المثقفون السوريون يعيدون صياغة السياسة السورية

الرابط المختصر

في زيارة أخيرة للعاصمة دمشق استوقفتني بعض المشاهد والتفاصيل التي بدأت تحرك المشهد الثقافي السوري، او تعصف به اذا توخينا الدقة في نقل الصورة والحدث.. في محاولات جريئة يقوم بها كتاب ومثقفون سوريون للتعبير عن مواقفهم تجاه الأحداث التي تعبرها بلادهم، حيث تشكل السياسة شغلهم الشاغل ساعين بذلك للحديث بصوت عال عن جميع ما صمتوا عنه دهورا، والسعي لتوفير مناخ من الحرية لا سقوف له؛ خارجين بذلك عن سلطة الحزب الواحد الحاكم وعن تلك الرؤية الأحادية النظرة التي بقيت تمثلهم عبر سنين طويلة من حكم البعث لسوريا.معتبرين أنهم يتحملون مسئولياتهم أمام شعبهم بوصفهم نخبا ثقافية وفكرية إضافة لرغبتهم بالتعويض عن فترات سكتوا فيها كرها وإجبارا.



قبل أسابيع فقط نشر الصحفي وكاتب الدراما السوري حكم البابا كتابه بعنوان (كتاب في الخوف: شاهد عيان على الصحافة السورية )، واللافت للنظر أن الكتاب قد صدر عن دار كنعان للنشر الدمشقية وقد حصل على موافقة وزارة الإعلام السورية، على الرغم من أن المقالات المنشورة فيه أحدثت عند نشرها لأول مرّة في الصحف العربية ردود فعل كثيرة وعنيفة.. فقد جمع البابا العديد من المقالات التي نشرها في عدة صحف

ومجلات عربية كـ(النهار) و(المحاور)اللبنانيتين و(القدس العربي) اللندنية و(العرب اليوم) الأردنية، إضافة للعدد الأخير من جريدة (الدومري) السورية أول شهيدة للإعلام الخاص في سورية، خلال السنوات الأربع الأخيرة حول الوضع الإعلامي في سورية، من خلال تجربته الشخصية داخل مؤسسات هذا الاعلام، وكشف فيها السياسات العامة لهذا الإعلام، والعقلية التي أدارته، وأساليب العمل المتبعة فيه، والمعاناة التي يعيشها الصحفي السوري، والخطوط الحمر التي عليه أن يتفاداها، وانعدام المهنية في تعامل الإعلام السوري مع الأخبار والأحداث.



ويقدم البابا كتابه بقوله:" المطلوب من هذا الكتاب تقديم صورة عن الظروف غير العادية التي عمل ويعمل بها الصحافي السوري خلال سنوات من الرقابة والطمس والإلغاء، ومحاولته الجادة والخطرة لرفع السقف لتجاوز الخطوط الحمراء، والتأكيد على وجود الصحافي السوري العنيد الذي بقي رغم كل ما مرّ على إعلامه من حملات تنظيفية استهدفت اقتلاع أنياب النقد والتفكير والعقل، لصالح حشد من الصحفيين الانكشاريين مغسولي الأدمغة الذين ضخوا في الجسد الصحافي والإعلامي واستُخدموا كشهود زور وبواقين ومروجي فساد واستبداد، ومن خلال ذلك التأريخ لمرحلة غير مشرقة من تاريخ الصحافة والإعلام في سورية، ولصحف لم يكن فيها صحافة إنما كان فيها صحفيون لا يستطيع أحد أن ينكر بأنهم لم يصمتوا في وقت كان فيه الصمت هو عنوان مرحلة وأسلوبها وشكلها، وربما بشكل من الأشكال ساهموا في أي تغيير يمكن أن يحصل في سورية، باعتبار أن الاحتجاج على الصمت بدأ في مقالات صحفية استطاعت أن تنقل الخوف إلى من كانوا يخيفوننا".



ويتحدث البابا في أحاديثه الخاصة عن رغبته في الاستمرار في نقد السلطة وان نشر الكتاب في دمشق لا يعد الا حقا من حقوقه الطبيعية لا منة من السلطة يتوجب عليها الشكر، ويؤكد أن محاولات السلطة باسترضائه قائمة على عكس ما كان يحدث سابقا، لكنه يرفض قبول حلول جزئية واعدا جميع من يقابله بالاستمرار والتصميم على نيل الحرية الغائبة .



في المقابل لم تعد مفاجئة مقالات الشاعر والصحفي لقمان ديركي والتي ينشرها في الصحف اللبنانية وعلى مواقع الانترنت السورية والتي تشهد طفرة غير عادية في جرأتها وتجاوزها للمعتاد عليه في الصحافة المطبوعة،واثارت مقالاته التي انتقدت بسخرية الاعلام السوري وتنشئة الحزب الحاكم ووصلت حدتها بتناولها قضية الانسحاب السوري من لبنان وتعليقاته على تصريحات المسؤولين حول الازمة اللبنانية وصلت حد

التهكم على رأس الدولة فيقول في مقاله المعنون ب (أم الذي سرق الخطاب):" سؤال لن يستطيع الرئيس الإجابة عليه، الخطاب المسروق موجود، ولكن يحتاج الرئيس إلى البحث عنه في أعين الـ18 مليون سوري، في نظراتهم الخائفة وأعناقهم الملويّة ، في صرخات أطفالهم الجائعة ، وأنين شيوخهم ، الخطاب خبأه أعضاء المجلس وأعضاء المحفل البوليسي وغطى عليه الكلام المكتوب في جرائدنا والطنين الصادر من

إذاعاتنا والبشاعة الصادرة من تلفزيوناتنا وأصحاب الأموال المسروقة من أجساد أطفالنا، الخطاب المسروق موجود، والذين سرقوه وتقاسموه مزقاً وخبأوه موجودون أيضاً، الخطاب مخبأ تحت كلامهم وطنينهم وبشاعتهم وأموال(هم) ومسدساتهم، فهل يجده الرئيس ؟"



وكان ديركي قد أعلن في خطوة جريئة تأسيس "رابطة الكتّاب المستقلين في سوريا"، و لبّى اكثر من مائة وخمسين كاتبا سوريا الدعوة حتى الآن، وقدمت الرابطة طلب الترخيص متوقعة عدم قدرة النظام على رفض الطلب، واصدرت بيانا عن المجلس التأسيسي للرابطة شرحت رغبة المؤسسين الخروج عن الاتحاد العام للكتاب والذي اعتبروه جهازا ثقافيا يمثل السلطة والحزب الحاميين ولا يخدم حتما مصالح الكتاب التي تقاس اوزانهم حسب قربهم من النظام او بعدهم عنه، كما هناك اسماء مهمة فصلها الاتحاد او لم يقبل أسماءها أصلا بسبب مواقفها السياسية، وستتم دعوة كل الكتّاب في سوريا لحضور المؤتمر الأول للرابطة بعد إشهارها.



ويعلق ديركي الذي فور تأسيسه الرابطة رفض ان يتولى اي مناصب معبرا عن رغبة صادقة عنده بمأسسة الدولة وإنهاء عصر المركزية والرؤية الواحدة في الحكم بعد ان همش دور المبدعين منذ فترة طويلة مما أصاب الكتّاب السوريون باليأس والعزلة، وإن الرابطة تدعو الكاتب في سوريا الى القيام بدورره تجاه مجتمعه بما فيه الخير للبلاد.



ديركي يرفض ان يصنف رجل سياسة او كاتبا سياسيا، مؤكدا في خلواته ان ما يقوم به هو فعل ثقافي خالص يجئ في وقت اصبحت مسؤولية انهاء حالة الطوارئ وحكم البعث والقمع والفساد الذي عجز عنه رجال السياسة ؛ فغدا إحدى مهمات المثقفين والكتاب سيحققونها بالتأكيد دون ان يجنوا مكاسب سياسية بعدها بل ليحصلوا على ما ينقصهم كمبدعين فقط.



هذا إضافة لكتّاب بدأوا معارضتهم منذ تولي الأسد الابن الحكم واشتدت مواقفهم حزما منذ فترة قريبة أمثال ميشيل كيلو واكرم وانور البني وياسين الحاج صالح وغيرهم،الذين مازالوا يكتبون في الصحافة اللبنانية والعربية معتبرين ان هذا يحسب لهم بينما لم يستطع كتاب الدولة وساستها الكبار الذين كتبوا قبيل الأزمة

او تكلموا على الفضائيات مرة ومرتين واختفوا بعدها للأبد.



تكثر جلسات السياسة عند المثقفين السوريون يتحدثون بصوت عال في المقاهي والبارات ومندياتهم الثقافية الخاصة عن القضايا الحساسة وبطريقة مختلفة عن ما يحكى في وسائل الاعلام الرسمية، فيوقعون على بيان سرعان ما ينشر على المواقع الالكترونية المختلفة والتي يديرها اناس في الخارج والداخل او بيانات توزع على من يهمهم الامر ، ولكن الجميع يؤكد ان الوقت قد تأخر على النظام الحاكم وإنهم ينتظرون المؤتمر القادم للحزب الحاكم والذين يتوقعون فيه تصفيات داخل الحزب والجبهة التقدمية . ولكن ما سيحدث على ارض الواقع سيتجاوز مقررات المؤتمر بالطبع..وان اصطفافات وافرازات سياسية جديدة ستظهر في الساحة السياسية السورية سيكون للمثقفين فيه الدور الأبرز بسباب الغياب التام لجميع القوى والفعاليات السياسية في بلد كسوريا.



* صحفي وكاتب في صحيفة العرب اليوم

أضف تعليقك