الشخصية بعد ما بعد الحداثية: فيلم "عالم ايميلي" أنموذجا

الشخصية بعد ما بعد الحداثية:  فيلم "عالم ايميلي" أنموذجا
الرابط المختصر

 

في عام 2008 صدر عن مجموعة ديفيس للنشر كتاب بعنوان (الأدائية أو نهاية ما بعد الحداثة) لمؤلفه الأمريكي الألماني السلافي راؤول ايشلمان. يحاول ايشلمان في كتابه تحديد بعد ما بعد الحداثة بوساطة مصطلحات جمالية. نحت ايشلمان مصطلح الأدائية أو performatism في العام 2000, ليبين أن الأعمال في الحقبة الجديدة قد بنيت على نحو يؤدي إلى خبرة السمو والتعالي بطريقة موحدة في وسط جمالي. تقوم الأدائية بهذا العمل بوساطة خلق اشتغالات فنية مغلقة تساعد المشاهدين على التماهي مع شخصيات, أو مواقف بسيطة ومبهمة وأن يختبروا الحب، والجمال، والصدق، والإيمان، والسمو في أُطر خاصة وفي ظروف مصطنعة. ويطبق ايشلمان هذا النموذج على الأدب، والسينما، والعمارة والفلسفة، والفن، منتقيا مختارات بعينها لدراستها ومقاربتها على ضوء مفهومه الجديد. يقول ايشلمان في مطلع الفصل الأول من كتابه: "يمكن تحديد الأدائية ببساطة على أنها الحقبة التي ابتدأ فيها التنافس المباشر بين المفهوم الموحد للعلامة واستراتيجيات الغلق من ناحية، والمفهوم المتشظي للعلامة واستراتيجيات انتهاك الحدود المميز لما بعد الحداثة من ناحية أخرى. كانت النهاية أو الغلق الشكلي لأي عمل فني يُقوَض باستمرار في ما بعد الحداثة بوساطة الأدوات السردية أو المرئية التي تخلق حالة متأصلة لا مفر منها من اللا-قدرة على الحسم بخصوص"حالة الحقيقة" في بعض أجزاء العمل".

 

احتل الشخص مساحة واسعة من المناقشات والرؤى المتباينة في مرحل الحداثة وما بعد الحداثة. في هذا الإطار يقول ايشلمان" تعرض ما بعد الحداثة فخا محكما استثنائيا لا مفر منه أمام الشخص. وأي محاولة يبذلها للعثور على نفسه بوساطة البحث عن المعنى تذهب أدراج الرياح لأن كل علامة تَعِد بنوع من المعرفة الأصيلة تكون متضمنة في سياقات يتطلب شرحها تحديد علامات أكثر. وفي محاولته تحديد نفسه من خلال المعنى فإن الشخص في ما بعد الحداثة يغرق في طوفان المرجعيات المتقاطعة التي تتزايد في الاتساع أكثر من أي وقت مضى. ومع ذلك فإنه حتى لو تشبث بالشكل فلن تكون النتيجة أفضل بحال من الأحوال، لأن ما بعد الحداثة لا ترى في الشكل ترياقا للمعنى، بل إنه أثر يقودنا إلى الوراء نحو سياقات موجودة بالفعل ومثقلة سيميائياً. كما أن أي محاولة لتثبيت المعنى تتبعثر على أشكال متداخلة وكل توظيف لشكل يرتبط بمعان موجودة بالفعل وكل مقاربة للأصالة تعود بنا إلى علامة مغايرة. تنتهي رحلة الشخص الباحث عن المعنى من حيث بدأت: فضاء ما بعد الحداثة الذي يتوسع إلى ما لا نهاية".

 

يرى ايشلمان أن الخروج من ما بعد الحداثة لن يحدث بوساطة تكثيف البحث عن المعنى من خلال إدراج أشكال جديدة مدهشة أو من خلال العودة إلى منبع الأصالة, ولابدـ بدلا من ذلكـ أن نسلك آلية منيعة تماما ومستعصية على نموذج التشظي والتفكيك والتضخم ما بعد الحداثي. هذه الآلية التي بدأنا نشعر بها مع القوة المتزايدة للأحداث الثقافية في السنوات القليلة الماضية, يمكن أن تُفهم على نحو أفضل بتوظيف فكرة الأداء أو الإنجاز (performance).

 

الأداء بحد ذاته ليس ظاهرة جديدة أو غير معرفة؛ ففي نظرية الحديث- الفعل لأوستن يشير الأداء إلى فعل اللغة الذي يحقق ما يعد به، أما بخصوص الحدث الفني في ما يسمى بـ"القصص الكبرى" في مرحلة الحداثة فإن الأداء يبرز أو يُغَرِّب الحد الفاصل بين الفن والحياة, أما في ما بعد الحداثة فإن الأداء يدمج جسد الإنسان أو الشخص ضمن سياق فني في ما يطلق عليه الفن الأدائي أو الحدوثي أي الفن الحدث، غير أن مفهوم الأداء الذي يقترحه ايشلمان مختلف، لا توظف فكرة الأدائية حسب ايشلمان لإبراز أو لسيقنة الشخص ولكنها توظف للحفاظ عليه: "يُقدم الشخص أو (يقدم نفسه) بوصفه وحدة كلية غير قابلة للاختزال مما يعطى القارئ أو المراقب انطباعا بالإلزام.

 

هذا التجسيد الكلي للشخص غير ممكن إلا عندما لا يمنح الشخص سطحا متمايزا سيميائيا يمكن استيعابه وبعثرته على السياقات المحيطة، لهذا السبب فإن الشخص الجديد يظهر للمراقب مختزلا ومتواصلا بوصفه مفردا وحيدا أو بسيط الفكر ومتطابق إلى حد ما مع الأشياء التي يمثلها. هذه الكليَّة المغلقة البسيطة تتطلب فاعلية لا يمكن تحديدها إلا بمصطلحات ثيولوجية، لهذا فإنه يخلق ملاذا تلتجئ إليه تلك الأشياء التي اعتقدت ما بعد الحداثة أو ما بعد البنيوية أنها قد انحلت نهائيا: الغايات, والمؤلف, واليقين, والحب, والعقيدة, وأكثر من هذا بكثير".

 

يعرض ايشلمان أمثلة من الفن والأدب والسينما والعمارة يُطبق فيها المفهوم الأدائي الجديد. يتناول ايشلمان في كتابه فيلم (الجمال الأمريكي)، وفيلم (الحمقى:عودة الأحمق والأعزب)، ورواية (حياة باي) ليان مارتل، وقصة أولغا توكارتشوك القصيرة (فندق الكابيتال)، وفيلم (السفينة الروسية) لألكسندر سوكوروف وأمثلة قصصية وروائية أخرى. كما أنه يتناول فيلم عالم إيميلي (Amélie' World) وهو فيلم فرنسي لاقى نجاحا كبيراً ليس في فرنسا فحسب، وإنما في أمريكا ودول القارة الأوربية. وقد رأيت أن مقاربة هذا الفيلم ربما توضح المعنى المقصود لمفهوم الأدائية بسهولة أكبر.

 

يقول ايشلمان في مقدمة مقاله أخرى تتحدث عن هذا الفيلم تحديدا "دعونا نأخذ أربع أو خمس خصائص نعدها الأكثر توظيفا في تحديد ما بعد الحداثة ويمكن القول أننا سنتفق على المحددات التالية: غياب الموضوع, وإحلال الافتراضي محل الحقيقي أو الأصلي في ما يطلق عليه مصطلح الواقعية المفرطة, والتهكم من العالم وطريقة تسيره، والتشكيك المتطرف بكل ما يتعلق بالمخططات الميتافيزيقية"، ثم يتابع ايشلمان "لو طبقنا هذه المحددات على أربعة أفلام عالية الجودة والتقانة عرضت في الفترة الأخيرة وتساءلنا: ترى هل يتوافق أي منها مع المحددات السابقة؟ أعتقد أن الإجابة ستكون لا, أو على الأقل إذا كان أيا منها يتوافق مع محددات ما بعد الحداثة التي ذكرناها أو غيرها فإن أمر تقصيها في الفيلم لن يكون سهلا أو واضحا".

 

يحلل ايشلمان فيلم (عالم إيميلي) من زاوية ما بعد الحداثة وبعد ما بعد الحداثة على ضوء محدداته السابقة ويقول" فيلم إيميلي ـ لمن لم يشاهده، هو قصة نادلة صغيرة في حانة فرنسية اكتشفت أن بإمكانها جعل الناس سعداء بتنفيذ معجزات صغيرة تغير حياتهم وباختصار, تمارس إيميلي دور مانح السعادة على نطاق صغير وشخصي، لقد جعلت شابا سعيدا حين دلته على مخزن العاب طفولته، وأغرت والدها المتنسك المعتزل بالخروج إلى العالم مرة أخرى بعد خطف تمثال حديقته والطلب من صاحبة نزل صديقة أن ترسل صورا للتمثال منتصبا أمام معالم سياحية أجنبية وبذلك حققت له رغبته في السفر والترحال"، أسكتت إيميلي صاحب العمل المستغل عندما تسللت إلى شقته خفية وغيرت أماكن الأشياء فيها لدرجة أقلقته وجعلته غير قادر على الانتظام في العمل، الأمر الذي أدى إلى منح مخدومه المعوق فرصة الراحة والتقاط الأنفاس، وأخيرا نالت إيميلي جزاء ما قدمته, الحب, لقد عثرت على الحب الحقيقي عندما حاولت أن تمنح السعادة لشاب يجمع ويلصق قصاصات صور ممزقة من أكشاك التصوير في محطات القطارات.

 

الصورة في الفيلم سريعة ونلاحظ أنها تركز على أنف إيميلي في اللحظات الحاسمة كما أنه لا يخلو من الدعابة السوداء أو السوداوية التي كانت كافية لإبعاده عن الأسلوب الكوميدي الأمريكي العاطفي. يطبق ايشلمان الخصائص التي حددها لما بعد الحداثة على الفيلم ليجد:

(1) أن للفيلم موضوعا. مثلت إيميلي صيغة خاصة للموضوع وحددت موضوعات أخرى لجعلها سعيدة ولم تحاول إخفاءها على الإطلاق. لقد أصبحت إيميلي نوعا من المبدأ العام الذي يحتك بكل ما حوله.

(2) يمكن القول أن إحلال الافتراضي محل الحقيقي ينطبق على الفيلم ولكن بطريقة أخرى مغايرة لما هي عليه في ما بعد الحداثة، ذلك أن إسعاد الناس على طريقة إيميلي هو نوع من الفعل التركيبي الافتراضي ولكن الناتج وهو السعادة هي حقيقية بالفعل على الأقل بالنسبة للناس الذين تورطوا معها وتمكنت هي من تغيير حياتهم.

(3) أما النقطة الثالثة فهي التي تتعلق بالتهكم, فعلى الرغم من أن نغمة الفيلم كوميدية وشبه وثائقية، إلا أنه يأخذ ما تقوم به إيميلي على محمل الجد لدرجة انه يجعلنا نتماهى مع أفعالها.

(4) يفترض ايشلمان أن هناك تهكم موقفي متضمن لأن إيميلي لا تستطيع أن تطبق المخططات التي تجعل الناس سعداء على نفسها، ولكن عندما التقط الآخرون فكرتها وطبقوها عليها نجحت. وإذا ما افترضنا أن هذه مفارقة تهكمية فهي تختلف عن تلك السخرية المميزة لما بعد الحداثة كونها ايجابية ومفيدة.

 

تبقى خاصية النزوع إلى التشكيك المتطرف التي تطرح قضية مثيرة. فإذا ما كنا شكاكين ـ على طريقة ما بعد البنيوية ـ فإننا سنشكك باحتمالية جعل الآخرين سعداء، ومن المحتمل أننا سنفترض أن فكرة جعل الناس سعداء، كما تمارس في الفيلم، هي تركيب أو خداع. ولكن إذا كنا نفكر بهذه الطريقة، فإننا لم نستوعب الفكرة الأساسية للفيلم. ذلك أن ما تقوله أحداث الفيلم هو أنه ليس مهما ما إذا كانت السعادة تركيب أو خداع, ما يهم هو النتيجة فحسب. المهم هو أن تكون سعيدا والطريقة غير مهمة على الإطلاق وبالطبع فإن هذه لعنة مطلقة على ما بعد الحداثة التي تعتمد فيها الكينونة دائماً على شيء آخر يرتكز بدوره على مجموعة متشابكة من أشياء أُخر لم نتمكن يوما من السيطرة عليها أو فهم ماهيتها. وأفضل ما يمكننا فعله في ظل هذه الظروف ـ على الأقل بوصفنا ما بعد حداثيين ـ هو التظاهر بالتهكم والسخرية من الموقف لنوضح إدراكنا ووعينا بهذا الوضع بما يكفي لوصفه أو ربما لتخريبه بمكر ولكن ليس لإحداث تغيير جوهري يدوم إلى الأبد.

 

المشكلة الآن ـ يقول ايشلمان:"أن الفنانين والكتاب والسينمائيين والمعماريين قد توقفوا عن إمداد الموقف الساخر والتهكمي، وعكفوا الآن على بناء شخصيات (ونحن من ضمنها) لتكون سعيدة ,ولتحب, ولتؤمن, ولتختبر أشياء جديدة ومتجددة, ولتكون قادرة على السمو والتجاوز. ولأن هذه التراكيب والبناءات تتضمن مواقف تتحمل فيها الشخصيات صعوبات أو تواجه مواقف تتطلب أداء وانجازا فقد أطلق ايشلمان على هذا التطور مصطلح الأدائية أو الإنجازية (performatism ).

 

تمثل الأدائية قطيعة جذرية مع ما بعد الحداثة, على الرغم من أنها لا تزال ملتزمة بها في بعض جوانبها. ولكن عهدا جديدا قد بدأ من مكان ما. وفي الوقت نفسه، فإن الأدائية ليست مجرد إعادة صياغة للحداثة, فهي على عكس الحداثة، لا تدعو إلى إنشاء أصالة أو لتجربة الأشياء مباشرة.

 

وكما شاهدنا في حالة إيميلي، فإن الحالات العاطفية (السعادة، والشقاء، والعشق، أو أي إحساس آخر) قد تم إعدادها أو بناءها، بمساعدة وسائط معينة. وعلى عكس ما بعد الحداثة، فإن الأدائية تريدنا أن نجرب الحالات العاطفية التي تم تركيبها بطريقة لا إرادية على نحو ما. وبعبارة أخرى، فإن الشخصيات تشيد بطريقة تبدو معها أنها تجرب شيئا جديدا وعميقا ومتوفرا. ونفس الشيء، بطبيعة الحال، ينطبق علينا نحن المشاهدين. لقد وضعنا في موقف لا خيار لنا فيه إلا التماهي مع الشخصيات. وغني عن القول، أن ما بعد الحداثيين ينظرون إلى الأدائية على أنها محض هراء, لأنهم فقط ينظرون إلى زاوية واحدة من الموضوع وهي المعرفة المفارقية التي تعتبر الحياة (أو الكائن أو الوجود) مشروطا وطارئا. تجرد الأدائية هذا الموقف من أسلحته من خلال إظهار أن المعرفة ليست هي أهم جزء من التجربة الإنسانية. وبعد فترة من الزمن، لا يهم إذا كانت الشخصيات تعلم أن الحيل الصغيرة التي نفذتها كانت خداعاً، وبالتأكيد لا يهم إذا كان المشاهد يعرف (في الواقع، هذه هي حبكة الفيلم باختصار).

 

ومن وجهة نظر ما بعد الحداثة, فإن الاشتغالات الأدائية في الفن والأدب تبدو غبية أو حمقاء, لأن نجاح الإنجازات لا يعتمد على معرفة الاشتراطات والظروف التي تحيط بها. وفي المقابل، فإن الاشتغالات الأدائية تستنفر مطالبات ما بعد الحداثة بالمعرفة التهكمية المفارقة حين تضع المتخلفين عقليا أو محدودي الذكاء في بؤرة الاهتمام. هذا لا ينطبق تماما على حالة إيميلي، لأن أميلي ليست غبية, بالمعنى الدقيق للكلمة. مع ذلك، فإنه ليس من قبيل المصادفة أنها تساعد بائع الخضار لوسيان المتخلف عقليا في الحصول على حقه، ومن المؤكد أيضا أنه ليس من قبيل المصادفة أن يحرر لوسيان الفنان ـ جار أميلي ـ من حالة الهوس الأحادي. الجار، الذي لا يكف عن رسم لوحة اوغست رينوار نفسها مرارا وتكرارا، ولكنه في نهاية الفيلم يبدأ الرسم بأسلوب لوسيان، البدائي المثير، لا تزال أعماله الجديدة نسخا عن أعمال أخرى، ولكنها(على الأقل) أصبحت ترتكز على سذاجة طبيعية غير واعية ذاتياُ.

 

تنتقل بنا الأدائية من الأجزاء إلى الكل، بعد أن تعلمنا ما بعد الحداثة أن نبقى على مسافة من السياق، وأن نفكك الأجزاء نتفحصها ونحاكمها ونفضح جوانبها الخفية ونتماهى مع السخرية والتهكم ونحدد العثرات والأخطاء. أما الأداء فإنه يضعنا في موقف الاتصال المباشر مع الشخص الذي هو كلا معقدا, أي الشخص الذي لا ينفصل المعنى عنده والرسالة عن بعضهما البعض فيما يعمل الوسيط بوصفه ناقل الرسالة وليس الرسالة ذاتها على الإطلاق: إنه امتداد للموضوع / المؤلف المفارقي الذي يشير إلى ماديته الذاتية وقابليته للخطأ. و بعبارة أخرى، يدرك الشخص الأدائي القيود لكنه يتصرف على أي حال. أما ما بعد الحداثة فإن القيود يمكن أيضا أن يدرك القيود، ولكن مقاربته للحياة من المرجح أن تكون مليئة بالشك والسخرية.

 

لا تعرقل الأخطاء والنقائص من قبيل (محدودية المعرفة، والافتقار إلى المهارات الملائمة أو سمات الوهن) الأدائي, لأنه اختار أن يتصرف بفضل إيمانه أن الفعل في حد ذاته يتطابق في المعنى مع قناعاته وجملة أفعاله الشخصية (الفعل لم يعد علامة تخلق أو تولد المعنى لقد أضحى المعنى في الأدائية هو الفعل ذاته).

 

الأدائيون أقل وعيا وأكثر تواضعا، وكثيرا ما يظهرون حمقى أو مغفلين، ولكنهم تحت السيطرة ومنضبطون بشكل يثير الدهشة. إنهم يعملون لصالح الغير، ولا يتمركزون حول أنفسهم، لكنهم يجدون أنفسهم في دوامة من الخيارات الحقيقية التي تتطلب منهم مخاطرات ومغامرات. هنا يتوافق الشخص مع أفعاله فيما تخضع المعتقدات للأفعال. يلاحظ ايشلمان بهذا الصدد أنه" على الرغم من الاختلاف الكبير في المصادر الدينية, فإن كل المؤلفين الأدائيين يتشاركون في منظور لاهوتي ثقافي وهو: أن التقوى والصلاح سيحل في كل مكان عندما تخلق أفعال الأفراد الشخصية الصالحة الكليات" إن ما يشدنا إلى الأدائيين هو شخصياتهم التي هي خليط من شخصيات، فضلا عن تلك الطريقة التي يرون بها (الإله) في كل مكان حولهم، على الرغم من الأسباب الصارخة التي تحاول منعهم من ذلك. إنهم يستثمرون أنفسهم بالكلية فيما يؤمنون به. ويتطلب ذلك منهم عملا شاقا متواصلا لتعبئتنا, ولكنهم لا يعملون من أجلنا أو من أجل معتقداتهم إنهم يعملون لأنه يتحتم عليهم العمل والأداء والإنجاز. وبعد ذلك يتركون لنا محاولة إدراك لماذا عملوا.

 

والمركز الإنساني في الأدائية هو الشخص الكثيف المبهم لأن المتطلب الشكلي الأبسط للتحول مرة أخرى إلى شخص كلاني هو شخصيات أدائية مكررة أو محشوة  توطد موقفها عن طريق الظهور مبهمة وكثيفة بالنسبة للعالم من حولها. هذه القتامة المبهمة ليست مرغوبة بحد ذاتها، ولكنها تشكل نقطة البداية لتطور ممكن آخر. وأفضل طريقة لتقيم هذا التطور هو قياس ما إذا كان الشخص (أو إلى أي درجة) قد تجاوز الإطار الذي حدث أن وجد نفسه فيه. وفي الأنواع السردية, فإن قدرة الإنسان على تجاوز الإطار هي مؤشر معياري على الأدائية الناجحة. أما في السرد النفسي، فإن التجاوز جزئي بالضرورة , في حين أنه يمكن تحقيقه كليا في السرد الفانتازي.

 

وأخيرا يقتبس ايشلمان من قصة بعنوان (قصص بسيطة) لإنغو شولز (1998) هذا المقطع التي تؤكد فيه الشخصيات غباؤها المطلق بقوة المثالية:

((شيء ما حدث معي مرة في السينما"، قال ادغار."حضرنا مُتأخرين، ولم نجد مكانا للجلوس إلا في الصف الأمامي، بدأ الفيلم بمنظر طائر، في رحلة عبر الأدغال. أغمضت عيني حتى لا أصاب بالدوار. ثم سمعت صوت ضحك عميق ينبعث عن يميني، والضحكة رائعة.... وبطريقة ما كانت على حالات لم يكن أحد ليضحك منها. وكان ساقاها متقاطعين فيما كانت تهزهز قدمها اليمنى صعودا وهبوطا، كأنها كانت بمثابة دعوة. لمست كوعها بكوعي، لم تكن حتى لتشعر بذلك. ظننت أن بإمكاني أن ألف ذراعي حولها ولكنها مالت علي كما لو كان الأمر طبيعيا تماما، كما لو أنه من الواجب أن يحدث، وفي نفس الوقت أردت أن أضرب ربلة ساقها. اضطررت إلى حمل نفسي إلى الخلف، حقا، كنا نجلس قريبين جداً... يا إلهي، هل هي جميلة، وظللت أفكر طوال الوقت، وبعد كل ضحكة مكتومة أردت تقبيلها.

- "وهل فعلت ؟"

- "لم أستطع أن أعرف من الذي كان يجلس إلى جوارها. رجل -- نعم، ولكن لم أستطع أن أعرف هل كان معها أم لا".

- "لم تكن وحدها؟" سألت جيني.

- "لا"، قال ادغار." لم تكن وحدها، كانت هناك مع مجموعة كاملة." وتوقف عن الكلام.

- "ماذا بعد ؟"

هز ادغار رأسه:"لم أكن لأفهم ذلك، كانت متخلفة عقلياً، المجموعة كلها كانت من المتخلفين عقلياُ".

- "سحقا"، قالت جيني.

ـ- لقد وقعت في حب معتوهة."

- "شيء لا يصدق".

- "نعم"، قال." أسوأ ما في الأمر هو، أنني كنت أريدها على أي حال."

- "ماذا؟"

- وأضاف"لقد وقعت في غرامها، وانتهى الأمر")) .

يعلق ايشلمان"نحن في وضع ادغار نفسه , بطريقة أو بأخرى: إننا نعيش إرهاصات عهد جديد بالكاد نتبين ملامحه ولا ندرك منه سوى البساطة أو سذاجة التفكير".

و المهم، مع ذلك، هو أننا قد وقعنا في حبه بالفعل.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

أضف تعليقك