المقاومة الأردنية : متى وكيف ولماذا ؟
المقاومة الأردنية ؟ نعم. ولكن حواليّ أربعة عقود من الغياب سوف تجعل حركة ، مهما كانت طليعية وفاعلة، في ذاكرة التاريخ ، لا في سجال اليوم. على أن إشتداد خطر الإلغاء الراهن يحفّز ذاكرة الأردنيين، ويشدّهم إلى اكتشاف بارود الماضي المخبوء في الوجدان.
المفارقة الأولى أن أول مجموعة مقاومة مسلحة ضد الإنكليز و الصهاينة في فلسطين كانت أردنية . وهي مجموعة الشيخ كايد المفلح العبيدات. ولعله أول عربي يسقط شهيدا على أرض فلسطين ( نيسان 1920). ليس وحده .. ولكن الشهداء من الحرّاثين الفقراء لا أسماء لهم في صحف التاريخ.
المفارقة الثانية أن اللواء ( في الجيش العثماني فالفيصلي ) علي خلقي الشرايري الذي قاد عمليات المقاومة في حوران ضد الفرنسيين، ولعب لاحقا أدوارا في المقاومة في فلسطين، كان واحدا من أركان مؤتمر أم قيس الذي نادى بقيام الدولة الوطنية الأردنية، واكد على رفض العلاقة مع حكومة فلسطين الانتدابية ، ورفض وعد بلفور ، ومقاومة الصهيونية.
حين نتوقف أمام هذا المشهد التاريخي، سوف نقبض توا على ديالكتيك الحركة الوطنية الأردنية : الدولة شرقيّ النهر تتطلب القتال غربي النهر.
في فلسطين وفي مواجهة الصهيونية ، يتحقق الأردن / الوطن / الدولة ، كإمكانية تاريخية وكمشروع نهضوي. وليست لدينا وثائق مكتوبة تدلّ على أن اللواء الشرايري الداعي إلى قيام الكيان الأردني قد استنتج بوضوح نظري أن اكتشاف الذات وتجذيرها ليسا ممكنين من دون مقاومة الصهيونية في فلسطين، لكن التلازم الفعلي لحدثيّ اكتشاف الوطن واكتشاف المقاومة، له سياق موضوعيّ. هذا السياق ما يزال موضوعيا وضروريا مذ ذاك. وإذا كان تم تجميده ، أربعين عاما ، بالمناورات السياسية ، فإن ساعة الحقيقة قد أزفت، وعاد الأردن إلى خيار العبيدات : لا دولة أردنية من دون مقاومة الصهيونية.
من ال20 وحتى ال48 ، نستطيع أن نخصص كتابا ضخما لتغطية فعاليات المقاومة الأردنية، السياسية والمسلحة ، ضد الاحتلالين الفرنسي والإنكليزي ، ولكن ، خصوصا، ضد الصهيونية. ولسنا هنا بصدد تقديم إيجاز عن المظاهرات والإضرابات والقتال وتهريب السلاح والمقاتلين . ولن نتوقف عند كثافة وإقدام متطوعي حرب ال 48 من ابناء العشائر، ولا عند بسالة الجنود الأردنيين في حرب خاضها القادة بحسابات أخرى غير حسابات المقاومة. ما يهمنا أن الحركة الوطنية الأردنية ، طوال تلك العقود الثلاثة، كانت تقرن الكفاح لتجذير الدولة الأردنية ومقرطتها ، بصورة جدلية، بالقتال ضد الصهيونية. لقد كانت المعادلة واضحة منذ البداية ، بل أعلنها أديب الكايد في السلط في أول لقاء مع هربرت صموئيل ( 21 آب 1920) : فلسطين لليهود والأردن لضحايا الصهيونية من الفلسطينيين. وكان واضحا ، ومنذ البداية ، أن إفشال هذا المشروع يكون بالاتحاد مع الشقيق الفلسطيني ضد الغازي الصهيوني.
في الخمسينات أحيا جمال عبد الناصر، الأمل في دور الجيوش في التحرير. هنا، ارتدت المقاومة إلى الداخل ، نحو تعريب الجيش الأردني ، وتسليحه ، ودعمه ، والضغط نحو الاندراج في المشروع العربي القومي الرسمي للتحرير. الشباب الوطني الأردني انضم إلى الجيش، على موعد مع المعركة التي كسبها العدو في ال67 . وبذلك عاد الاعتبار ، مرة أخرى، للمقاومة الشعبية.
هول صدمة 67 ، والظهور الباهر للمنظمات الفلسطينية، حالا دون تكوّن حركة مقاومة أردنية واعية بهويتها الوطنية واستهدافاتها الاستراتيجية . آلاف المقاومين الأردنيين انضموا إلى المنظمات الفلسطينية ، حيث عوملوا ك" غرباء" متضامنين أو ك" احتياطي" سياسي أو ك " موظفين في شركة فتح".
لم تفهم أي من المنظمات الفلسطينية ، بما فيها اليسارية، ديلكتيك الوطنية الأردنية . يحارب الوطني الأردني ، إسرائيل ، بوجدانين متداخلين : عربي عام وأردني خاص، لتحرير فلسطين ولكن ، أيضا، من أجل وطنه بالذات. وفي الهمروجة الفتحاوية التي سادت في الأردن بين 68 و70 طُمستْ الهوية الوطنية الأردنية ، وحوربت بصورة مقصودة . وبدأ يحصل الإنفصال منذ معركة الكرامة في 21 آذار 1968. الضباط والجنود الذين استماتوا في القتال وصدّوا الغزو الإسرائيلي ، أصبحوا يتعرضون للإذلال والتحقير والخطف والقتل على أيدي مليشيات الحارات ، المعبّأة بالعداء للأردني باعتباره العدو رقم واحد. كانت تلك سنوات الانتقام مما قبل ال67 حين كانت الهوية الفلسطينية ملغاة في مملكة الضفتين. ولكن الانتقام كان شاملا وموجها للأسر والعشائر والكادحين والضباط والجنود. وهكذا ، نشأت الأجواء الملائمة لصدامات أيلول 70.
لم تكن تلك حربا أهلية ، بل حربا بين النظام وفتح . وبنتيجتها ربح الفريقان المتقاتلان وخسر الأردنيون والفلسطينيون ، علاقات الأخوة الفريدة ، وخسرت المقاومة .
ربح النظام معركته الداخلية ضد المعارضة الوطنية ، واستطاع رص الصفوف وراءه. وبعد اغتيال الشهيد وصفي التل ، تمت تصفية الجناح الوطني داخل النظام نفسه . وعلى المستوى الإقليمي عُقدت صفقة ميدانية مع إسرائيل لتهدئة الجبهة والتعايش وتنظيم الصراع سياسيا .
وربحت فتح ، على رغم هزيمتها العسكرية ، القدرة على استقطاب فلسطينيي الأردن وراءها، وشق وحدة الضفتين ، ووحدة الحركة الوطنية، واستثمرت ذلك ، العام 1974، في استصدار قرار القمة العربية في الرباط باعتبار منظمة التحرير الفلسطينية " ممثلا شرعيا ووحيدا " للشعب الفلسطيني. لم يكن ذاك مشروع مقاومة ، بل مشروع انتزاع الكرسي الفلسطيني على مائدة المفاوضات.
في حرب تشرين 1973 ، كانت جذوة المقاومة الأردنية ، رغم التطورات السلبية والتجربة المرّة مع المنظمات ، لم تنطفيء. ضغطت الجماهير وضغط ضباط الجيش للمشاركة في الحرب. كان أركان القوات المسلحة يرون في الأيام الأولى للانتصارات المصرية والسورية ، فرصة نادرة لمفاجأة إسرائيل وتحرير الضفة التي كانت ، أثناء الحرب، بلا دفاعات إسرائيلية جدية. وقد استطاع النظام تلافي الدخول في الحرب على الجبهة الأردنية ، مُرسلا القوات الأردنية إلى الجبهة السورية!
كانت تلك آخر الاشتباكات الأردنية الكبرى مع إسرائيل. بعدها حدثت محاولات وعمليات قتالية فردية لم تنقطع حتى التسعينيات، وكان الحزب الشيوعي الأردني، ارسل ، قبل 82 وأثناء الاجتياح تلك السنة ، مئات المقاتلين إلى لبنان ، انضووا تحت جيش فتح، لكن حركة المقاومة الأردنية انطفأت. ومع ذلك، فإن روح المقاومة عبرت عن نفسها في التأييد الشعبي الكاسح للمقاومة العراقية وحزب الله وحماس.
وبينما حظيت المقاومة العراقية ، ـ ولأسباب شرحناها مرارا ـ باحترام كبير في صفوف الأردنيين، فإن الشباب الأردني الطامح للقتال ضد الأميركيين لم يجد منفذا وطنيا للمساهمة في المقاومة العراقية ، إلا عن طريق " القاعدة" أو منظمات سلفية . بعض المقاومين الأردنيين قاتلوا الاحتلال الأميركي ، ولكن بعضهم تورّط في الاقتتال الطائفي ، ما جعل تجربة المشاركة الأردنية ـ وهي كبيرة ـ في المقاومة العراقية مشوبة بالإلتباس.
وعلى رغم أن حزب الله فقد الكثير من شعبيته في الأردن بعد 2003 ، بسبب موقفه الداعم للحكم الطائفي المتعاون مع الاحتلال الأميركي في العراق، فإن انتصار الحزب الباهر في 2006 كان نقطة تحوّل في الوعي الأردني باتجاه إحياء فكرة المقاومة. إن قدرة المقاومة اللبنانية ـ وهي، في الأخير، منظمة لا دولة ـ على هزيمة الإسرائيليين جددت الأمل بنجاعة المقاومة كوسيلة دفاعية. وإثر الحرب،نشرت مجلة " الأقصى " الصادرة عن القوات المسلحة الأردنية ، تقييمات إيجابية للغاية حول كفاءة الأساليب القتالية لحزب الله. وهي تقييمات انعكست ، على الأغلب ، في الاستراتيجية الدفاعية . وبين 2006 و2009 ، تمكّن الجيش الأردني ، بالتعاون مع الروس، من انتاج الصاروخ المضاد للدروع " هاشم" . وهو نسخة مطوّرة من السلاح الذي تمكن مقاتلو حزب الله بواسطته من تدمير وتحييد القوة المدرعة للعدو.
وسيكون من المهم الإشارة هنا إلى أن استراتيجية حزب الله أي القتال في إطار منظمة عسكرية منضبطة ولكن بوسائل قتالية مختلطة ، عسكرية وغوارية، كان قد اقترحها وصفي التل كأساس للاستراتيجية الدفاعية الأردنية بعد حرب 67. وهي لعبت دورا في نجاعة الدفاع الأردني في حرب الاستنزاف على الجبهة الأردنية 67 ـ 70.
تحظى حماس بشعبية كبيرة بين الأردنيين. ومصدر هذه الشعبية يكمن في الآتي (1) العداء الأردني التقليدي لفتح وحلفائها (2) استمرارها في نهج المقاومة (3) تأكيدها على حق العودة.
ولكن حماس تغامر برصيدها الأردني إذا أصرت على التدخّل في شؤون الحركة الإسلامية الأردنية ، وتحديدا عرقلة تحوّل هذه الحركة إلى حزب وطني أردني. ومن المأمول أن تتلافى حماس، السياسات الفتحاوية في الأردن، مدركة أن خسارتها التنظيمية هنا ، سوف تتحوّل إلى كسب استراتيجي. وسيكون إنجاز أردنة الحركة الإسلامية في الأردن ، إحدى المقدمات اللازمة لتجديد حركة المقاومة الأردنية.
للأردن ، على عكس لبنان، دولة حديثة وجيش قوي . ومن الواضح أن المهمة المطروحة على حركة مقاومة أردنية مجددة هي الدفع باتجاه تغيير سياسي عميق، يقود إلى إعادة طرح قضية السيادة على الأراضي الأردنية في الباقورة ووادي عربة (المستعادة والمؤجرة للإسرائيليين ) والأراضي غير المستعادة (إيلات) والحصص السيادية في مياه نهر الأردن ، وتنفيذ مشروع قناة الأحمر ـ الميت داخل الأراضي الأردنية ، وبمعزل عن مشاركة إسرائيل أو موافقتها . ولكن الأهم إعادة طرح حق العودة للاجئين على جدول الأعمال كأولوية وطنية أردنية ، وكحركة نضالية لفلسطينيي الأردن.
لا خيار للأردن ، من أجل الحفاظ على سيادته ودولته وهويته ، سوى التصدي للتوسعية الإسرائيلية . وتلافي هذا التصدي سيجلب بعض الأمان المؤقت ، لكنه سينتهي بخسارة البلد. إننا مخيرون، لا محالة ، بين حرب مع إسرائيل ـ مهما كانت كلفتها ـ وبين حرب أهلية ستكون كارثية إذا ما انتصر الحل الإسرائيلي القائم على كانتونات الضفة والتوطين.
ستظلّ الحركة الوطنية الأردنية تحتفظ بنزعتها الدولتية، والاقتصار على نشاط المقاومة السياسية، إلى حين ظهور عجز الدولة النهائي عن امكانية التصدي لمشروع الإلغاء الإسرائيلي. عندها ، ستخفق راية كايد المفلح العبيدات ثانية .
لقد أزف الوقت لكي نهيئ شعبنا منذ الآن للاستحقاقات الاستراتيجية الكبرى ، وذلك لأن الأردن يقترب الآن ، وأكثر من أي وقت مضى ، من مأزقه الاستراتيجي ، وكأن فترة السماح والتأجيل قد انقضت:
(1) توصلت السياسة الأردنية إلى أن المزيد من تأجيل سلام شامل ـ على كل الجبهات ـ مع إسرائيل، يفضي إلى قيام دولة فلسطينية ، لم يعد محتملا، فهو يهدد النظام من جهة تصعيد خارج السيطرة ، ويهدد الدولة من جهة إسرائيل ، فاختارت عمان اللعب بالأوراق كاملة : التوطين مقابل الدولة .
وهي لعبة خاسرة في الحالتين : الرفض الإسرائيلي ـ وهو المرجح ـ سيفضي إلى فراغ ، ويفاقم التهديدات، بينما نجاح الصفقة سيؤدي إلى استحقاقات سياسية داخلية خطرة للغاية.
(2) القطب المصري ـ وإلى حد أقل السعودي ـ ليس في وارد دعم صفقة سلام شامل تلعبها عمان . فالقاهرة والرياض تجدان نفسيهما أقرب إلى اليمين الإسرائيلي منهما إلى إدارة أوباما من حيث أنهما ـ كما يقول فلتمان ـ صراحة ، تفضلان تكوين حلف ضد إيران على بحث صفقة سلام الآن، تضطرهما إلى القبول بالشراكة الإيرانية.
(3) دمشق ليست مقتنعة بإمكانية حدوث الصفقة ، ولكن ليس لديها تحفظ على تحرك الدبلوماسية الأردنية، طالما أن الأخيرة تعتبر أن حدود 4 حزيران في الجولان خط أحمر. ولا ترفض ولا يقلقها أن يكون توطين اللاجئين في الأردن ، ثمنا أو جزءا من ثمن السلام ، طالما أن حقوقها في الأرض ونفوذها في لبنان ، محفوظين.
(4) عمان ، في الواقع ، تتحرك وحدها من دون اسناد عربي أو دولي ، تحاول استغلال حالة الفراغ الناشئة في المنطقة ، للعب دور تحتاجه هي وليس مطلوبا منها.
(5) الضغوط الاقتصادية والاجتماعية في الداخل ، تتمفصل على ضغوط سياسية لإصلاح لم يعد ممكنا تأجيله ، ولكنه يصطدم بثنائية الهوية السياسية في البلاد، مما سيجعل أي إصلاح نوعا من المحاصصة .
التحدي الرئيسي هنا هو إسرائيل. ولا تملك النخبة الحاكمة ، المصلحة أو الإرادة لمواجهتها. لكن احدا ما لا بد له من القيام بالمهمة التي سوف تعيد الاعتبار لدور الأردن المطلوب، وتضمن بقائه وطنا مستقلا للأردنيين. تلك المهمة هي المقاومة.











































