الرشوة الحلال

الرشوة الحلال
الرابط المختصر

يروي الذهبي في كتابه الشهير سير أعلام النبلاء عن جملة من العلماء والمحدثين شهاداتهم في الإمام عامر الشعبي المعروف بـ”الشعبي”، وجميع الشهادات تلكم؛ تقطع بأن الرجل كان محدّثا وعلّامة وأنه عاصر قرابة الخمس مائة صحابي وروى عن كثير منهم، فالشعبي هو من أعلام الطبقة الثانية وهو من التابعين، حيث ولد في عهد عمر بن الخطاب وكان له في علم الحديث والفقه صولات وجولات بشهادة ابن سرين وابن عُيينة وابن حجر وابن سعد والذهبي وغيرهم كثير، وأشهر ما قيل فيه: “لا يكاد يرسل إلا صحيحا”، أي أنه يروي الصحاح من الأحاديث، وقيل كذلك: “العلماء ثلاثة “ابن عباس في زمانه والشعبي في زمانه والثوري في زمانه”.

 

 

هذه اللمحة عن الشعبي غايتها الخروج من معترك السفسطة وفوضى المحاججة الدفاعية المملة من جانب البعض الذين لا يسعفهم حينما تدمغهم الحجّة ويذهب بأبصارهم البرهان سوى قشّة الغريق فتجدهم يقولون: “ربما مُدلِّس… علّهُ ضعيف… من يدرينا أنه صحيح…”.

 

 

في لحظة صدق مع النفس وتجلياتها، قال الشعبي ما أظنّه قولاً استثنائياً لا يتكرر ولا من الشعبي نفسه، حيث نقلَ عنه الطبري في تفسيره والبيهقي في سننه وغيرهما كُثُر في معرض شرحه لمصارف الزكاة وتحديداً سهم المؤَلَّفة قلوبهم، ما نصه: “إنما كانت المؤَلَّفة قلوبهم على عهد النبي – صلى الله عليه وسلم – فلما ولي أبو بكر – رحمة الله تعالى عليه – انقطعت الرشا”.

 

 

هذا واحد من كبار التابعين الأوائل ومن علماء عصره بل ربما أعلمهم، يسمي الأشياء بمسمياتها، فقد عرف التاريخ الإسلامي ممارسةً كان يُدفَع بموجبها رِشوَةً -حسب وصف الشعبي- لمن يقبل الدخول في الدين الجديد عن غير اقتناع.

 

 

المؤلم في هذه الممارسة طريقة تلقينها للطلبة من خلال أساليب تُعلِّم النشأ حِرَفيّة تجميل الباطل الّلجلَج وجعله حقاً أبلَج، فما زلت أتذكر كيف عافت نفسي فكرة شراء الولاء الإيماني بالمال ومكابدة مدرِّس التربية الإسلامية الأَمَرّين لتبرير ما لم يبدُ أنه هو نفسه مقتنعاً به، فمن “الضرورة” إلى “فلتكن البداية من أجل المال ثم ليذوقوا حلاوة الإيمان” انتهاءً بـ”حكمة وحُكم الله”….

 

 

ظل وما يزال سهم المؤَلَّفة قلوبهم علامة استفهام كبرى لم يفلح أحد في نفي صفة الرشوة السياسية الدينية عنها، وأكثر ما فعله المدافعون عن كل شيء من أجل لا شيء؛ أن أضفوا على المسألة برمّتها صبغة الغيب والعلم الّلَدُنّي أو في أحسن الأحوال؛ تطبيق قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات”، حيث لا ضرورات في واقع الحال وإنما محضُ محظورات.

 

 

يلخص البخاري في مؤَلَّفِه  “التاريخ الصغير” وما نقله عنه ابن حجر في كتابه الشهير؛ “الإصابة في تمييز الصحابة”، فلسفة سهم المؤَلَّفة قلوبهم في قصة عيينة بن الحصن والأقرع بن حابس وهما ممن كانوا يُتَألَّفون، إذ قَدِما يطلبان من الخليفة أبي بكر أن يهبهما قطعة أرض فذهبا إلى عمر بن الخطاب يشهدانه على كتاب أبي بكر، فانطلقا إلى عمر ليشهداه فيه فتناول الكتاب وتفل فيه ومحاه فتذمرا له ، وقالا  له مقالة سيئة فقال: إن رسول الله (ص) كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل، إن الله قد أعز الإسلام، اذهبا فاجهدا علي جهدكما لا رعى الله عليكما إن رعيتما، فأقبلا إلى أبي بكر وهما يتذمران فقالا: ما ندري والله أنت الخليفة أو عمر فقال: لا بل هو لو كان شاء”.

 

 

نحن إذن في مواجهة ممارسة واضحة من ممارسات توظيف المال السياسي أو إن شئت فقل الديني السياسي كما يُعرَف اليوم “Political religion”، فثمة علامة يصف هذه الممارسة -سهم المؤَلَّفة قلوبهم- بأنها “رِشوة”، وفي الخلفية ثاني الخلفاء الراشدين يعلنها صريحةً بأنهم كانوا يدفعون لهم -حسب تعبيره- حينما “كان الإسلام ذليلا”، في المقابل يلمع حدُ السيف الذي توسّع المسلمون في استخدامه لغزو الأقطار الأخرى واحتلالها والسيطرة عليها باسم الدين ذي الأبعاد السياسية، فإذا ما أُضيفَ لجماع ذلكم كله الإتاوة التي يفرضها المسلمون على “الذمّيين”؛ تكتمل الصورة التي تُبرِزالدور الفاعل الذي لعبه المال في انتشار الدين جنباً إلى جنب مع حد السيف وأسنّة الرماح.

 

 

إنّ قراءة التاريخ من منظور موضوعي بعيداً عن التشنج وغوغائية التعصب؛ تساعد في فهم وتحليل الظواهر الآنيّة الشاذّة التي تفتك بالعالم اليوم بفعل جماعات إرهابية نهلت هذه الممارسات مزوّقةً ومبرّرةً حتى غدت من مكونات وجدانها الثقافي ومنظومة فكرها العقائدي؛ لينعكس مسلكيات تنشد الموت على حساب الحياة وتَروم المهانة على حساب الكرامة.

 

 

فليقدح الأصوليون وعلماء الحديث والتفسير زناد فكرهم في تفنيد التعارض بين الحديث الذي صح عن الرسول ورواه أحمد وأبو داوود وابن ماجة والترمذي ونصه: “لعنة الله على الراشي والمرتشي”، وبين ما وصفه الشعبي بأنه “رِشا انقطعت” كانت تُدفع لبعض الأفراد لاعتناق الدين، وليقولوا “الجهة منفكة” رغم انغلاقها واتحاد علَّتها، فالصغير سوف يكبُر ويتدبر ليقف على الخديعة الكبرى فينقلب على ماضيه وحاضره.

 

 

ألا سميّتم الأشياء بمسمّياتها، فسهم المؤَلَّفة قلوبهم رِشوة دينية سياسية في ظاهرها وباطنها ومغزاها وباعتراف كبار المحدثين؛ صحابةً وتابعين (الشعبي وعمر بن الخطاب)، ولن يغيّر في الأمر شيءٌ وصفكم لها بأنها رِشوةٌ حلال.

 

خبير دولي في التحليل القانوني وحقوق الإنسان وكاتب في حقل الإصلاح الديني

أضف تعليقك