقة الروبوتية للواقعية الرأسمالية.

 

تتألف الايدولوجيا الرأسمالية على وجه العموم ـ يقول جيجيك ـ على أساس المبالغة في الاعتقاد، بمعنى الموقف الداخلي الذاتي. ونحن نعرض ونُخًرج سلوكياتنا على حساب المعتقدات. إذ طالما أننا نعتقد (في قلوبنا) أن الرأسمالية سيئة، فإننا أحرار في مواصلة الانخراط في التبادلات الرأسمالية. ووفقا لزيزك أيضاً ـ الرأسمالية تعتمد على هذا التركيب الإنكاري. فنحن نعتقد أن المال ليس سوى رمز تافه بلا قيمة ذاتية، ولكننا نتصرف كما لو أنه ذي قيمة مقدسة. ويعتمد هذا السلوك على وجه التحديد على الإنكار المسبق، فنحن قادرون على التولع بالمال في تصرفاتنا فقط بسبب أننا قد اتخذنا بالفعل (مسافة ساخرة) من المال في رؤوسنا.

 

وإذا كانت الواقعية الرأسمالية بهذه السلاسة، وكانت أشكال المقاومة الحالية ميئوس منها وعاجزة حتى، فمن أين سيأتي التحدي ؟ إن النقد الأخلاقي للرأسمالية الذي يًركز على الطرق التي تتسبب بها في المعاناة يعزز فقط الواقعية الرأسمالية. إذ يمكن عرض الفقر والمجاعة والحرب بوصفها جزءاً لا مفر منه من الواقع، في حين أن الأمل في أن هذه الأشكال من المعاناة يمكن القضاء عليها قد جرى تصويره بسهولة بوصفه طوباوية ساذجة.

 

ولكن يمكن تهديد الرأسمالية الواقعية فقط إذا ما أثبتنا أنها غير متناسقة أو لا يمكن الدفاع عنها، بمعنى، أن (الواقعية) المزعومة للرأسمالية لا تعني شيئاً من هذا القبيل. وغني عن القول، أن ما يعد (واقعياً) وما يبدو ممكنا في أي نقطة في الحقل الاجتماعي يًحدد من خلال سلسلة من القرارات والحتميات السياسية. ولا يمكن لموقف أيديولوجي أن يكون ناجحا حقا حتى يتم تطبيعه، ولا يمكن تطبيعه بينما لا زلنا نعتقد أنه قيمة بدلا من حقيقة.

 

يبدو فيشر متفائلا بشأن التغير ويختتم كتابه بعبارة شاعرية تؤكد هذا المنطق حين يقول:" لا بد من اغتنام الفرصة الهائلة التي وفرها الليل المظلم الطويل لنهاية التاريخ. إن قمعية الواقعية الرأسمالية الواسعة الانتشار تعني بصيصاُ من أمل في احتمالات اقتصادية وسياسية بديلة يمكن أن تؤدي إلى نتائج عظيمة غير متوقعة. كما أن أحداثاً صغيرة من الممكن أن تحدث ثغرة في ستار رد الفعل الرمادي الذي وسم آفاق الممكن في عهد الواقعية الرأسمالية. ومن الوضع الذي يقول بأنه لا يمكن أن يحدث أي شيء، فإن كل شيء قد يكون ممكناً مرة أخرى وبصورة مفاجئة".

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك