السبايلة يكتب:أزمة المعلم الاردني..مناخ عام 1989 بالطريق
لا يمكن حصر أي قراءة لمشهد اضراب المعلمين في الاردن من زاوية مطالبيه مقتصرة على فئة مجتمعية واحدة فقط اذ لابد من توسيع دائرة القراءة وتعميقها حتى يتسنى تشخيص الواقع الأردني من زاوية سياسية مجتمعية.
بدأ حراك المعلمين منحسراً بمطلب طبيعي يتمثل بزيادة موعودة على الراتب الأساسي الا انه سرعان ما أخذ بالتحول من حراك مطلبي الى مشهد وطني تتسع دائرة مناصريه ومؤيديه بشكل فريد في ظاهرة جديدة على الداخل الأردني، لكنها في الوقت نفسه تقص الشريط لتحول نوعي في شكل وطبيعة المعارضة السياسية وتعلن بداية تشكل ظواهر جديدة في أسلوب ونمط الاحتجاجات.
يتفق الجميع على كون ثقافة الاضراب حديثة على المجتمع الأردني، لكن لا يمكن انكار ان جذور هذا النمط من الاحتجاج كانت تتشكل بعدة صور وتغذيها سياسات حكومية عززت من حالة التهميش والاغتراب المجتمعي وولدت أجيال من الغاضبين والمهمشين المتجاوزين لسطوة الدولة الاوليغاركية.
من وجهة نظر سياسية، ظهرت إشارات متعددة كان يُفترض على صانعي القرار الاردني التقاطها في اطار أي عملية رصد للتحولات المجتمعية والسياسية في الأردن، قد يكون ابرزها مؤخراً الحالات الاحتجاجية للمواطنين المتعطلين عن العمل الذي قرروا المسير على اقدامهم قادمين من محافظاتهم للتعبير عن سخطهم على الواقع الذي يعيشون في صورة رمزية تمثل احتجاجاً على تفرد العاصمة عمان بالقرار السياسي.
مع ذلك أظهرت الدولة مجدداً عدم استيعاب لهذا النمط من الاحتجاجات الشعبية والذي يشير في جوهره الى محاكمة حقيقية لمركز السلطة في عمان، ويُنذر باقتراب لحظة القطيعة.
ان القراءة المنطقية لمسألة اضراب المعلمين تُشير بوضوح الى تشكل واقع جديد لا يمكن غض الطرف عنه خصوصاً في شكل ونمطية العلاقة مع السلطة الحاكمة.
بالرغم من ذلك، أصرت بعض نظريات المؤامرة السائدة في ذهنية التركيبة السياسية الحالية على تسويق فكرة الاستفادة من الاضراب كونه يرسل رسالة حقيقية لحلفاء الأردن عن صعوبة الوضع الحالي وبالتالي يمكن ان يخلق واقع تحشيدي جديد لدولة تبدو انها تمر بأسوأ مراحل العزلة السياسية.
لكن سطحية هذا الطرح تسقط امام الحقيقة التي لابد من مواجهتها، حيث لا يمكن لإضراب يمس اكبر شرائح المجتمع ان يستمر لأربعة أسابيع متتالية دون وجود حواضن مجتمعية مساندة ومناصرة، وتشكل أرضية مجتمعية داعمة تقدم لهذا النمط من الاحتجاجات تربة خصبة للبقاء والصمود
.ان أسلوب تعاطي الدولة مع ازمة المعلمين منذ اليوم الأول يشير بوضوح لغياب أي رؤية سياسية حقيقية قادرة على استيعاب جوهر المشكلة وفهم شكل التغيير المطلوب في نمط إدارة الدولة.
ولعل كثير من أنصار المدرسة الكلاسيكية للدولة فوجئوا أيضاً من حالة الهشاشة السياسية، والعجز عن التعاطي مع التحولات، فظهرت أدوات الدولة متهالكة غير مقنعة حتى لأشد لأنصارها، سواء كان ذلك في لغة ومنهج الخطاب أو بالأسلوب الرجعي المُتبع في إيجاد حلول للازمات.
صناع القرار الأردني اليوم مدعوون للقيام بتشخيص واقعي للحالة السيكولوجية الشعبية المتشكلة والتي تلعب فيها صورة الدولة السلبية جزءاً أساسياً.
ان هذه السيكولوجيا التي كانت تصيغ نفسها لدى معظم الأردنيين وصلت لنقطة اكتمال تشكلت من خلالها صورة لتركيبة سياسية مرتبطة بالفساد والفشل في إدارة كافة ملفات الدولة.
في السنوات الأخيرة ظهرت كثير من الاحداث التي أظهرت أيضاً مظاهر التصدع في البنية التاريخية الموالية للدولة،.
في الوقت نفسه ظهرت حالة من السطحية والاستعلائية في التعاطي مع هذه الظواهر المتشكلة باعتبار انها حالات غوغائية لا تعبر عن الأغلبية “مضمونة الولاء”.
وقد يكون الخطأ الأكبر الذي وقع به النظام السياسي في الأردن مؤخراً هو تبني الخيار الأمني الذي طبق في الشهور الأخيرة، باعتباره خيارا يمكن ان يشكل مخرجاً استباقياً لمواجهة حالات الغضب والاحتجاج الكبرى.
جاءت النتائج عكسية تماماً، فحجم الغاضين، والمتضررين توسع بطريقة متسارعة، وأثبتت الخيارات الأمنية والأساليب العقيمة عدم جدواها في التعاطي مع ترسُخ ظواهر سقوط المقدسات، وفتح باب المسائلات.
لا بل ان الدولة فشلت فشلاً ذريعاً في تنظيم مهرجانات الولاء التقليدية واستقطاب حتى الشخوص المحسوبين عليها لإظهار حالة من التوازن على الأرض.
يُقدم اضراب المعلمين اليوم نموذجاً مهماً يستحق التوقف عنده ملياً، خصوصاً ان جوهره لم يعد حراكاً مطلبياً مقتصراً على فئة مجتمعية واحدة، بل اصبح مظلة يجد فيها كل الباحثين عن اردنيتهم الضائعة ضالتهم.
ويجد فيه الكثيرون الفرصة الأفضل للممارسة احدى صيغ معاقبة النظام على السياسات التي أوصلت البلاد الى هذا المستوى من الانهيار المؤسسي والاقتصادي والذي يُنبئ بانهيارات اكبر اذا لم تتدارك الأمور.
ان شكل التوسع الذي بدأ يأخذه احتجاج المعلمين يشير الى تشكل صيغة محاكمة لسنوات من إدارة الدولة سادت فيها “اللامؤسسية” وغياب المساءلة وخلق دولة في داخل الدولة بالإضافة الى الكيانات الموازية في الجسد البيروقراطي التي أدت الى انهاء الفاعلية البيروقراطية، واستشراء الفساد وفشل كامل لعملية التنمية وغياب لأي انجاز حقيقي.
تراكم الفشل هذا أدى اليوم الى تولد بنية غاضبة يمكن توصيفها بأنها “بنية ريفية” تمتاز بصلابتها تدخل طوعاً في مواجهة مع منظومة متكلسة تحتكر السلطة وتعتاش على قوت الأردنيين.
هذه البنية الغاضبة لا تقتصر على فئة المحتجين فقط، فمن الواضح ان حجم الغضب الشعبي يمتد ليشمل فئات غاضبة أخرى تعبر عن غضبها بطرق مختلفة وقد يكون ابرزها فئة البيروقراط الشابة التي تعمل على فضح الممارسات غير المؤسسية والفساد الممنهج والمقنع عبر تسريب وثائق حكومية تعمل على شحن المزاج الشعبي وتعزز رواية المعارضة وتسقط آخر أوراق التوت عن ممارسات الفساد الحكومي و”اللاحكومي.
بغض النظر عن مآلات اضراب المعلمين، الا ان المناخات المتشكلة اليوم هي مناخات تشبه في جوهرها المناخات المتشكلة قبيل هبة نيسان ١٩٨٩، والتي جاءت على خلفية تراكمات كبرى لسوء الإدارة السياسة والخيارات الخاطئ.