المرأة بين مرآة النصوص وسراب المذبذبين

المرأة بين مرآة النصوص وسراب المذبذبين
الرابط المختصر

 

في مضمار الحديث عن حقوق المرأة ومكافحة التمييز ضدها، يبرز النقاش الصفسطائي القائم على تجهيل المخالف وجرّه إلى سراديب الاختلافات في الفهم والتأويل بوصفه ملاذاً آمناً لفريق "إثبات المنفي"من دعاة "الوسطية الدينية" الذين يسعون لضحد الأدلة والحجج التي تنطق بها النصوص التي تؤكد على أنّ المرأة من حيث المبدأ تحتل مرتبةً أدنى بحكم "قوامة" الرجل الثابتة عليها له نصّاً وعملاً، ليبدأ عند هذه النقطة عمل هذا الفريق الشاق المتمثل بصرف المعاني عن مقاصدها والألفاظ عن مواضعها، فتراه يجعل "القوامة" قوامةً اقتصاديةً وحسب ثم يزيد على ذلك بأنها –أي تلك القوامة- إنما سنّت "تكريماً" للمرأة و "إراحةً" لها أو "لتفريغها للمهمة الأسمى؛ تربية النشء..."، وإن كان من بين أتباع هذا الفريق من هو إلى "يسار الوسط" فسوف يرفع في وجهك حجة "السياق" و "سبب النزول" وما إلى ذلك من التبريرات التي لا تقوى على الصمود في وجه ظاهر ومضامين النصوص ذاتها التي تنفي ما يسعى هؤلاء لإثباته.

 

في المقابل، يفتح هذا الفريق وهو في وغى معركة إثبات المنفي على نفسه جبهات لا قبل له بها مع الفقهاء العارفين بعلم أصول الفقه الذي من بين قواعده: "العبرة بعموم النص وليس بخصوص السبب" و "العام لا يخصصه إلا خاص" و "المطلق لا يقيده إلا مُقيِّد..."، هذه الجبهة الأصولية الفقهية تبدو أشد ضراوة على فريق "إثبات المنفي" الذي يبدوحاله كحال المنافقين الموصوفين بأنهم: "مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء".

 

يجد"المذبذبون" في تسطيح القضية ونقل البحث من عميق التأصيل إلى هلامية التفاصيل، مخرجاً لتبرئة المتهم في قضية التمييز ضد المرأة وامتهان كرامتها، فتجدهم عوضاً عن مناقشة حقيقة أن المرأة من وجهة نظر الموروث تعد طرفاً "ناقصاً ضعيفاً" من حيث المبدأ، يركزون اهتمامهم على حصر ذلك "النقص" و "الضعف" في مجالات محددة مثل: (الإنفاق وإمامة المصلين في المساجد وتولي القضاء وولاية الأمر وقيادة الجيوش...)، غير مدركين أنّ تلكم المجالات تجمع مناحي الحاية برمتها! من جهة أخرى، يستغرق جانب من هؤلاء في تفنيد هذه النظرة الدونية للمرأة بمبررات تؤكد تلك النظرة ولا تنفيها وتعكس التناقض والصراع المخيفَين اللذان يعيشهما"المذبذبون"؛ فتراهم يلهجون جميعهم بعبارات "هذا لحمايتها... ورعايتها... وصوناً لها..." أي أنهم يسلكون المنهج القوامي الوصائي عينه الذي يحاولون عبثاً نفيه أو التخفيف من وطأته.

 

أخرج مسلم في صحيحه كما أخرج غيره من أئمة الحديث حديثاً يبين بعض مبطلات الصلاة ومن بينها: "مرور كلب أو امرأة أو حمار" بين يدي المصلي! وفي إجابة على سؤال حول هذا الحديث يقول الشيخ عبد العزيز بن باز مفتي المملكة العربية السعودية الراحل على موقعه الرسمي (http://www.binbaz.org.sa/node/21033)؛ بأن هذا الحديث صحيح وقد ورد من طرق مختلفة، ويضيف؛ أنه ثبت انزعاج السيدة عائشة من هذا الحديث حيث قالت: "بئس ما  شبهتمونا به..." ثم أردفت مبيّنةً أنها كانت تضّجع على السرير بينما الرسول يصلي أمامها، فيعقب الشيخ على ذلك ببيان أنّ:("الاضطجاع" غير المرور القريب وأنّ السيدة عائشةقد تخفى عليها بعض الأمور على الرغم من فقهها...وأنّ قولها ليس حكما فقهياً والعبرة بالمروي عن الرسول).

 

في الاتجاه نفسه، فإن الآيات التي تبيّن حكم التيمم في سورة النساء تورد مسوغات "إزالة النجاسة" بالتراب في حال انعدام الماء بأنها "المجيء من الغائط أو ملامسة النساء".

 

هذان المثالان وغيرهما من إقران المرأة ب"الكلاب" و "الحمير" و "الفروغ من الغائط" واعتبارها من مبطلات الصلاة أو الوضوء أو موجبات الطهارة.... كلها لا يمكن الادعاء بأنها جاءت مصادفةً أو تزيّداً لأنه يجب دائماً تنزيه الشارع عن اللغو أو التزيّد، وإذا أراد المخالفون القول بغير ذلك فهذا شأنهم، لكن ما لا يحتمل الخلاف هو أن للنصوص وتراتبية ألفاظها وعباراتها دلالات لا يجادل فيها إلا من يرفض التسليم بما ترتبه تلك الدلالات من حقائق ونتائج، ولا حاجة في هذا المقام للدخول أعمق في هذه المسائل الفقهية وطرح أسئلة مشروعة من مثل: "لماذا لا يوَجَّه الخطاب للمرأة بأن عليها الاغتسال أو التيمم إن "لامست الرجال"؟ فهذا شأنٌ آخر يحتاج لتأمل من فريق "عنزة ولو طارت".

 

الأمر القرآني الصريح بضرب المرأة الذي تصدّقه الأحاديث الصحيحة التي تصف كيفية الضرب وضوابطه، يقف حجر عثرة في وجه "المذبذبين" أهل إثبات المنفي الذين بلغ بهم الشطط في هذا المقام أيما مبلغ؛ حتى أنهم صرفوا كلمة "الضرب" إلى غير معناها الذي ينطق به النص والسياق والممارسة، فجعلوها "الضرب صفحا" و "الضرب في الأرض" و "ضرب العملة..."! وبغض النظر عمّا تنطوي عليه هذه التأويلات من فكاهة وعبثية لا يصلح معهما أخذهما على محمل الجد، فإنّ جوهر الإشكال يتجاوز معنى "الضرب" رغم وضوحه، إلى أصل الفلسفة التي تجعل المرأة محلاً للسلطة التأديبية التي يمارسها الرجل المؤدِّب حتى لو كان غير مؤَدَّب.

 

يعود الباحثون عن إثبات المنفي للدوران في حلقتهم المفرغة ذاتها حينما ينتقل الحديث إلى أحكام المواريث وإعطاء الذكر ضعف نصيب الأنثى، فيبررون ذلك بأنه: "أفضل لها" لكون نفقتها واجبة على الرجل، ليعود السؤال مرةً أخرى: "ولماذا تجب نفقتها على الرجل وليس العكس؟" ليأتي الجواب من الدائرة المفرغة عينها: "لأن الرجال قوّامون على النساء بما أنفقوا"... وهكذا دواليك، مع ترك التساؤل معلقاً عن حقيقة أنّ المرأة كثيراً ما تنفق على أسرتها وتُعيل ذكوراً سوف يأخذون ضعف نصيبها من الميراث.

 

الضرب والنفقة والمواريث ونواقض الطهارة ونواقص الأهلية... ما هي إلا غيض من فيض النصوص وتطبيقاتها التي يقطع جماعها بأن المرأة عورة واجبة الستر وفجوة بحاجة إلى جَسْر، أما التباهي بما "أفاء" به الرجال على المرأة من مناصب وحقوق في بعض الدول الإسلامية، فعلى الرغم من محدوديته وفوقية إبرازه، يجب ردّ الفضل فيه إلى أهله وهي المرأة ذاتها في تلك الدول بما خاضته من نضال وكفاح مريرَين على مدار عقود ومرجعيتها في ذلك مواثيق حقوق الإنسان، ناهيك عن البواعث السياسية "التلميعية" التي دفعت بعض الدول للمصادقة على اتفاقية سيداو وبروتوكولها الاختياري رغم أنها تمنع المرأة حتى من الجلوس خلف عجلة القيادة.

 

ليس مطلوباً اتهام الموروث ولا تبرئته، وإنما المراد تحييده وإخراجه من مضمار "المنافسة" مع مبادئ حقوق الإنسان ومضامين المواثيق والاتفاقيات المبنية عليها، أما إذا أبى البعض غير ذلك، فعليهم خوض معركة خاسرة تبدو فيها مضامين مبادئ المساواة وعدم التمييز وتكافؤ الفرص واحترام الكرامة المتأصلة للمرأة.. بصبغتها الأصيلة غير المأدلجة؛ على طرف نقيض مع صريح النصوص وتطبيقاتها المتواترة، فالعبرة بمرآة النصوص وليس بسراب المذبذبين.