الزراعة في المفرق، "خيبات" كثيرة ومستقبل مجهول
"سنة نحصد و 3 سنوات محلَ " قالها خلف الخالدي وهو يقف أمام حقله متكئاً على عكازه، يتأمل أرضه المزروعة في منطقة المشيرفة التابعة لمحافظة المفرق، والتي تراجعت مساحتها خلال العقود الثلاثة الماضية.
يعتمد الخالدي على زراعة 1500 دونم من القمح والشعير لتأمين أعلاف أغنامه حتى لا يضطر إلى شرائها، إذ يبلغ سعر الطن الواحد منها 220 دينارا، حسب قوله.
شح المياه وخيارات محدودة
كان الخالدي يبيع فائض محصوله في الماضي، إلا أنه لم ينجح في إنتاج القمح والشعير في الأعوام الأربعة الاخيرة بسبب تدني الهطل المطري، فهو لا يعتمد على شراء المياه بسبب تكاليفها. " لو جاء مطر حصدنا ما جاء راح"، يقول الخالدي.
يوضح الخالدي سبب لجوئه إلى زراعة تلك المحاصيل إذ يقول " زراعة القمح والشعير أرحم علينا من شرائها".
تخلى الخالدي عن زراعة العدس والكرسنة منذ 10 سنوات بسبب ارتفاع تكاليف استئجار الأرض.
خمسة عقود قضاها الخالدي في الزراعة، ومع ذلك فهو يملك فقط ُخمس المساحة التي يزرعها، و "يتضمن" المساحة المتبقية لقاء أجور يدفعها.
لم ينجح الخالدي في إنتاج القمح والشعير في الأعوام الأربعة الاخيرة بسبب تدني مستوى الهطل المطري
على بعد 80 كيلومترا شمال شرقي مدينة المفرق يكابد المزارع هاني الرياحي في "دير القن" لتأمين علف المواشي البالغ عددها 120 رأس غنم، لذا لم يكن أمامه سوى زراعة البرسيم للتخفيف من فاتورة الأعلاف.
زرع الرياحي العام الماضي 10 دونمات من البرسيم، وهو يعاني قلة مصادر المياه وعدم السماح بحفر آبار، حسب قوله.
يشتري الرياحي أسبوعيًا صهريجين من المياه لكل ثلاث دونمات من البرسيم، موضحًا أنه ليس من السهل على المزارعين تحصيل مياه الري بسبب أسعارها المرتفعة.
لم يكن الخالدي والرياحي المتأثرين الوحيدين بتراجع رقعة المساحات المزروعة بالمحاصيل الحقلية في محافظة المفرق، إذ تقلصت تلك المساحات بنحو 62% بين عام 2015 وعام 2020.
تزامن ذلك مع تراجع إنتاج المحاصيل الحقلية في محافظة المفرق كالشعير والقمح والبرسيم منذ عام 2015 إذ كان يشكل ثلث إنتاج البلاد، ليصل إلى 10 في المائة تقريبًا في عام 2020، ومع ذلك لا زالت تستحوذ المحاصيل الحقلية على أكثر من ثلث المساحات الزراعية في المحافظة.
يوضح الخبير الزراعي طالب أبو شرار أن المحاصيل الحقلية تنتج ضمن نظام الزراعة المطرية (البعلية)، لذا فإن استخدام مياه الري في زراعتها غير مجد اقتصاديًا، فضلًا عن أنه يتسبب بهدر المياه؛
تحتاج الحبوب إلى ثلاثة أمتار مكعبة من المياه لإنتاج كيلوغرام واحد، بما يفوق تكلفة المردود المالي الناتج عن بيعها. أما محصول البرسيم فيستهلك الدونم الواحد من المياه في العام حاجة 10 أسر أردنية للفترة ذاتها، في حين يباع بأثمان رخيصة في الأسواق العالمية.، حسب رأيه.
تعد محافظة المفرق سلة الغذاء الثانية في الأردن بعد الأغوار، إذ يوجد فيها نحو خُمس الأراضي القابلة للزراعة في البلاد. تعادل مساحة المحافظة نحو ثلث مساحة الأردن. وهي تضم البادية الشمالية التي تشكل الجزء الأكبر منها.
ينخفض معدل الهطل المطري في المحافظة عن 200 مم سنويًا، ومع ذلك فهي تحل في المرتبة الثانية في عدد الآبار، وتعد أحد الروافد الهامة للمياه الجوفية في الأردن، وتحتضن أحواضًا مائية رئيسية هي (العاقب، والضليل وسما السرحان).
تعتمد الزراعة في المحافظة على الري من الآبار الارتوازية البالغ عددها نحو 500 بئر، يقع معظمها في مناطق البادية؛ الشمالية الشرقية والغربية؛ وتعد البادية مصدرًا هامًا للرعي عند مربي الماشي ومصدرًا رئيسيًا لزراعة الفاكهة والخضروات الصيفية.
سنة "بتصيب" وكثير من الخيبات
يواجه المزارع محمد فياض (37 عاما) هو الآخر تحديًا في توفير مياه الري. تراجعت مساحة الأرض التي يزرعها فياض إلى نحو الثلث في السنوات الأخيرة، فهو لم يتضمن هذا العام سوى 15 دونمًا في منطقة السويلمة زرع معظمها بالفاصولياء بسبب انخفاض تكاليف زراعتها، في حين كان يزرع 50 دونمًا قبل ست سنوات.
عدل فياض عن استخدام البيوت البلاستيكية مع أنها تتطلب كميات أقل من المياه مقارنة مع الزراعة التقليدية، بسبب تكاليفها المرتفعة وحاجتها إلى عدد أكبر من الأيدي العاملة . وهو يشتري مياه آبار ارتوازية، ويعتمد أسلوب الري بالتنقيط لسقاية مزروعاته لما تحققه من توفير في المياه، والحصول على إنتاج أفضل، حسب رأيه.
يشكل توفير المياه للري تحديًا كبيرًا أمام المزارعين في منطقته "هذا البير اللي نشتري منه مي يا دوب يغطي 100 دونم تقريبًا" يقول فياض.
يلجأ المزارع محمد فياض إلى الري بالتنقيط للتقليل من فاتورة المياه
يشير فياض إلى أراض جرداء تحيط بمزرعته" هذه الأرض تصلح للزراعة لكن ما في مياه."، "البير كان يعطي 70 متر بالساعة هلا بيعطي 30 متر بالساعة."، مرجعًا ذلك إلى تراجع الهطل المطري الأمر الذي انعكس على توفر المياه.
لا يزال فياض متمسكًا بمهنة الزراعة التي ورثها عن أجداده مع أنه لا يملك الأرض التي يزرعها، " كثير ناس تركت وانكسرت بسبب الأسواق الضعيفة والتكلفة العالية وقلة المياه وأكثر من سبب دفعهم إلى ترك الزراعة والتوجه إلى أعمال أخرى"، حسب فياض. مؤكدًا أن العائد المادي لديه لا يغطي التكاليف في أغلب السنوات.
يكشف تحليل بيانات المساحات الزراعية الصادرة عن دائرة الإحصاءات العامة عن تراجع الرقعة الزراعية في محافظة المفرق بما يقارب النصف في السنوات الخمس الماضية (2020-2015).
اعتماد مزارعي المفرق على المياه الجوفية في الري يرفع من تكاليف الإنتاج، في ظل انخفاض العائد المادي مقارنة مع التكلفة، يجعل الزراعة أقرب إلى "المقامرة"، حسب رأي الخبير الزراعي طالب أبو شرار.
يوضح أبو شرار وهو أستاذ كيمياء التربة والمياه في الجامعة الأردنية أن محاصيل الخضروات في الموسم الزراعي تحتاج في الحد الأدنى إلى 150 -200 متر مكعب من المياه للدونم الواحد، فضلًا عن ضرورة تعويض تلك الكميات عن طريق رفد الآبار بمياه الأمطار. محذرًا من أن مواسم الجفاف تؤثر سلبًا في جودة التربة، بسبب شح المياه العذبة وانخفاض منسوب المياه الجوفية ما يدفع المزارع إلى الذهاب إلى عمق أكبر.
وتكمن الخطورة، بحسب أبو شرار، في انخفاض مستوى المياه في الآبار الذي يجعلها أكثر ملوحة، ما يؤدي عند استخدامها إلى تملح الأرض عامًا تلو الآخر، الأمر الذي ينعكس سلبًا على حجم الإنتاج وتراجع جودة التربة.
يؤدي الري المستمر بالتنقيط الى تشكل تربة قلوية في غياب المياه الراشحة، في حين أن عدم غسل التربة من الأملاح يهدد بتراكم الملح فيها، حسب "سياسة إحلال المياه وإعادة الاستخدام" التي أصدرتها وزارة المياه والري الأردنية.
الطاقة المتجددة، حل في الأفق
من جهته يرى الخبير طالب أبو شرار أن المزارعين يضطرون إلى اللجوء إلى المياه الجوفية المستخرجة بواسطة الضخ المعتمد على الوقود، في حين لا يتناسب حجم العائد المادي مع الكلف التي يدفعها؛ ومنها البيوت البلاستيكية وأثمان المياه وغيرها، ما يجعل عملية الزراعة أقرب إلى المقامرة" سنة بتصيب وخمسة بتخيب"، حسب تعبيره.
هذا ما أكده المزارع أيمن أبو كشك من منطقة الدندنية في محافظة المفرق، إذ أوضح أن ارتفاع تكلفة الطاقة المرتبطة باستخراج المياه من الآبار تشكل أحد التحديات التي تواجه المزارعين، في ظل عدم الاستفادة من طبيعة المحافظة في إنتاج الطاقة الشمسية.
يزرع أبو كشك محاصيل من الخضروات باستخدام البيوت البلاستيكية. وهو ينحدر من أسرة زراعية، كما وصفها، واستكمل دراسته الجامعية في هذا المجال.
يجد أبو كشك نفسه مهددا بفقدان مهنته. "كنا نزرع 300 دونم وهلا بنزرع 150 والسنة الجاي ما رح نزرع"، يقولها بحسرة.
مؤكدًا أن ارتفاع منتجات الإدخال وزيادة الضرائب الحكومية، تشكل عبئًا كبيرًا على المزارعين وتهدد استمراريتهم، حسب قوله.
لم تسعف التقنيات الزراعية الحديثة في تحسين العوائد التي يحصل عليها أبو كشك في ظل ارتفاع فاتورة ضخ المياه
من جهته يرى المختص في إدارة موارد المياه علي الهياجنة أن المزارعين في محافظة المفرق يتكبدون تكاليف مالية كبيرة نتيجة الاعتماد على المياه الجوفية في الري، وما يرافقها من تكاليف الضخ المعتمد على الكهرباء أو الوقود.
وأشار الهياجنة إلى أن المحافظة الواقعة في منطقة صحراوية تواجه تحديات مائية، في ظل التغيرات المناخية، وارتفاع درجات الحرارة والجفاف.
الهياجنة يعمل ضمن مشروع الصحراء الذكية الهادف إلى دعم صغار المزارعين بتحسين إنتاجهم الزراعي، عن طريق توطين أساليب الرأي والزراعة الحديثة واستخدام الطاقة الشمسية في المفرق والرمثا وأجزاء من جرش والزرقاء، حسب الهياجنة.
يستهدف المشروع 200 مزرعة في البادية الشمالية، وهو ينفذ بإشراف من الاتحاد الدولي لحماية الطبيعة ضمن تحالف يضم عدة منظمات.
يعزو الهياجنة تراجع المساحات الزراعية في المفرق إلى قلة تغذية المياه الجوفية بسبب النقص الحاد في تساقط الأمطار. كل ذلك يدفع إلى البحث عن المياه في مسافات أعمق ومن ثم ارتفاع تكلفة الري، حسب رأيه.
تتمثل التحديات التي تواجه القطاع الزراعي في الأردن بسبب التغيرات المناخية في ارتفاع درجة الحرارة وانخفاض الهطل المطري والجفاف، بالإضافة إلى التحولات التي يشهدها الموسم المطري.
يرى خبراء اقتصاديون أن محدودية الموارد الطبيعية في الأردن وبشكل خاص في قطاع المياه، في ظل التغيرات المناخية أسهمت في زيادة نسبة التصحر وتفتيت الملكيات الزراعية وتغيير صفة استخدام تلك الأراضي، حسب تقرير نشره منتدى الاستراتيجيات الأردني العام الماضي.
تغيرات مناخية والكثير من التحديات
تتولى وزارة الزراعة مسؤولية تنظيم القطاع الزراعي وتنميته لتحقيق عدد من الأهداف ومنها إقامة المشاريع الزراعية وتنميتها، ومكافحة التصحر وتنمية الريف والبادية ورفع قدراتها الإنتاجية، حسب قانون الزراعة رقم 13 لسنة 2015.
يواجه الأردن تأثيرات متوقعة على الموارد المائية بسبب التغيرات المناخية؛ تتمثل في زيادة الاحتياجات المائية للمحاصيل الزراعية ونقص تغذية خزانات المياه الجوفية، فضلًا عن التراجع المستمر في المياه السطحية، والحاجة إلى استخدام مصادر مائية غير تقليدية في الري مثل المياه المعالجة، حسب تقرير صدر عن الأمم المتحدة في العام 2018.
يوضح أستاذ الاقتصاد الزراعي محمد مجدلاوي أن المفرق شهدت نموًا في إنتاج الخضروات والأشجار المثمرة منذ تسعينيات القرن الماضي، إلا أن الأوضاع السياسية الخارجية المحيطة بالحدود الشمالية أثرت سلبًا على التصدير عبرها.
يعزو مجدلاوي تراجع الاهتمام باستصلاح الأراضي الزراعية بشكل رئيسي إلى التخطيط العمراني الذي ُيبنى على الأراضي الزراعية، بالإضافة إلى شح المياه وعدم وجود سياسات مائية واضحة مثل سياسة الحصاد المائي التي توفر كميات من المياه على مدار العام .
يعـتمد الحصاد المائي على عمليــة جمــع و تخزيــن ميــاه الأمطــار فــي الموقــع لاستخدامها لأغراض محددة.
وحسب مجدلاوي، يشكل الحصاد المائي العصب الرئيسي في الاستفادة من مياه الأمطار بحدها الأقصى، ما يبرز أهمية دور التوعية والإرشاد الموجه للمزارعين للاهتمام بهذا الأمر.
ولفت مجدلاوي إلى الدور المحتمل للتغيرات المناخية في تدهور الأراضي الزراعية، ما يستدعى وجود سياسة واضحة في استصلاح تلك الأراضي بما يراعي التغيرات المناخية المتوقعة وتأثيرها على كميات المياه الموجودة ونوع المحاصيل.