المونديال في الصحافة المحلية: مهنية في التغطية ولكن!

الرابط المختصر

يصف صحافي جزائري صحف بلاده بالمقابر، وهو يشير بذلك، الى
تسيد أخبار الإرهاب والقتل على سواها. والحال أن صحافة الجزائر لم تعد استثناء، فالصحف
المحلية يكاد ينطبق عليها وصف "عدادات الموتى".

فالعنوان الرئيس بياع اذ يحتوي أرقام القتلى او الشهداء،
والصورة غير لافتة، إن لم تكون صورة للدم النازف بالألوان. أما أخبار الرياضة والفنون
والعلوم والثقافة فمكانها صفحات داخلية أو ملاحق واحيانا كثيرة التجاهل.

تحت مبررات كثيرة، الدفاع عن القضية والأولويات الوطنية
والقومية وغيرها، وبوهم معرفة ما يطلبه الجمهور، وبحجة عدم "إلهاء"
الناس عن القضايا المصيرية، وبفهم مهني مغرق في تقليدية ترسخت تاريخيا، تعلي
الصحافة من لغة الموت، شأت ذلك ام أبت.

يسود اعتقاد لدى محرري الصحف المحلية، ان التركيز على
اخبار السياسية، وليت الامر كذلك، بل اخبار المجازر والمذابح والصراعات، وتخصيص
الصفحة الاولى والمانشيتات الرئيسة لها، هو مهنية صحفية كونها تنقل للمتلقي ما
يرغب في معرفته بالدرجة الاولى. غير ان اختلاط المهنية بالتوجهات السياسية
للمحررين والاستسهال في عملية النقل والتحرير وتوضيب الصفحات كلها اسباب جعلت
للسياسية مكانة ذات اهمية شديدة قد لا تعكس اهتمام المتلقي الحقيقي، وبمعنى اخر
فان الصحافة نصبت نفسها قيّما على المتلقي، وبدلا من ان تدرس ماذا يريد تقوم بضخ
ما ترغب به.

قد يكون مبالغا به، القول ان الصحف المحلية لم تعط
الرياضة حقها، وانما العكس قد يكون صحيحا، فالرياضة حاضرة بقوة في الصحافة، عبر
ملاحق يومية منفصلة او صفحات داخلية تهتم بالخبر الرياضي بأدق تفاصيله.

وفي كل مرة يشهد فيها العالم حدثا رياضيا مهما تستنفر
وسائل الاعلام المحلية كل قواها لتغطية ومواكبة الحدث لما تتمتع به الرياضة من
شعبية كبيرة. والحال ان مباريات كأس العالم (المونديال) هي من اهم الاحداث
الرياضية التي تنظم على مستوى عالمي كل اربع سنوات وتجد لها متابعة كبيرة في
الصحافة، وكل هذا القول هو من النوافل.

لم تتخلف الصحف الاردنية في تخصيص ملاحق يومية
للـ"مونديال 2006"، وقد ابدع محررو هذه الملاحق في متابعة الحدث من الألف
إلى الياء. فنادرا ما نجد محررين في الصفحات الاخرى بكفاءة وقدرة محرري الرياضة،
فهم متفانون بعملهم ربما لانهم انتموا الى الاعلام الرياضي بسبب حبهم وتعلقهم
بالرياضة اولا، لذلك اتقنوا عملهم.

في ملاحق الرياضة يستطيع القارئ ان يجد مادة غنية، وصف
دقيق للمباريات، وتحليل لها، مواد توثيقية شديدة الدقة عن الفرق والدورات الرياضية
والحكام والملاعب والجمهور وكل شاردة وواردة تتعلق بموضوعاتهم، وصور ملونة شديدة
الوضوح. وهذه الامور لا تتوفر، مع شديد الاسف، عند محررين آخرين كمحرري السياسية
أو الاقتصاد أو الثقافة. ففي أخبار السياسية أو الاقتصاد لا تجد مادة غنية ومنوعة
ودقيقة وتحليلات في العمق كما تتوفر عليه ملاحق الرياضة. بل اكثر من ذلك، فقد
استطاع محررو الصفحات الرياضة اشتقاق لغة سلسلة وعناوين جذابة للقارئ، الى جانب
معرفتهم العميقة في تخصصهم.

من الصعوبة بمكان ايجاد ثغرات في تغطية الصحف للمونديال،
فهي تغطية شاملة متنوعة وان كان ينقصها ربما وجود مراسلين خاصين للصحف، ولكن قد
يكون ارتفاع التكاليف وكثافة البث الاعلامي من الوكالات والفضائيات واحتكار هذا
البحث يشفع للصحف هذا العيب او هذه الثغرة.

في مقابل الجهد المهني المبذول في الملاحق الرياضية او
في الاخبار المنشورة في جزء من الصفحة الاولى احيانا، لا تعطي الصحف الرياضة مكان
الصدارة على الاخبار السياسية، ففي كل تغطيتها لكأس العالم لم يتصدر أي خبر رياضي
رأس الصفحة الاولى وفي كثير من الاحيان لم يرتفع الى نصفها الاول. فالسياسية
والقتل هي الاخبار المفضلة للمحررين اما الرياضة فهي تأتي بعد ذلك.

تعليقات الكتاب: ليس للرياضة مكان

لم يرى اغلب كتاب الصحف المحلية في
"المونديال"، كما في أي حدث رياضي، ما يستحق الكتابة. فقد كانت كمية
التعليقات على هذا الحدث بكل ما يحمل من مضامين: ترفيهية وسياسية واقتصادية
واجتماعية، نادرة جدا.

اما من علق على هذا الحدث فقد جاء من باب السياسة ايضا،
فقد كتب حلمي الاسمر في صحيفة "الدستور" التي كان كتابها اكثر من تناول
الحدث، معلقا على نفوذ "الفيفا" وغياب العرب عن المونديال، وموسى حوامدة
معلقا على احتكار قناة ART للبث بأسعار
مرتفعة وان المونديال للاغنياء فقط. وعاد في مقال آخر ليعلق على العنصرية في
المونديال. وأعاد عيسى الشعيبي صياغة افكار وردت في مقالين لسلامة احمد سلامة في "الأهرام"
وفالح عبد الجبار في "الحياة" في مقال سرق عنوانه من سلامة معلقا فيه
على تطور كرة القدم من لعبة للفقراء الى حدث عالمي.

وتحدث جورج حداد عن اسباب الفشل والتفوق في المونديال
متحسرا على الفشل العربي. وفضل حسين رواشدة في نفس الصحيفة تناول المونديال من باب
السياسة معتبرا ان اكبر حزب عربي هو حزب الرياضة. وكتب ابراهيم العبسي من وحي
المونديال مقالا نوستالجيا عن كرة القدم والطفولة موحيا ككثيرين غيره بارتباط كرة
القدم بالفقر قبل ان تصبح "صناعة". وهدى فاخوري كتبت ايضا عن كرة القدم
والعولمة، اغنياء وفقراء. وكتب ياسر زعاترة في "اليهود وكرة القدم" وهو
يبدأ مقاله بـ"الكلاشيه" المعروفة برفض التفريق بين اليهود والصهيونية
ليكتب في مقاله محاولات "اليهود" لاستغلال المونديال لمصالحهم. على كل
فقد استفادت اسرائيل فعلا من الامر خاصة عندما رفع لاعب غاني علم اسرائيل بعد تأهل
منتخب بلاده، وبمنعها الرئيس الايراني من حضور المباريات. الا ان زعاترة صور الامر
كما لو كان مؤامرة. اما طلعت شناعة فقد كتب متهكما عن امتحانات التوجيهي وكرة
القدم متهكما على مدى سعة معرفة الناس بأخبار هذه اللعبة اكثر ربما من
"دروسهم".

وفيما لم يعلق أي كاتب من كتاب صحف "الرأي"
و"الانباط" على المونديال، فقد كتب محمد كعوش في "العرب
اليوم" منتقدا احتكار بث المباريات. ومحمد طمليه كتب مقالا ساخرا ولكنه يعكس
واقعا حاصلا عن حمى عمليات فك التشفير التي باتت تجارة رائجة الان في الشارع
الاردني.

وفي صحيفة "الغد" فقد كتب باسم الطويسي فقط
مقالا تناول فيه علاقة الرياض بالسياسة مرة اخرى، والطويسي كان الوحيد الذي رأى في
الاحتكار فائدة وان كانت سياسية على الأقل، فكتب: "خسر العرب متعة
المشاهدة في هذا المونديال، لكن من الحكمة النظر إلى فائدة اكبر ربما تتحقق
باكتشاف وكسر احتكار تاريخي قديم تمارسه الحكومات العربية على حقوق الناس في
المعرفة والمشاهدة والاستماع والقراءة، ولم يفد حتى في أن يوفر مشاهدة مباراة كرة
القدم".

هذا
حصاد تعليقات الكتاب على "المونديال"، واذا كان في تلخيص ما كتب ما يوحي
بالكثرة فهو غير كذلك. فاغلب المعلقين كما يلاحظ احجموا عن تناول الحدث، ترفعا
بالتأكيد، فكيف يمكن الكتابة عن الرياضة وهناك احتلالات وقتلى في العراق وفلسطين
والشيشان وغيرها. وكيف يمكن الكتابة عن الرياضة التي ليست اولوية للمواطن العربي
والاردني الذي ليس من حقه استراحة بين شواطئ حرب واخرى، وكيف يمكن الكتابة عن المونديال
ولو من باب الاحتكار او من باب قدرة الاعلام نفسه على تدويل الحدث، او من باب
السياسة التي دخلت المونديال عبر العنصرية واسرائيل وايران وغيرها، فلا يجب إلهاء المواطن
الاردني عن اولوياته في التحرير والتنمية والوحدة العربية.

يغيب عن ذهن الكثيرين، ان الرياضة مثل أي نوع آخر من أنواع
الثقافة كالموسيقى أو الآداب او السينما، أصبحت بفضل تطور وسائل الاعلام اساسا،
"صناعة"، كما يقول الفيلسوف الالماني الشهير تيودور ادورنو الذي بلور
مفهوم "صناعة الثقافة". وتساهم هذه الصناعة بنحو 40% من الناتج القومي الإجمالي
للبلدان الغنية، والمعنى ان الثقافة، بما فيها الرياضة، خرجت عن نطاق الدور
الترفيهي والابداع الفردي، لتصبح صناعة تنتج ما يستهلكه الإنسان فقط، لا ما تبدعه
مخيلة فنان مكتف بالاستمتاع بإبداعه، يعتبر ان الفن وجد لاجل الفن وحسب، او رياضي
لا يزال هاويا يرى في ممارسته الرياضة طريقة لحياة صحية او تطويرا لمهارات فردية
يستمتع بها. وقد اثبت اقبال الجمهور بكثرة على متابعة المونديال مدى ترسخ هذه
الصناعة ومدى تأثيرها في الناس وتاليا خطأ تقدير المحررين بأن السياسة هي "ام
الاخبار" وهي جلابة "الجمهور".

يعتقد بعض معلقي الصحف ان كثافة البث الاعلامي والتركيز
على المونديال سوف يجعل الجمهور عازفا عن متابعة التطورات السياسة بما يتيح
"للاشرار" تنفيذ مآربهم، ولكن ما يحدث الان يثبت عكس ذلك، فلم نر
"الاشرار" ينفذون مجازر بحق الشعوب كما لم نر الشعوب تنتفض لان اسرائيل
ارتكبت مجزرة غزة قبل المونديال، او لان القوات الاميركية قتلت الزرقاوي.

وقد ثبت ان المونديال كما يرى الكاتب المصري سلامة احمد
سلامة، بات فرصة للتهدئة والتقاط الانفاس وتبريد الاجواء السياسية. وليس في الامر
غرابة، فهذا هو قائد كتائب شهداء الاقصى في فلسطين زكريا الزبيدي، يقترح على الاسرائيليين
هدنة خلال المونديال لتمكين الجمهور الفلسطيني والاسرائيلي من متابعة رياضته
المفضلة.

هل يمكن الفصل بين حق الناس في الرياضة والترفيه
والثقافة وبين نظام اقتصادي سياسي يستغل الناس بمن فيهم الرياضيين لتحقيق ارباح
تجارية ضخمة او لتنفيذ مآرب سياسة؟ هل يمكن الفصل بين المونديال بوصفه حدث رياضي
يوفر للناس فرصة للترفيه، بما فيه من متعة بصرية كالسينما تماما، وفائدة في تعليم
الكثيرين لمهارات فنية عالية، وبين من يستغلونه لشؤون خاصة.

لقد قطعت الناس شوطا طويلا تعدى الافكار المسبقة لمعلقي
الصحف، مصرين على حقهم بمتابعة المونديال ولو بعملية سرقة جماعية للشركة المحتكرة.
واذا كان الجمهور اجبر الازهر على الافتاء بتحريم الاحتكار، فهل سيدرك معلقو الصحف
ان المونديال حدث لا يقل اهمية بالنسبة للناس عن عملية انتحارية ينفذها ارهابي في
اقصى مدن سيرلانكا.

على أي حال، فإن الاردن شهد حمى "فك تشفير"
القنوات، واصبحت "كودات او كرتات فك الشيفرة" تجارة رائجة تباع بأسعار
زهيدة للفقراء الذين لا يجدون في مقدورهم الاستمتاع بمباهج الحياة الكثيرة سوى شاشة
التلفاز ولولا هذه "القرصنة" التي للاسف نشطت الجهات المختصة في
ملاحقتها حماية للشركة المحتكرة.

في أي حال، كان للفقراء من وفر لهم متعة متابعة
المونديال، ولو سماعيا، فقد قام راديو عمان نت وإذاعة عمان اف ام ببث المباريات
صوتيا، ووفرت للكثيرين ساعات من الترفيه والاسترخاء بعيدا عن اعداد القتلى وحصاد
المتفجرات والجثث وحب الموت الذي يريد الكثيرون ان لا نغادره تحت مبررات واهية.

أضف تعليقك