الصحافة والجريمة: تغطية تعوزها المهنية وتفتقد خارطة طريق

الرابط المختصر

بعد ايام من التغطية الكثيفة والمتابعة خرجت فيها عن ضوابط واصول المهنة، توقفت الصحف المحلية فجأة عن متابعة اخبار "عملية النصب والاحتيال في البورصة"، وجاء هذا التوقف بعد ان اصدر مدير دائرة المطبوعات النشر قرارا يمنع النشر في الجريمة التي لا زالت في طور التحقيقات الاولية.

في التاسع من الشهر الجاري خرجت بعض الصحف المحلية وخاصة جريدة "الرأي" بخبر عن عملية نصب واحتيال تعرض لها مواطنون وقدرت قيمتها بملايين الدولارات، واسندت التهمة، بحسب الصحف، الى شاب في العشرين من عمره. وفيما كانت صحيفة "الرأي" انجرفت الى مستوى صحف الاثارة وهي تنشر تفاصيل موسعة عن الخبر نقلا عن مصادر مغفلة، نشرت الاسم الكامل لبطل عملية النصب المفترض وصورته نشرت صحيفة "الغد" تفاصيل مشابهة ولكنها اغفلت ذكر الاسم الصريح لـ"المتهم" مكتفية بالاحرف الاولى، اما صحيفة فقد نشرت "الدستور" خبرا مفردا على صفحتها الاولى دون الكثير من التفاصيل. وفي هذا يبدو ان كل الصحف استقت الخبر من مصدر واحد يرجح ان يكون من دائرة الادعاء العام.

وفي اليوم التالي بدات كل الصحف تتسابق في نشر المزيد من التفاصيل عن الجريمة الجديدة ما دفع بالاعلام الرسمي ممثلا بالتلفزيون اساسا الى استضافة محللين اقتصاديين للحديث عن اثار الجريمة. ويبدو ايضا ان التلفزيون قام بما قام به خشية من تاثير خبر الجريمة على تعاملت سوق الاسهم بعد الخلط الذي مارسته الصحف في نقل وقائع الجريمة التي لا زالت حتى الان غامضة.

وبالفعل فان ما لا يمكن انكاره هو ان عملية النشر بالطريقة التي تمت بها وما شابها من خلط بين كون الجريمة تتعلق بالمضاربة بالعملات الاجنبية والذهب، وهو ما ليس له علاقة بسوق الاسهم او البورصة، احدثت خلالا في أداء السوق، تمثل في عملية تراجع مستمر للمؤشر على مدار الاسبوع الماضي.

امام هذا الوضع كان على رئيس هيئة الاوراق المالية، بسام الساكت، اصدار بيان وزع على الصحف، (نشر بتاريخ 15/12)، يوضح فيه ملابسات الجريمة، محاولا طمأنة المتعاملين في السوق على سلامة وضعه وسلامة وضع الشركات المرخص لها بالعمل في هذا القطاع. وكان على مدير دائرة المطبوعات والنشر، مروان قطيشات، اصدر امرا في نفس اليوم بمنع عملية النشر بالقضية المنظورة تحت التحقيق وقد التزمت الصحف بالامر ولكن بعد فوات الاوان.

واذا كان من حق الاعلام بالكامل نشر أي معلومة يتم التحقق من صحتها وتهم المواطن، بما هو دور الاعلام الرئيسي، الا ان الصحف المحلية وخاصة اليوميات الكبرى خرجت عن اصول المهنة وتعاطت بالكثير من "الاثارة"، متأثرة بعمل الاسبوعيات الى حد كبير.

كانت صحيفة "الرأي" وهي الصحيفة المعروفة بمحافظتها واتزانها، الاكثر في الانجرار الى عملية الاثارة هذه خروجا عن اصول المهنة، فهي منذ اللحظة الاولى وجهت اصابع الاتهام الى مواطن محدد وقامت بنشر اسمه الكامل وصورته وقد نصبت بذلك نفسها مدعيا وقاضيا دون أي التفات الى حقوق المتهم والى مبدأ قرينة البراءة والى احتمال وجود تداعيات اكبر للجريمة سواء من ناحية الشخصيات الفاعلة فيها او من ناحية تأثيرها على الاقتصاد، هذا بالاضافة الى ان التفاصيل التي نشرتها الصحيفة لم تكن دقيقة خاصة لناحية التعامل مع سوق الاسهم.

الى ذلك، لم تحترم الصحف خصوصية "المتهم" ولاحقت تفاصيل عن حياته، وقام بعضها بالاتصال مع ذويه دون ادنى تحقيق في مدى صحة التهمة الموجهة اليه، ولاحقا اضافت الصحف اسماء جديدة ونشرتها بالكامل.

لم تكن الصحف وهي تنشر تفاصيل الجريمة الجديدة تخرق اصول المهنة فقط فهي ايضا خرقت قانون المطبوعات والنشر الذي يحظر نشر تفاصيل الجرائم التي يجري التحقيق فيها.

على ان عملية النشر هذه لا تتحمل الصحف وحدها المسؤولية عنها فيبدو انها كانت جميعها تستقي معلوماتها من مصدر واحد كان المفترض فيه التكتم على الكثير من التفاصيل، خاصة وان الجريمة تحت التحقيق وتفاصيلها لا تزال محل غموض. هذا اضافة الى ان الحكومة ممثلة بهيئة الاوراق المالية تأخرت كثيرا في اصدار بيان رسمي يوضح ملابسات الجريمة وعلاقتها بعمل سوق المال.

هناك مسألة اخرى، تبين من جهة ما هو المتاح للصحف نشره وما لا يمكن البوح به، ومن جهة اخرى، مدى عملية استسهال الصحف وازدواجيتها في نشر اخبار الجريمة، ففيما كانت اليوميات تتسابق في نشر تفاصيل جريمة ما اطلقت عليه "احتيال البورصة الالكترونية او شركة ابكس"، امتنعت بالكامل عن التحقق من مدى صحة "فضحية فساد جديدة" يشاع ان بعض المتورطين فيها مسؤولون رسميون تم اقصائهم عن مواقعهم في التغييرات الاخيرة. وهذا الامر تناوله الكاتب والمحلل فهد الخيطان في صحيفة "العرب اليوم" (17/12)، مؤكدا وجود مثل هذه "الفضيحة"، مشتكيا من عدم تعامل الاجهزة الرسمية بشفافية مع الصحافة وقيامها بحجب كل المعلومات المتعلقة بهذه "الفضيحة"، وباستثناء مقالة الخيطان هذه، فان الصحافة عجزت عن تقديم معلومات للقاريء ولم تقم بممارسة دورها في علمية التحقيق الاستقصائي، واستسهلت الحصول على معلومات حول جريمة محددة، متجاهلة جريمة اخرى ربما تكون اكثر خطورة.

على أي حال، لقد اصبح نشر اخبار الجرائم محل تسابق للصحف بعد ان اكتشف الاعلام غرام المواطنين بمثل هذه الأخبار، التي باتت تنازع اخبارا اخرى على الصفحة الاولى، وقامت بعض الصحف بافراد صفحات وملاحق مخصصة للحوادث والجرائم، بل وظهرت صحف اسبوعية متخصصة في نشر اخبار الجرائم مثل صحيفة "حوادث الساعة" التي كانت تجد نفسها في احيان كثيرة مجبرة على نشر اخبار جرائم من الخارج في ظل عدم توفر معطيات عن جرائم محلية "مثيرة لغيزة القاريء".

لا يمكن النظر الى هذه الظاهرة بمعزل عن التطورات الاجتماعية الحاصلة، فالجريمة ليست من اختراع الاعلام اصلا، وقد اظهرت الارقام الرسمية ارتفاعا في معدلات الجريمة خلال السنوات الماضية وهذا امر مفهوم في ظل تعقد ظروف الحياة وزيادة عدد العاطلين عن العمل وتدفق ملايين الوافدين الى الاردن واستشراء "ثقافة الإثراء السريع"، وكل هذا جرى مع عودة الحياة الديمقراطية الى الاردن حيث لم يعد مقص الرقيب فاعلا بشكل كبير ما منح الصحافة حرية اكبر في النشر.

تظهر الدراسات الاعلامية الحديثة اتجاهات متباينة بخصوص تركيز الاعلام على نشر اخبار الجرائم، ففيما تظهر بعض الدراسات ان عملية النشر هذه اسهمت في زيادة وعي المواطن وتجنب الوقوع في حبائل الجريمة. فقد اظهرت دراسات اخرى الجانب السلبي المتعلق بفقدان ثقة المواطن بالمجتمع نفسه وخلق انطباع عام لدى الجمهور مفاده تنامي الجريمة بشكل كبير، لا يعكس دائما حقيقة ما يجري في الواقع خاصة وان القاريء يميل دوما الى قراءة اخبار الجرائم وتجاهل اخبار اخرى من نمط تلك التي توزعها دائرة العلاقات العامة في الامن العام او تقارير دائرة مكافحة الفساد او غيرها التي تعطي الصورة المقابلة.

تجد الصحافة المحلية نفسها امام اشكالية وهي تنشر اخبار الجرائم، ولابد والحال هذه، من وضع اسس مهنية صحيحة تسمح للصحف بممارسة دورها من ناحية، وعدم الاخلال بضوابط المهنة واخلاقياتها من ناحية اخرى، بما يؤثر على مصداقيتها وعلى ثقة المواطن بالمعلومة وبالاقتصاد وكل اداء الدولة والمجتمع.

وهنا تجدر الاشارة الى بعض المسائل التي يمكن الاخذ بها من اجل عملية تغطية مهنية متوازنة للجريمة:

•تأكيد حق الصحافة في الاطلاع على المعلومات من مصادر رسمية وعدم حجبها او التعامل الانتقائي في تسريب المعلومات او نشرها. فليس من حق الحكومة السماح للصحف بنشر معلومات عن جريمة وحجب اخرى، كما ليس من حق الحكومة حجب أي معلومة قد تفيد المواطن ومن واجب الحكومة التعامل بشفافية مع الاعلام ولو على الاقل من باب وقف الإشاعات وتدفق المعلومات غير الحقيقة وتهويل الحقائق وانصافها.

•اما الصحافة فهي مطالبة بتخصيص عدد من صحفييها للتعامل مع اخبار الجرائم، وتدريبهم وزيادة وعيهم لاداراك حجم المسؤولية الاجتماعية كمبدأ من مباديء العمل الاعلامي.

•لا يجب ان تضر المعلومات المنشورة أي شخص او اسرة او مؤسسة، طالما لم يب القضاء في الجريمة ويجب ان تكون المعلومات دقيقة بالكامل ومتحقق من صحتها من اكثر من مصدر.

•يجب على الصحافة احترام أصول العمل المهني في مجال تغطية اخبار الجريمة، فالمتهم بريء الى ان تثبت ادانته، والجريمة يجب ان تعامل منذ البداية وحتى صدور قرار اتهام على مبدأ ان الجريمة قد تكون خطأ وان مرتكبها ليس شرا بالكامل يستحق يشتم، كما على الصحافة احترام خصوصية اسرته التي ربما ليس لها أي ذنب في كل ما ارتكب.

•وضع مباديء مهنية صارمة في عملية نشر الصور وبناء الخبر وملاحقة التفاصيل والابتعاد عن الاثارة والعاطفية والاحكام الاخلاقية من خلال تقديم صياغة خبرية موضوعية.

المجتمع الاردني ليس مجتمع "المدينة الفاضلة" فهو ككل مجتمع تتفاعل فيها قوى اجتماعية مختلفة، وتفرض عليه تعقيدات الحياة انماطا سلوكية متباينة، ولا احد يتوقع ان تنتهي الجريمة في يوم ما بل على العكس هناك مؤشرات على زيادتها وكل ذلك يحتم على الاعلام وضع خارطة طريق للتعامل مع هذا الواقع "الدرامي".

أضف تعليقك