الرسم على الملح.. فنان يحوّل شواطئ البحر الميت لمعرض تشكيلي

 

"طاولة دون ملح أفواه.. دون لعاب"، هكذا يعبر الفنان الأردني محمد أبو عزيز (48 عاما) عن علاقة تجربته الفنية بالملح، تجربة فريدة نُفذت بالتعاون مع الفنان الفرنسي والمصور العالمي جان لو دو سوفرزاك، على شواطئ البحر الميت، الذي يتميز بشدة ملوحته، وتراكم الأملاح على شواطئه مثل الرمال البيضاء، بيئة ملحية ساحرة وجد بها ضالته الفنية، ونقش عليها لوحاته التشكيلية بالخط العربي العريق.

تعود تجربة أبو عزيز إلى صيف عام ألفين، فبعد معرضه الأول في المركز الثقافي الفرنسي أواخر التسعينيات، أراد المركز الثقافي -بالتعاون مع "دارة الفنون"- أن يجمع أبو عزيز بالفنان الفرنسي لمحاولة الخروج بعمل فني بالملح، وبعد مشاورات ولقاءات قررا أن يتجها إلى الجنوب الغربي من العاصمة عمّان، حيث البحر الميت.

وكانت الخطة تقتضي قيام أبو عزيز بنقش مقولات المفكرين والمؤثرين العرب والغربيين بخط عربي على الأملاح المتراكمة على شواطئ البحر، في إطار خشبي، مثل لوحة تشكيلية تراقصها أشعة الشمس وتعكس ألوانها أمواج البحر المتلاطمة، ثم يوثقها المصور العالمي سوفرزاك بعدسة كاميرته، لوحات فوتوغرافية تجوب معارض العالم.

أكثر من خمسين عملا على شواطئ الملح، خطها الخطاط والفنان التشكيلي أبو عزيز بأقلام القصب الخاصة بالخط العربي على الملح، إضافة لابتكاره أدوات تساعده في ترسيب الأملاح والنقش والنحت على الأملاح، حسب طبيعة صلابتها ومرونتها أحيانا.

تضمنت المقولات أشعارا وأمثالا لأبرز الكُتاب والشعراء حول العالم، أبرزها للشاعر والدبلوماسي الفرنسي سان جون بيرس، والشاعر الفرنسي آرثر رامبو، والشاعر السوري علي إسبر المعروف باسمه المستعار أدونيس، والشاعر اللبناني جبران خليل جبران، وكانت المقولات تترجم عبر مختصين من الفرنسية إلى العربية ومن لغات مختلفة.

علاقته بالحروف

"أنا الحرف والحرف أنا" هكذا يعرف نفسه لنا، لكن الأغرب أن تشعر أثناء حديثه عن الحروف العربية بوصفه لها على هيئة إنسان، إذ يعتقد أبو عزيز أن الحروف تتنفس وتذهب إلى المقاهي وتأخذ نفسا من النارجيلة وتمشي في الشارع وتحتك بالآخرين، وتترابط وتتقاطع، ولها ألوان عديدة وتتأثر بالأماكن وتخرج من تلقاء نفسها تُبهر السامعين بجُمل وتوصيفات نابعة من القلب، فهي الموروث والتراث وهي من أجمل حروف الدنيا، كما يصفها.

مزج الخط بالفن

طفولة ممزوجة بموهبة فريدة بالخط العربي طورها أخوه الأكبر الذي كان يعمل خطاطا في المخيم، وكبُرت معه أحلام توظيف الخط العربي في الفنون التشكيلية، إلى أن تخرج في معهد الفنون الجميلة، وقام بتوظيف الحروف العربية على الزنك، من خلال رسمها بأشكالها الملوية والصوفية على المراوح، فتخرج الحروف كأنها تتراقص عند حركة المراوح تلقائيا وقد لقيت استحسان الكثيرين وقتها، ومن هنا جاءت فكرة دمج الخط العربي بالفن التشكيلي عند أبو عزيز.

حروف ملونة

يفسر أبو عزيز تنوع ألوان حروفه في لوحاته التشكيلية بسبب تأثره ببيئة المخيم حيث ترعرع، ويصف المخيم بامتلائه بنساء فلسطينيات من مدن مغايرة، يرتدين ملابس مطرزة تميز أهل عكا ويافا وغزة وحيفا، ما أدى لانعكاس تلك المشاهدات بشكل إيجابي على ثقافته البصرية ليعمل عليها فيما بعد من خلال تجاربه التشكيلية اللاحقة.

تأثير المخيم

"يترجل الدرج في ثناياه مثل انتظام القلب وسلم الروح، يبتهج مع أعراس الناس ويزغرد درج يا غزالة درج يا غزالة" - يقول أبو عزيز متأثرا بأدراج مخيم شلنر "ماركا أو حطين" للاجئين الفلسطينيين جنوب غرب مدينة الزرقاء الأردنية، حيث نشأته.

فمن غرفة صغيرة مبنية بالطين والقش، مجاورة لدرج كبير يقطع المخيم من المنتصف مؤديا إلى سوق الخضار وسط اكتظاظ سكاني مثل حال بقية المخيمات الفلسطينية، يَكبُر أبو عزيز متأملا ذلك الدرج الذي أثر في نفسه وفنه فيما بعد من الناحية النفسية والجسدية، ليلازمه حتى عندما كبُر وانتقل للعيش وسط العاصمة عمّان، بجوار درج الكلحة الشهير. ويتابع حديثه مندهشا بأن للأدراج قدرة على اختزال الأزمنة والمسافات بين جبال عمّان السبعة بقلب العاصمة.

البحث عن الهوية

ومثل أي فنان ظل أبو عزيز يبحث عن هويته خلال تجاربه الممزوجة بالحروف العربية والفن التشكيلي، فقد وظف العديد من قصائد الشاعر الفلسطيني محمود درويش، لينتقل فيما بعد إلى كتابة مقاطع شعرية خاصة به ليوظفها بلوحاته، وهي نفسها التي ارتبطت بسلم الروح الخاصة به، والتي تأثرت بتأملاته للأدراج وتنوع أزياء النساء الفلسطينيات في المخيم.

ثم عمل فترة من الزمن على نحت الحروف العربية على الرخام، من خلال النقش عليها، وكانت هذه التجربة تشعره باقترابه من الحروف العربية أكثر من العمل على رسمها بالألوان، كما تفرغ فترة من الزمن بالعمل على الأحبار الإيرانية والكتابات والأشعار المرتبطة بشعراء إيران مثل الشاعر والفيلسوف عمر الخيام، نظرا لارتباط أشكال حروف تلك الكتابات والأشعار بالحرف العربي.

والتقى خلال مسيرته الفنية فنانين كبارا مثل الكاتب السعودي صاحب كتاب "مدن الملح" الشهير عبد الرحمن منيف، والشاعر الفلسطيني محمود درويش، وشاعر المقاومة الفلسطيني سميح القاسم، والرسام والنحات السوري مروان قصاب باشي، وقد تأثر بهم جميعا.

 

التشظي والولادة

كانت لأبو عزيز تجارب فنية، منها تجربة معرضه الذي سماه وقتها بالتشظي، متأثرا بما فعلته القنبلة النووية التي ألقيت على هيروشيما وما خلفته من شظايا، ويستطرد بأن العلم فشل في تحقيق السعادة للمجتمعات، الأمر الذي دفعه للدخول بهذه التجربة، ثم أتبعها بتجربة سماها "الولادة" وكانت عبارة عن نساء من التراث الفلسطيني بملامح تجريدية، وقد عُرضت الأخيرة في مدينة مراكش المغربية.

أكثر ما يقلق أبو عزيز هو ضياع الحروف العربية والخطوط العريقة بسبب تقدم وسائل العولمة التي حددت شكل الحروف العربية بالطباعة الإلكترونية، عبر شاشات الهواتف والحواسيب، بعيدا عن تنوع أشكالها وجمالياتها التي تُخط باليد، مثل الخط الكوفي والرقعة وغيرها من الخطوط، ناهيك عن غياب الفن التشكيلي عن شاشات الإعلام والسينما والاتجاه نحو الفنون المرتبطة بعصر السرعة التي -كما يعتقد- تفتقد إلى الروح.

*المصدر: الجزيرة

أضف تعليقك