يصل الملك الأردني عبدالله الثاني إلى البيت الأبيض بعد غياب سنتين ليطوي مع الرئيس الديموقراطي جو بايدن صفحة سلفه دونالد ترامب، الذي سعى إلى تهميش الملك خلال عهده وعاقبه لرفضه “صفقة القرن”. كما حاول مع ربيبه اليميني في إسرائيل بنيامين نتانياهو وبعض العرب، انتزاع الوصاية الهاشمية منه على المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشرقية.
اليوم تعود العلاقات الاستراتيجية إلى دفئها السابق بعد ثلاث سنوات صعبة ومقلقة مرّت على الملك وبلاده رسم خلالها ترامب وصهره جارد كوشنر خارطة تحالفات جديدة في المنطقة قوامها نتنياهو وولي العهد السعودي محمد بن سلمان مع رجالات متنفذّة في الإمارات العربية المتحدة.
قبل أربع سنوات كان متنفذون في إسرائيل يقولون في الغرف المغلقة: “ماذا نريد أكثر من ذلك. نحن في أقوى فتراتنا”. دعم تام من الإدارة الأميركية…
أمامنا كنز الغاز في البحر المتوسط وفي ظهرنا دكتاتوريات تحمينا وتواجه معنا إيران عدونا الاستراتيجي المشترك”.
سقط نتانياهو في الانتخابات التشريعية الأخيرة، منهياً بذلك حقبة عداء شخصي واستفزاز للملك، على رغم استمرار الحذر الأردني الرسمي حيال التركيبة الإسرائيلية اليمينية المتشدّدة التي أعقبت نتانياهو. عربياً، أقدم الأردن على مواجهة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عبر تسريبات إعلامية ممنهجة ألمحت إلى الربط بينه وبين ما عرف بقضية “الفتنة”، التي هزّت الأردن مطلع نيسان/ أبريل. تزامن ذلك مع عدم رضا الإدارة الاميركية على سجل حقوق الإنسان وغيرها من الملفات في الرياض.
يلتقي الملك بايدن حاملاً “تفويضاً إقليميا” حول ملفّات المنطقة من الرئيسين المصري عبد الفتاح السيسي والفلسطيني محمود عبّاس ورئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي- الذي سيلتقي بايدن قريباً. كما يبدو أن الأردن غير بعيد من الإمارات العربية المتحدة إلى حد كبير بعد توتر علاقاتها مع السعودية بسبب خلافاتهما حول الحرب في اليمن، وأوبك وغيرها.
هذا الرباعي الجديد يسعى، بحسب ديبلوماسيين ومسؤولين، تحدثوا الى “درج”، إلى تعزيز علاقاته الاقتصادية والسياسية والأمنية وتحييد نقاط الخلاف لوقف تغلغل إيران في ساحات العراق، ولبنان، وفلسطين واليمن. كما يحاول استكشاف آفاق إنقاذ ما تبقّى من المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية على أساس حل الدولتين؛ ذلك المفهوم الرقيق أصلاً والذي دفن فعلياً بعد توقّف المفاوضات عام 2014، ما سمح لإسرائيل بفرض سياسة الأمر الواقع خصوصاً تهويد القدس، وتسمين المستوطنات وتقطيع أراضي الدولة الحلم.
قبيل زيارة واشنطن، التقى الملك سراً برئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد اليميني المتشدد نفتالي بينيت، وفق تسريب لاحق لوسائل إعلام إسرائيلية، لعلّه يفتح صفحة جديدة مع رئيس وزراء جارة أمر واقع، يحمل برنامجاً سياسياً قد يكون أسوأ من سلفه. لكنّه على الأقل ليس نتانياهو.
وعقد الملك والسيسي والكاظمي قمتهم الرابعة، هذه المرّة في بغداد. اتفقت هذه الدول على التوجه نحو تكامل اقتصادي، امتداداً لمخطّطات سابقة لم تر النور على مدى عقود، من خلال مشروع الربط الكهربائي وخطوط نقل الغاز من مصر إلى العراق والنفط من العراق مع إتاحة منفذ لتكريره وإعادة تصديره عبر مصر والأردن. وتظل كتلة النفوذ السياسي الإيراني المسيطرة على غالبية مفاصل الدولة في العراق منذ انهيار نظام صدام حسين عام 2003 غير معجبة بمحاولات هذا المحور السني الموالي لأميركا. وقد تتغير موازين القوى في الانتخابات التشريعية المقبلة.
خلال التصعيد الإسرائيلي الأخير على غزّة، تقاسمت عمّان والقاهرة الأدوار لحقن دماء الفلسطينيين. إذ لعبت المخابرات المصرية دوراً محورياً في تثبيت وقف إطلاق النار ووضع تصوّر لإعادة الإعمار، بينما اجتمع الملك بالرئيس الفلسطيني لحثّه على توحيد الموقف الفلسطيني بغية تشجيع الإدارة الأميركية على الانخراط في ملف السلام. لكن علاقات “فتح” و”حماس” تبقى شائكة ولن يكون هناك شريك فلسطيني قادر على تمثيل جميع الفلسطينيين في أي مفاوضات مستقبلية.
يجتمع الملك مع بايدن عقب سريان اتفاقية التعاون الدفاعي بين عمان وواشنطن بعدما استفاق الأردنيون على خبر نشرها في الجريدة الرسمية مطلع العام، من دون عرضها على مجلس النواب. دخلت الاتفاقية حيّز التطبيق في آذار/ مارس 2021، على رغم تعالي الأصوات الحزبية والبرلمانية والشعبية الرافضة لها ووصفها بأنها انتقاص من السيادة الأردنية وخرق أميركي لأمن الوطن. في المقابل، تصر الرواية الرسمية على أنها اتفاقية دولية وقّعت بما يتوافق مع القانون الدولي لتجديد اتفاقيات أمنية وعسكرية سابقة مع الولايات المتحدة، ولكنّها تأطّرت هذه المرة قانونياً بعد نشرها في الجريدة الرسمية.
ويحاول الحلفاء العرب الجدد اليوم حثّ الإدارة الأميركية على تخفيف العقوبات الدولية وقانون قيصر المفروض على دمشق وإعادتها تدريجياً الى حضن الجامعة العربية، التي طردت منها في قمّة الدوحة أواخر عام 2011، بعد 8 أشهر على اشتعال ثورة تحولت لاحقاً إلى حرب أهلية تدخّلت فيها إيران ثم روسيا لمساعدة الأسد على استرجاع قرابة 70 في المئة من أراضي بلاده. أي انفراج في سوريا ومن ورائها لبنان قد يساهم في تنشيط الاقتصاد الأردني. وثمة تسهيلات على حركة دخول وخروج الأفراد وسيارات الشحن على معبر الحدود بين البلدين بعد سلسلة زيارات متبادلة.
فالحملة العسكرية المتعدّدة على الأسد لم تفلح في تغيير النظام السوري. والأسد باق. ونقل الإعلام الأردني خبر أدائه القسم القانونية يوم السبت بوصفه “الرئيس السوري”، بعد فوزه بولاية رابعة. وثمّة اشتباك سياسي تدريجي إقليمياً ودولياً لإعادة إدماجه على أساس “تغيير سلوك” النظام.
محلياً، يبدو أن الملك نجح في التحضير سياسياً واستراتيجياً لهذه الزيارة المفصلية التي ستعيد توصيف بلاده على أنها “أكثر من شريك استراتيجي”. واليوم سيتوج رسمياً كشريك أساسي مع إدارة بايدن في رسم سيناريوات الحلول في المنطقة المشتعلة منذ عشر سنوات، بعدما كسرت حوله العزلة السياسية التي فرضها ترامب- نتانياهو-كوشنر وحلفاؤهم في الخليج.
على أن التموضع السياسي الإقليمي والدولي الملموس سيقابل بأسئلة حيال الكثير من الملفات المحلية.
نقاشات الإدارة الأميركية مع الملك قد تتطرق إلى تداعيات حكم محكمة أمن الدولة راهناً بالسجن 15 عاماً لكل من رئيس الديوان الملكي السابق باسم عوض الله وأحد أقرباء الملك. فعوض الله يحمل الجنسية الأميركية إلى جانب الأردنية والسعودية مذ عمل مستشاراً لصيقاً بولي عهد السعودية قبل أربع سنوات. عائلته المقيمة في واشنطن تطالب إدارة بايدن بالتدخل لإطلاق سراحه مدعيّة تعرضه للتعذيب ووجود ثغرات في إجراءات التقاضي؛ خصوصاً رفض المحكمة دعوة 26 شاهد دفاع في مقدمتهم أخ الملك غير الشقيق، الأمير حمزة الذي تكرّر ذكره في لائحة تضم تهمتي التحريض ضد نظام الحكم السياسي والقيام بأعمال من شأنها الإخلال بالنظام العام وتهديد الأمن المجتمعي. وينتظر صدور قرار محكمة التمييز خلال شهر.
ويتساءل أردنيون عن فحوى القضية الحقيقي وإذا كانت للمتهمين الرئيسيين مصلحة في زعزعة أمن الأردن بالاشتراك مع جهات خارجية لم تحدّد ما إذا كانت دولاً أو أشخاصاً.
سيستغل الملك هذه الزيارة لإنقاذ بلاده مالياً، إذ تئن المملكة تحت وطأة أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية، في مقدمتّها تحدّي الفقر والبطالة الذي فاقمته جائحة “كورونا”. ذلك أن تكرار الإغلاقات رفع معدل البطالة إلى 25 في المئة كما أن نصف الشباب يبحثون عن عمل وسط إفلاس آلاف المنشآت الخاصة.
الأردن يصنّف الآن ثالث متلقٍّ للمساعدات الأميركية مع ضمور المساعدات التقليدية من دول خليجية في سياق محاولات تهميش دور المملكة أو التشكيك في أولويات صرف المساعدات.
بموجب مذكرة التفاهم الخمسية الموقعة بين البلدين عام 2018، التزمت واشنطن بتقديم مساعدات أساسية لعمان قدرها مليار و 275 مليون دولار سنوياً على مدى خمسة أعوام، ما عدا المساعدات العسكرية والأمنية المدرجة ضمن بنود مساعدات أخرى. الأردن الرسمي بدأ الحديث مع إدارة بايدن حول تجديد المذكرة ويتوقع أن تستمر المساعدات بالوتيرة ذاتها في السنوات المقبلة، بعدما لوّح ترامب بتخفيضها قبل أن يغادر البيت الأبيض. وتتوقع عمّان أن تضغط واشنطن على حلفائها الخليجيين لمساعدة الأردن اقتصادياً.
عدوى أميركا انتقلت إلى إسرائيل بعد رحيل نتانياهو. بقيادة بينيت، وافقت إسرائيل على بيع الأردن مياهاً إضافية من بحيرة طبريا وإحياء بروتوكول باريس بما يرفع التبادل التجاري بين الأردن والسلطة الفلسطينية من 160 مليوناً إلى 700 مليون دولار. وربما تشارك دول عربية مرتبطة بآليات سلام مع إسرائيل أو تلك التي أعلنت رغبتها في التطبيع مستقبلاً في مشاريع إقليمية مع الأردن وإسرائيل.
مع ذلك يزداد المشهد الداخلي تعقيداً وقد ينعكس على نجاحات الملك الخارجية.
فأصداء قضية الأمير حمزة لا تزال تتردد وإن عمل الملك وعمّه الأمير الحسن
بن طلال على لملمة تصدّع الأسرة الحاكمة.
وإحالة قضية النائب المفصول أسامة العجارمة المنتمي إلى عشيرة كبيرة إلى محكمة أمن الدولة بسبب تهديداته الملك، توجّه رسالة واضحة بوجود خلل متنام بين مؤسسة الحكم والعشائر الأردنية؛ العمود الفقري للنظام وخزّان دعمه التقليدي. وتستمر وتتعمق أجواء التدخل الأمني في الحريات والتضييق على النقابات المهنية والأحزاب والصحافة وتعزيز دور “الدوريات الالكترونية” على صفحات التواصل الاجتماعي لكبح جماح “ديموقراطية العالم الافتراضي”.
تراجع الثقة بالمؤسسات الرسمية يتحول تدريجاً إلى أزمة ثقة حيال لجنة ملكية كلّفها الملك “تحديث المنظومة السياسية” برئاسة سمير الرفاعي، السياسي الإشكالي المحافظ ورئيس الوزراء الذي اضطر الملك لإقالته عقب اندلاع موجة الاحتجاجات الأردنية مطلع 2011. وثمّة خشية من وقوع مهندسي اللجنة الملكية في منطق التلاعب في الانتخابات الأخيرة بدعم المال الفاسد وكذلك نهج اختيار رؤساء الحكومات والوزراء وسائر المناصب القيادية بعيداً من أسس الاحتراف والمهنية.
وثمّة توقعات باستمرار مفاصل الدولة في ترقيع سياسة الإصلاح التدريجي بالقطعة بسبب صعوبة إحداث إصلاح سياسي حقيقي، قبل حل القضية الفلسطينية حتى لا تتهدد هوية الدولة المعقدة.
لتغيير المشهد، ثمّة حاجة إلى ثورة سلمية بيضاء في البناء الفوقي مدعومة بثورة اقتصادية حقيقية وتحديث هياكل الإدارة العامّة مع تجديد البيروقراطية لتحاكي متطلبات العصر.
ففي لحظات الأزمات العميقة لا تنفع محاولات اختطاف اللحظة السياسية بأدوات بالية أو التقدّم في سياسة “الخطوة خطوة”. ويخشى من أن يكون الإصلاح المتدرج حقّاً يراد به باطل لتفادي مواجهة استحقاقات الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والثقافي على قاعدة: أي أردن نريد بعد عقد من الآن؟.
*نقلا عن موقع درج
العناية الإلهية حيّدت خصوم الملك ودفنت صفقة ترامب بمجرد حيله.