المعركة السياسية ... للزيارة الدينية

الرابط المختصر

تتزامن زيارة قداسة البابا بندكت السادس عشر للاراضي المقدسة وذكرى النكبة بتاريخ 15 ايار 1948، وهذه فرصة لايصال الرسالة الفلسطينية في بث حي ومباشر الى مسامعه وعينيه وحواسه كلها، لتزيده إدراكا بعمق المأساة الوطنية ومدى العنجهية الاسرائيلية والتنكر للحقوق الاساسية لشعبنا، لان معركة سياسية تدور بوضوح رغم الطابع الديني للزيارة.

وتدرك اسرائيل هذا الوضع، وهي تحاول جهدها بالقول والفعل لقلب الصورة وايجاد المزيد من التضليل، وتشويه مضمون الزيارة، كالقول انه سيزور «جبل الهيكل» بدل المسجد الاقصى، ومنع اقامة المنصة مقابل الجدار في مخيم عايدة، ومحاولة الايماء بانه يزور «عاصمة» اسرائيل ولا يزور القدس الشرقية المحتلة بكل ما فيها من معاناة الفلسطينيين المسلمين والمسيحيين من ابنائها الى درجة التضييق على الجميع بتأدية شعائرهم الدينية سواء للمسيحيين في عيد الفصح المجيد الاخير او لدى المسلمين في كل اعيادهم وايام الجمعة. بالاضافة الى رفع متطرفين يهود دعوى لاعتقال البابا او منعه من المغادرة ، الى حين البت بالقضايا التي يدعونها ضده، كما وصفه بعضهم بالهتلري.

منذ بدء زيارته للاردن، اكد البابا احترامه القوي والعميق للاسلام والمسلمين، وكرر ذلك في كل خطبه العديدة فيما بعد، ودعا الى الحوار بين الديانات وتعاون الحضارات والثقافات لا الى صدامها، كما دعا الى قبول الاخر واحترام حقوقه والعيش المشترك رغم الخلافات والاختلافات الموجودة فعلا. وذلك في استجابة لمطالب الاسلاميين له بالاعتذار عما يعتبرونه إساءة للاسلام والمسلمين في محاضرة له باحدى الجامعات الالمانية قبل اكثر من سنتين.

في هذا المجال لا بد من الاشارة الى حملة التضليل الاعلامية والتشويه الاخبارية التي تمارسها قناة «الجزيرة» التي وضعت الزيارة في الدرجة الثانية او الثالثة من اهتمامها، الى حين زار جبل نيبو في مآدبا حيث اصبحت الزيارة والتصريحات في الدرجة الاولى، والسبب ان جبل نيبو حسب التقاليد الدينية هو حيث وقف النبي موسى ونظر الى الارض المقدسة دون ان يتمكن من دخولها ابدا ويعتقد ان قبره موجود هناك.

وكانت المناسبة فرصة لتعبير البابا عن العلاقات الدينية بين اليهودية والمسيحية ودعوته الى المصالحة بين الديانتين او بين الكنيسة الكاثوليكية التي يمثلها والشعب اليهودي على الاسس الدينية المعروفة بالخلافات الكاملة بينهما، الا ان «الجزيرة» اعطت الانطباع ان البابا يصرح من الاردن بان زيارته تستهدف المصالحة مع الشعب اليهودي اي اسرائيل، اي انه موجود في الاردن وتفكيره مع اسرائيل وشعبها ولاستكمال التشويه فقد استشهدت فورا بأقوال الشيخ الموظف لديها يوسف القرضاوي حول الزيارة وانتقادته لها وليس فوق هذا من تضليل وتشويه للحقائق لاهداف واضحة ومعروفة جيدا لمشاهدي هذه القناة التي بدأت تخسر الكثيرين منهم.

من القضايا الاخرى التي تثيرها زيارة قداسة البابا، وضع المسيحيين في المنطقة عموما، والاراضي المقدسة بصورة خاصة، وقد اشار في احدى خطبه الى مسيحيي العراق وحقهم في العيش بسلام في وطنهم مثلهم مثل غيرهم من مواطنيهم العراقيين وذلك على ضوء المضايقات الدامية التي يتعرضون لها واضطرارهم الى الهجرة احيانا. بالنسبة للمسيحيين في الاردن والاراضي الفلسطينية فان الوضع مختلف كليا، سوى قضية تناقص اعداد المسيحيين تناقصا يثير القلق لدى المسيحيين والمسلمين على حد سواء، كما عبر عن ذلك اكثر من كاتب وشخصية عامة في مقدمتهم الامير الحسن بن طلال.

هنا لا من التأكيد على ان المسيحيين في الارض المقدسة هم قسم من الشعب الفلسطيني وجزء أصيل من الوجود الوطني حتى قبل ظهور المسيحية، وليسوا حالة خاصة او استثنائية، ولا يجوز التعامل معهم كقضية مستقلة عن وضع الشعب الفلسطيني، كما يحاول البعض بقصد او بجهل.ان تناقص اعداد المسيحيين يعود اساسا الى الافاق الحياتية والاقتصادية والسياسية المغلقة التي يسببها الاحتلال وتؤدي الى الهجرة كلما امكن ذلك، بالاضافة الى ميل العائلات المسيحية عموما الى عدم التكاثر الموسع والاكتفاء بمولودين او ثلاثة، وكذلك الشعور بالعزلة والضياع وسط دعوات البعض الى دولة اسلامية من جهة، ودعوات البعض الاخر الى دولة يهودية، من جهة ثانية، تجدر الملاحظة في هذا المجال الى ان العائلات المقدسة المسلمة، مثلا، قد اندثرت او هي في طريقها للاندثار الكامل لتحل مكانها عائلات جديدة من منطقة الخليل بصورة خاصة منذ ان شجع الحاج امين الحسيني هجرة هؤلاء الى القدس لمواجهة الاستيطان في ثلاثينات القرن الماضي.

لقد كان المسيحيون في طليعة العمل الوطني السياسي والثقافي والاعلامي مع بداية عصر النهضة سواء في فلسطين او غيرها، كما عانوا كما عانى المسلمون من ممارسات الاحتلال وصودرت لهم املاك ومنازل عديدة في القدس الغربية وعين كارم مثلا، وقدموا تضحيات كما قدم اشقاؤهم المسلمون لانهم فعلا شعب واحد ومعركة واحدة ومصير واحد واية محاولة لتجاوز ذلك او القفز فوق هذه الحقيقة، هي مغايرة للتاريخ والمنطق.

ومن المبدعين المسيحيين في الاطار الوطني الفلسطيني على سبيل المثال لا الحصر اذكر: فؤاد نصار احد مؤسسي الحزب الشيوعي، وجورج حبش مؤسس الجبهة الشعبية وعبدالله نعواس احد مؤسسي حزب البعث وخليل السكاكيني مؤسس كلية النهضة وموسى ناصر مؤسس كلية بيرزيت وجامعة بيرزيت لاحقا، وشكري حرامي مؤسس كلية الامة ونجيب نصار مؤسس احدى اوائل الصحف وهي «الكرمل» التي حملت شعارا «من لا ارض له لا وطن له» وعيسى العيسى مؤسس صحيفة «فلسطين» في يافا وكثير من المؤرخين امثال بندلي الجوزي ونقولا زيادة وغيرهم، وعشرات غيرهم الذين خاضوا الميادين السياسية والاقتصادية والاعلامية والفنية. وهذه الحال مستمرة حتى اليوم، لان المسيحي لا يضحي اكراما لفلان او علان، انما هو يدافع عن نفسه وارضه ووطنه، ولقد اعطت بيت ساحور في الانتفاضة الاولى مثلا تاريخيا في العصيان المدني والمقاومة السلمية للاحتلال.

ان البابا يمثل اكثر من مليار مسيحي كاثوليكي ولذلك تكتسب زيارته هذه الاهمية والاهتمام، لان صوته مسموع وتأثيره كبير، وهذا يؤكد التأثيرات والنتائج الهامة للمعركة السياسية التي ترافق زيارته، خاصة مع وجود جيش اعلامي عالمي يتكون من نحو 800 صحفي لتغطية الزيارة وتفاصيلها.