الرسوم المسيئة للنبي: الإعلام وقد وقع في قبضة الحكومات والتطرف

الرابط المختصر

لقد استغرق الامر اكثر من ثلاثة اشهر حتى ينتصر "المسلمون لنبيهم"، على حد تعبير عنوان صحيفة "الغد" (4/2)، فما الذي حدث منذ نشرت صحيفة دنماركية مغمورة في الثلاثين من أيلول الماضي رسوما كاريكاتيرية اعتبرت مسيئة للرسول محمد حتى تتحقق هذه النصرة؟ وما دور الإعلام في كل هذا؟ما لم يعد مجالا للنقاش، ان موضوع نشر الرسوم المسيئة للنبي هي قضية إعلامية بامتياز ومثال نموذجي على دور الإعلام المزدوج أو الإشكالي، وهي تطرح اكثر من قضية بينها حدود حرية التعبير وعلاقة الإعلام بالسلطة ودوره فيما اذا كان صاحب رسالة، محرض او ناقل خبر ومعلومة لخدمة الجمهور.

في الثلاثين من أيلول الماضي قامت الصحيفة الدنمركية "يلاندس بوستن" بنشر مجموعة رسوم كاريكاتيرية تحت عنوان "وجوه محمد"، ردا على انتشار حالة ترهيب بدأت تؤثر على حرية التعبير وإبداء الرأي في كل ما يتعلق بالإسلام، أو حتى الإرهاب الناجم عن الحركات الإسلامية السياسية، والذي تنامى في أوروبا بعد أحداث من مثل اغتيال المخرج السينمائي الهولندي فان غوغ على يد متطرف إسلامي.وتبعتها صحف أوروبية وأعادت نشر الرسوم الكاريكاتورية تضامنا مع الصحيفة الدنمركية التي ادعت "الدفاع عن حرية الرأي والتعبير".

وأصل قصة إقدام الصحيفة الدنمركية على نشر الرسوم، كما يقول توماس هين، مراسل الصحيفة في الشرق الأوسط لإذاعة "عمان نت"، أن الصحيفة طلبت من جمعية من رسامي الكاريكاتور في الدنمرك تقديم رسومات للصحيفة تحت عنوان "وجوه محمد"، وقد استجاب 12 رساما من أصل 40 رساما هم أعضاء الجمعية".

ويرى هين أن من بين الرسوم المنشورة الثلاثة عشرة "أربع رسوم تعتبر مستفزة فعلاً لمشاعر المسلمين"، وعبر هين عن أسفه عنها. وأضاف أن هناك خمس رسومات أخرى محايدة تماما واثنتان تنتقدان الصحيفة نفسها لإقدامها على هذه المسابقة، وقد نشرتها الصحيفة نفسها.

وكادت عملية النشر هذه تمر دون ان يذكرها احد سوى بضعة مقالات في صحف اسلامية أو على مواقع إسلامية سلفية متطرفة على شبكة الانترنت، تنتقد عملية النشر وتصفها بـ"العنصرية" وبالحملة المعادية للإسلام.

بداية

فجأة وبدون أي مقدمات تذكر دعا اجتماع وزراء الداخلية العرب المنعقد في تونس العاصمة بتاريخ 13/1 الماضي، وبالمناسبة فان وزراء الداخلية العرب هم الوحيدون من بين تشكيلات الجامعة العربية الذين يجتمعون بانتظام وتنفذ قراراتهم بحاذفيرها، دعا الاجتماع الحكومة الدنماركية إلى انزال عقوبات شديدة بواضعي هذه الرسوم، وتبع ذلك قيام حكومات عربية، بينها السعودية وسوريا وليبيا والاردن، باستدعاء سفراء او قناصل الدنمارك او استدعاء سفرائها من كوبنهاغن احتجاجا.

ويرى محللون عرب ان الانظمة العربية أرادت من خلال تحريك قضية الرسوم هذه تغطية عجزها ومحاولة اعادة اكتساب شرعية مفقودة في وقت تحقق فيه الحركات الاسلامية السياسية انتصارات مهمة سواء في الشارع او في صناديق الاقتراع.

وبحسب قول انطوان بصبوص، مؤسس ومدير مرصد الدول العربية في باريس: "استغرق الامر ثلاثة اشهر حتى تتخذ القضية هذا الحجم. وكان الاسلاميون اول من ندد بها غير ان حكومات الدول العربية لحقت بهم نظرا للتأييد الشعبي الواسع لهذه الفكرة".

واضاف: "في هذه المجتمعات التي يشغل فيها الدين حيزا كبيرا، يكفي ان يقول احد ما "انني أهب لنصرة النبي في مواجهة الإساءة اليه" حتى يشعر الجميع بواجب السير على خطاه".

واستغرب غالب بن شيخ، الخبير في الحركات الإسلامية، رد فعل الانظمة السياسية على هذه المسألة الدينية.

وقال بن شيخ: "انها مسألة علماء وأئمة"، متهما القادة السياسيين ذوي "الشرعية المشكوك بها او المعدومة" "باستغلال هذه الفرصة من اجل اصلاح صورتهم" (مواقع انترنت (2/2).

والحال فإن خبر نشر الرسوم بدأ ينتقل من الصفحات الداخلية للصحف العربية، ومن شبه التجاهل الكلي للفضائيات العربية للخبر إلى احتلال مقدمات النشرات وموضوعا للبرامج الحوارية، وعناوين الصحف الأولى.

وبين وسائل إعلام عربية مملوكة للحكومات واخرى ذات توجهات اسلامية متطرفة وثالثة تعتمد "الإثارة" في تغطيتها، بلغت التعبئة الشعبية للشارع حد خرج في الاسبوع الماضي مئات الآلاف من المواطنين العرب الى الشوارع تظاهرا، وتحولت بعض مظاهر الاحتجاج الى العنف، كما حدث في فلسطين والباكستان وغيرها، وعمدت مؤسسات تجارية، إما منافسة او ذات نوايا حسنة، الى مقاطعة المنتوجات الدنماركية.

ان نشر الرسوم هذه، وبغض النظر عن ما اذا كان يعبر عن حرية رأي وتعبير، يعتبر مسيئا بحق للدين الاسلامي ويحمل نزعة عنصرية كبيرة خاصة وانه يصور الاسلام دينا ارهابيا وهو ليس كذلك، كما يصور الرسول راعيا بما يشي بنظرة عنصرية ايضا الى الثقافة العربية والاسلامية.

وعملية النشر ايضا، هي مستفزة لمشاعر اتباع ديانة ينظرون الى نبيهم بوصفه رجلا مقدسا بفارق الثقافة الغربية التي تنظر الى انبيائها وبخاصة المسيح بوصفه جزءا من حقب تاريخية.

وفوق ذلك فإن نشر هذه الرسوم وفي هذا الوقت بالذات، يعطي اصحاب نظريات "صدام الثقافات والحضارات" الاسلحة الكافية لتبرير نظرياتهم وتتيح للتطرف من كلا الجانبين تأجيج المشاعر المعادية بدلا عن رؤية الصراع مع الغرب بوصفه صراعا سياسيا اقتصاديا.

والى ذلك، فان نشر هذه الرسوم يعيد الى الاذهان المعايير المزدوجة التي يتعامل بها الاعلام الغربي مع القضايا التاريخية، فهو من جهة، قد جعل من قضية "المحرقة النازية او الهولوكوست" تابو يمنع الاقتراب منه لدرجة الامتناع او التخوف من انتقاد السياسية الاسرائيلية نفسها. فيما هو من جهة اخرى يعتبر استفزاز مشاعر أصحاب ديانة ما حرية رأي وتعبير.

والحال ان الاعلام الأردني بقي حتى الخميس الماضي، محافظا على تميزه في تغطية خبر نشر الرسوم المسيئة للرسول، فقد بقي موضوعيا بشكل عام، ناقلا لأخبار الاحتجاجات بشكل هادئ وبدون أي محاولة للإثارة، كما لم يظهر معلقو الصحف حماسة كبيرة في متابعة الموضوع. وقد بدا الامر وكأن الاردن، حكومة وإعلاما، يحاول امتصاص ردة الفعل الشعبية العنيفة او يعمد الى عدم خروجها عن مظهرها الأساس، كاحتجاج حضاري على رسوم "عنصرية" إلى احتجاج يأخذ شكلا عنفيا مسيئا للإسلام، ومنتصرا لوجهة نظر أصحاب "صراع الحضارات". واكثر من ذلك فقد لعبت جهات إعلامية أردنية، خاصة مدير وكالة الإنباء الأردنية "بترا" فيصل الشبول، دورا كبيرا في إقناع الصحيفة الدنماركية بالاعتذار عن نشر الرسوم (شيحان 2/2)، في محاولة جادة لامتصاص الغضب الشعبي وتفريغه وعدم تحويله عن مجراه.

وليس غريبا ان الاردن كان دائما من دعاة الوسطية وعدم الانجرار للتطرف وصراع الحضارات، بيد ان هذا التوجه العام والصحيح، التقطته خطأ أو بحماسة شديدة أو ربما بدوافع اخرى، رئيس تحرير صحيفة "شيحان" جهاد المومني، فقام بكتابة مقال بعنوان "يا مسلمي العالم تعقلوا" دعا فيه الى وقف الاحتجاجات العنيفة مقارنا بين نشر الرسوم والصور التي تنقل عن مسلمين يقطعون أعناق أمام الكاميرا، وربما يحمل المقال وجهة نظر قابلة للأخذ بها لكن "شيحان" تمادت عندما اعادت نشر الرسوم لتكون اول صحيفة عربية تتحدى كل هذا الوضع الغريب وتضع الاردن واعلامه في دائرة التساؤل.

وقد سارع الديوان الملكي والحكومة ونقابة الصحفيين وشركة "الطباعون العرب" المالكة للصحيفة الى اصدار بيانات تندد بالمومني وبإعادة نشر الرسوم، وقامت الشركة بفصل المومني وتنحيته عن رئاسة تحرير الاسبوعية، وأحالته نقابة الصحفيين إلى مجلس تأديبي، وقام مدعي عام محكمة عمان باستدعائه وتنظر الحكومة في إمكانية مقاضاته وفقا لأحكام قانون المطبوعات الذي يحظر الاستهانة بالأديان ويمنع نشر أي مواد تهدد الوحدة الوطنية وغيرها من البنود.

على أي حال، فقد دفعت فعلة صحيفة "شيحان" الصحافة المحلية الى الخروج عن موضوعيتها السابقة، او بالاحرى عن محاولتها عدم تهويل القضية والتعامل معها بطريقة "الاثارة"، الى الانجرار نوعا ما وراء الاعلام العربي او بعضه الذي اصبح يعيش شبه حالة "هستيرية"، تذكر ايضا بمعايير مزدوجة لا تقل عن ازدواجية الغرب. فهو في حين ينفخ في المشاعر الدينية يعتمد التقليل والتهوين من قضايا سياسية واجتماعية اخرى كقضية التطبيع او الفساد او العنف الداخلي والتمييز ضد المرأة والاقليات وغياب الديمقراطية الى كل المشاكل الحقيقة التي يعاني منها الواقع العربي.

وخلال اليومين الاخيرين (3، 4 شباط) احتلت قضية الرسوم عناوين الصحف المحلية وبشكل مثير نسبيا، وكتب من المقالات ما يوازي عدد ما كتب سابقا، واعتبر كتاب كسميح المعايطة (الغد)، طاهر العدوان ومحمد كعوش وفهد الخيطان (العرب اليوم) ما تقوم به الصحف الغربية حملة منظمة ضد الاسلام على ما في هذا الرأي من جدال، وكذلك فعل الى حد كبير سلطان الحطاب في صحيفة "الرأي".

السؤال: لماذا لم يتحرك الاعلام العربي ومن ثم الاردني قبل ان تتحرك الحكومات، ولماذا بقي هذا الاعلام صامتا ثلاثة اشهر قبل ان يحرك وزراء الداخلية العرب امر الرسوم؟.

لقد اظهر حجم التغطية الاعلامية وطريقتها مدى انجرار الاعلام الى رغبة الحكومات وتصرفه بوعي وبدون وعي بدون أي استقلالية عن رأي الحكومات، وهو من جهة ثانية اصبح رهين واقعين فهو وقد اسهم في تأجيج مشاعر العامة ودفعهم للتحرك بات رهين تعزيز هذه النزعة وتلبية ما احدثه هو من اثارة للمشاعر فدخل الحلقة المفرغة وبات بين مطرقة الحكومات وسندان التطرف.


أضف تعليقك