السيكوباتية المقدسة

السيكوباتية المقدسة
الرابط المختصر

 

يواكب الثبات الطبيعي في الأساس الأيديولوجي لظاهرة الإرهاب وما يتفرع عنها من ممارسات توحشّية متغيرة في تكتيكاتها ثابتة في منطلقاتها وغاياتها، ثبات غير مبرر في تفسير مسببات تلك الظاهرة  وتحليل مرجعياتها الأصولية. البراجماتية مصطلح لا تعرفه منظومة الفكر العقائدي لأن هذا المصطلح قوامه التغيير والديناميكية اللا متناهية، الأمر الذي تأباه طبيعة العقائد الدينية الموحى بها من لدن قوى أهم صفاتها الثبات وعدم التغير.

 

يفسر هذا في جانب منه ثبات حالة الإنكار التي يعيشها المنتمون للأيديولوجيات الحاملة والناقلة لمرض التطرف ممن يصنفون أنفسهم بالاعتدال والوسطية، فتراهم مع كل عملية إرهابية يلجؤون لنفي صفة الانتماء للدين "الصحيح" عن أفراد العصابات الإرهابية عوضاً عن نفي صفة التطرف عن المرجعيات النصية التي تشكل قوام فكر تلك العصابات.

 

شكّلت العملية البطولية التي قام بها رجال الأمن العام في محافظة إربد ضد عصبة من الإرهابيين وكذلك تفجيرات بلجيكا وغيرها، صدمةً للسواد الأعظم من الناس الذين تأبى فطرتهم – وليس أيديولوجيتهم العقائدية- قبول حقيقة أن إنسان ولد وتنسم هواء بلد ما ينتهي به المطاف لرفع السلاح في وجه أهله وسفك دمائهم بدمٍ بارد وتلذذ مقزز. كان من المفترض أن يقود هذا الرفض لهذه الحقيقة الشاذة إلى البحث في جذورها وتحليل أصولها ومن ثمة الوصول إلى حلول توافقية بخصوصها، إلا أن هذا لم ولن يحدث في الزمن المنظور، فالتعاطي مع هذه الحقيقة الشاذة لا يرقى أبدا لموجبات تفكيكها وتبديلها، والسبب في ذلك ببساطة يكمن في طبيعة الأساس الأيديولوجي للفكر المتطرف المتمثل بمنظومة عقائدية يعد نقدها ومراجعتها بمثابة خروج عليها واستعداء لأهلها يوجب القتل وفقاً لرأي الغالبية الساحقة منهم أو الموت المدني بإجماعهم بمن فيهم المُصَنفون بالأكثر اعتدالاً ووسطية.

 

ثمة من يحاول أن يجد تفسيراً لظاهرة توحش الإرهابيين إلى حد استهدافهم لأهلهم ومواطنيهم؛ من خلال نظريات الطب النفسي وعلم النفس الجنائي وذلك بإضفاء صفة "السيكوبات" على من يقومون بتنفيذ أعمال إرهابية في محيطهم الاجتماعي والجغرافي الذي نشؤوا وترعرعوا فيه، لكن هذا النهج لا يبدو منتجاً في هذا المقام نظراً لقيامه على مجرد افتراض ينحو منحى الشجب والاستنكار بوصم الإرهابيين بأنهم مجموعة من المجرمين "السيكوبات" أكثر منه توصيفاً وتحليلاً علمياً لأصل الظاهرة.

 

العامل المشترك بين مختلف المحاولات العلمية والفكرية والارتجالية الآنية لتفسير ظاهرة توحش الإرهابيين واستهدافهم لذوي قرباهم وأوطانهم؛ يتمثل في تسليط كل الضوء على الفرد الأرهابي والتبرؤ منه ووصمه بالارتهان والنفاق والغباء... أو تحليل شخصيته –وهو نادراً ما يحدث- ثم الانتهاء إلى نتيجة مؤداها أننا بصدد فرد ساهمت ظروفه الاجتماعية والاقتصادية في التغرير به وجره لمنزلق التطرف ثم الإرهاب.

 

إذا كانت خطورة المجرم السيكوباتي تكمن في تجرده من الضمير وعدم تمرّس مستقبلاته الشعورية على الإحساس بالندم أو التعاطف، الأمر الذي يجعل من ارتكابه للجرائم أو عدم ارتكابه لها منوطاً بعملية حسابية قوامها الموازنة بين الأضرار والمنافع ليس إلا، فإن الأخطر من ذلك هو وجود أدبيات ذات قداسة–كما يراها كثير ممن يؤمنون بها-  تجعل من ارتكاب الجرائم حتى ضد ذوي القربى عملاً بطولياً يتعبد به المرء ربه ويتقرب به إليه زلفى. قد يعيش صاحب الشخصية السيكوباتية عمره كله دون أن يرتكب جريمة واحدة ليس بوازع من ضمير ولكن برادع من أضرار ستلحق به ولن تعود عليه بفائدة، بينما يحوّل الفكر الأصولي أكثر الناس وداعةً وسلاماً إلى وحوش مصعورة تفتك بأقاربها ومواطنيها وتعيث تخريباً في أوطان شهدت طفولتها وضمّ ترابها  رفاة الآباء والأجداد.

 

يلخص بعض علماء الأمة الموقف من استهداف الوالدين وذوي القربى بالقتل "طاعةً لله ونصرةً لدينه" بعبارات واضحة، فيقول ابن تيمية في مجموع الفتاوى في معرض تفسيره لآية (وبالوالدين إحسانا): "فهذا فيه تقييد . فإن الوالد إذا دعا الولد إلى الشرك ليس له أن يطيعه بل له أن يأمره وينهاه وهذا الأمر والنهي للوالد هو من الإحسان إليه . وإذا كان مشركا جاز للولد قتله وفي كراهته نزاع بين العلماء". ويؤكد النووي على هذا المعنى حيث يقولفي (المجموع شرح المهذب): "ويكره أن يقصد قتل ذي رحم محرم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم منع أبا بكر رضى الله عنه من قتل إبنه فإن قتله لم يكره أن يقصد قتله كما لا يكره إذا قصد قتله وهو مسلم، وإن سمعه يذكر الله عز وجل أو رسوله صلى الله عليه وسلم بسوء لم يكره أن يقتله.

 

في الوقت الذي يتعامل فيه العالم مع الشخصية السيكوباتية من منظور علاجي تقويمي، نحتاج بدورنا إلى التعامل أولاً مع الأدبيات السيكوباتية من منظور إصلاحي تحييدي يهدف إلى تنحيتها عن المناهج والمنابر وحياة الأفراد ليتحرر الحاضر من نير الماضي ويجد المستقبل طريقه إلى حاضرٍ رحب الأفق توّاق للتغيير والتغيّر.

 

 * خبير دولي معتمد في التحليل القانوني وحقوق الإنسان

أضف تعليقك