المستور: مجلة الفقراء تغني الصحافة بالتحقيقات الصحفية

الرابط المختصر

لا يكفي ان تكون مجلة "المستور" الشهرية، أول مجلة متخصصة بقضايا الفقراء، على صعيد الوطن العربي ككل، بل ان مجلة الفقراء الفقيرة بإمكانيتها أعادت الاعتبار إلى مفهوم التحقيق الصحفي في الأردن.خرج العددان الأولان من المجلة (حزيران وتموز)، بمجموعة من التحقيقات الصحفية الجدية غطت عدة جوانب من عالم الفقراء في الأردن، بعض هذه التحقيقات كتبت بأقلام صحفيين تمرسوا في العمل بصحف محلية، فيما كتب متخصصون في علم الأنثروبولوجيا التحقيقات الأخرى.



يقول الكاتب فهد الفانك في مقال له بصحيفة "الرأي" (13/12/2004) بعنوان "ثلاثية التحقيق الصحفي": "التحقيق الصحفي عملة نادرة في الصحافة الأردنية، فهو يحتاج للتفرغ لأيام او اسابيع، وقد يتطلب تكاليف لا تطيقها إدارات الصحف، التي تتخوف أساسا من ان تحقيقا صحفيا في العمق يمكن ان يجلب لها المتاعب".



بعيدا عن مراجعة التحقيقات التي حفلت بها أعداد المجلة، فإن صدورها بكل هذا المحتوى من التحقيق الصحفي الجدي، يدفع إلى إعادة طرح سؤال طالما بقي يتردد حائرا في الأوساط الاعلامية المحلية وهو: لماذا تغيب صحفنا اليومية التحقيق الصحفي ولماذا "مسخ" هذا الفن إلى مجرد "استطلاع لرأي" مواطنين او مسؤولين عن قضية ما لدى العديد من الصحفيين؟.



يقول الصحفي والكاتب أحمد أبو خليل، رئيس تحرير وناشر مجلة "المستور" أنها متخصصة بتغطية قضايا الفقراء والمهمشين من منظور علم الأنثروبولوجيا. "الأنثروبولوجي حين يذهب الى الميدان لا يعمل بعين الصحفي، ولكن "المستور" أرادت ان تقدم منتج يقترب من روح العمل والتحقيق الصحفي دون إغفال البحث النظري المعمق".



الباحث فهمي عبد العزيز الذي قدم تحقيقا مميزا ومبتكرا في العدد الثاني عن الفقراء الذين يعيشون بجوار مكب نفايات "الاكيدر" ويعتاشون عليه، يقول أنه عندما "يذهب الى الميدان يعمل بعين الباحث الانثربولوجي ولكن عندما يكتب يكون في الذهن ان يخرج المنتج قريب الى محتوى التحقيق الصحفي وهو خط وضعته هيئة تحرير المجلة".



التحقيق الصحفي يسلط الضوء على قصة تحتاج الى استقصاء وبحث، لكشف المستور منها، وعبد العزيز الذي أقام الى جوار المكب ثلاثة أيام قضاها في ملاحظة واستطلاع طريقة حياة هؤلاء الفقراء، يقول انه لم يقرأ سابقا عن هؤلاء الناس وهو نفسه لم يكن يعرف ان هناك فقراء يقيمون على جانب المكب واكثر علمه كان بمن يقومون بالتقاط رزقهم من الحاويات فقط.



ويرى عبد العزيز ان قصة العيش إلى جانب مكب نفايات "غريبة وغير معروفة وكانت تستحق ان يتم تناولها في الصحف من خلال تحقيقات تلقي الضوء على واقع قطاع من الفقراء، هذا إلى جانب البحث النظري".



الصحفي سمير أبو هلالة، وهو احد المتطوعين للعمل في المجلة، عزا غياب التحقيقات الصحفية الجدية عن الصحافة المحلية إلى تدني سقف الحريات، ويقول: "التحقيق الصحفي الاستقصائي يتطلب سقف حرية أعلى وفي الأردن، رغم كل الانفراج، إلا أن سقف الحرية لا زال دون أن يسمح بإجراء تحقيقات".



ويرى أبو هلالة أن الرقابة التي تفرضها الصحف على نفسها عامل آخر يعيق من قدرة الصحفيين على إجراء تحقيقات صحفية جدية.



إلا ان ابو هلالة يضيف سببا آخر الى اسباب ظلم التحقيق الصحفي في الصحف فهو يرى ان مثل هذا النوع من العمل يحتاج الى ما يسميه بـ"إيمانية" الصحفي بعمله ورسالته وان "الصحفي ليس موظفا يعمل 8 ساعات فقط يريد ان يقضيها كيفما اتفق ويقدم أي مادة كانت".



الصحفية هديل غبون، من أسرة المجلة وتعمل بصحيفة "العرب اليوم" أيضا، ترى ان السبب الرئيسي في غياب التحقيقات الصحفية عن الصحف هو "عدم وجود قسم متخصص". وتعتقد غبون أن ضغوط العمل على المندوبين تحد من قدرتهم كثيرا على إجراء تحقيقات صحفية تتطلب جهدا ووقتا فيما يكون المحرر بحاجة الى مواد سريعة لإغلاق الصفحة.



وترى غبون في تدني رواتب الصحفيين سببا آخر يمنعهم من إجراء تحقيقات قد تطلب، وإضافة إلى عامل الوقت هناك تكاليف لا تكون دائما في متناول الصحفي الذي يتقاضى راتبا اقل من ان يكفيه تأمين وسائل عيشه الأساسية.



وتضيف غبون في الافتقار الى الكفاءات وعدم امتلاك الرؤية الواضحة لدى المحررين وغياب مصادر المعلومات كعوامل أخرى تؤثر في قدرة الصحفي على إجراء تحقيقات جدية.



وتتفق غبون مع زميلها أبو هلالة في ان استقلالية وسيلة الإعلام عامل مهم في قدرتها على القيام بالتحقيق الصحفي.



أما زميلتها في نفس المجلة الصحيفة هيفاء الشيوخي فهي ترى ان المشكلة تكمن في ان الصحفيين لا يعملون على تطوير أدواتهم وان مفهوم التحقيق الصحفي غير واضح عند الكثيرين منهم. كما ترى من واقع خبرتها ان عامل الوقت والعمل في صحيفة يومية يلقي ضغوطا كبيرة على الصحفي لا تتيح له المدى اللازم لإجراء تحقيقات جدية.



قد لا تكون التحقيقات الصحفية المنشورة في عددي مجلة "المستور" تتضمن كل عناصر التحقيق وخاصة استطلاع آراء المعنيين او المسؤولين لتوفير ركن "الموضوعية والتوازن" في التحقيقات، ولكن ما يشفع للمجلة هو ان المسؤول قال ويقول رأيه يوميا عبر كافة وسائل الاعلام وهي متاحة له على مدار الساعة، وفي المقابل فإن المجلة معنية اساسا بتقديم قضايا الفقراء من زاويتهم هم، معنية بتقديم حياتهم كما يعيشونها لا كما تزينها التصريحات او ندوات الفقر.



وربما يقال ان تحقيقات "المستور" لم تتعد السقف الممنوح حتى الآن، ولكن المجلة التي يقول ناشرها ان اهم ما يملكه هو "تقديم إعلام نظيف ومستقل" يبقي افقها مفتوحا على المجهول، على ما يرى سمير ابو هلالة، إذ يؤكد ان المجلة في "طور البداية فهل سيتسع صدر الحكومات لما قد تطرحه المجلة مستقبلا".



مجلة "المستور" ايضا مجلة قامت بجهود فردية وبأقل الامكانات المالية الممكنة، ولا زالت بعيدة حتى عن مجرد تمويل ذاتها بذاتها، وهي إذ خرجت بكل هذه التحقيقات تثبت بالفعل مدى مقدرة الصحفي الأردني المؤمن برسالة الإعلام، على إبداع عمل مميز ومدى عجز مؤسسات صحفية كبرى تمتلك من الإمكانات المالية الكثيرة ورغم ذلك بقيت عاجزة عن مثل هذا العمل الصحفي الخطير الذي أدى في دول الى إسقاط حكومات وهزات سياسية.



في أي حال، اذا كان التحقيق الصحفي في الصحافة المحلية، عملة نادرة، بحسب الفانك، فإن مبادرات كثيرة اتخذت لتشجيع ودفع الصحفيين والصحف الى الاهتمام به وخصصت عدة ندوات وورش عمل لتدريب الصحفيين، وتمنح السفارة البريطانية جائزة سنوية لأفضل تحقيق صحفي.



ومع كل هذا فقد بقي التحقيق الصحفي، نادرا وبلا أي شك فإن سقف الحريات يبقى العامل الأساس في كل هذا الفقر في التحقيقات. وتبقى مؤسساتنا الصحفية الكبرى تعمل يوما بيوم ويبقي محررو الصحف مشدودين الى اغلاق صفحاتهم عند الوقت المحدد دون كبير عناية بالمضمون الإعلامي فليس مهما ان تحشد الصفحة بأخبار الوكالات او بأشباه الاستطلاعات والتحقيقات التي تتكرر بلا نهاية.



دون امتلاك خطط حقيقية وتفريغ كادر صحفي والعمل على تدريبه وتوفير الامكانات اللازمة له، فإن التحقيق الصحفي لن يبقى فقط عملة نادرة بل سينقرض حتما في مواجهة عقلية "بدنا نسكر الصفحة".



"المستور" قدمت نموذجا ومثلا في القدرة على الإبداع وأحيت الأمل في ان الصحفي المحلي لم يفقد بعد الإيمان برسالة الإعلام، وإن بأقل التكاليف.

أضف تعليقك