قرأت الرسالة الملكية لمدير دائرة المخابرات العامة عشرات المرات منذ نشرها أمس. تساءلت حال الكثير عما إذا كان جلالة الملك فعلا يأمر بتقليص صلاحيات وأدوار الدائرة المتشعبة وتسريع إعادة الهيكلة بعد إنجاز ذلك في الجيش والأمن العام، أو انها تقع في باب تجهيز الأرضية بأخبار سارة للولايات المتحدة قبل الزيارة الملكية لواشنطن.
قد أكون مخطئة في تحليلي لكن مغزاها واضح: الرسالة تحمل إيحاء مباشر بتبرير تدخل الدائرة في كل شاردة وواردة ذات صلة بالمشهد السياسي والاقتصادي والتعليمي والاجتماعي والقضائي والاستثماري والتشريعي والحكومي لتحريرها من العبء الكبير عليها خلال العقود الماضية لظروف نعرفها.
ويبدو أن الرسالة الملكية تؤسس لعودة تركيز الدائرة على مهامها الأساسية كما كانت عليها الأمور عند تأسيسها مطلع الستينيات لكي تكون مسؤولة فقط عن تزويد المؤسسات الدستورية بتقارير استخباراتية ومعلوماتية محترفة وحماية الأمن الوطني ومكافحة الإرهاب بعد نشأة مؤسسات حكومية ومستقلة تعنى بشؤون الفساد وإدارة الملفات الداخلية والاستثمارية قادرة على القيام بذلك.
تتشابه مضامين رسالة الأمس إلى حد كبير مع تلك التي وجهّها الملك للدائرة عشية تولي رئيس الوزراء الأسبق د. عون خصاونة منصبه في غمرة الحراك الأردني قبل عقد، حين اشترط القاضي الدولي أن يكون صاحب الولاية بعيدا عن تدخلات الدائرة في صلاحياته الدستورية.
الرسالة الأخيرة ترتقي إلى مستوى انقلاب أبيض وتغيير ١٨٠ درجة. لكن التنفيذ سيحتاج لسنوات لفك اشتباك الدائرة مع الأعمال غير الاسخباراتية التي غطست فيها خلال العقود الثلاث الماضية. وقد تبقي معلقة مع وقف التنفيذ حال مئات المبادرات والأوراق الملكية النقاشية التي طرحت سابقا ولم ترى النور لأسباب متعددة.
الأهم توقيت الرسالة: قبيل الزيارة الملكية لواشنطن في الربيع للقاء الرئيس الديمقراطي جو بايدن. فالمرحلة "البايدينية" الجديدة قد تتطلب احتياجات سياسية ظرفية محددة حيث التركيز على العمل المخابراتي الذي عرفناه في مرحلة مل قبل التحول الديمقراطي نهاية الثمانينيات إضافة الى الاحتراف الأمني في ملفات مكافحة الإرهاب دون التدخل في الحياة السياسية والإعلامية والتشريعية والقضائية.
واشنطن تتابع بقلق كبير تراجع مؤشرات الحريات العامة بما في ذلك حرّية الرأي والتعبير وتحول المملكة إلى دولة "سلطوية". التدخلات المخجلة في العملية الانتخابية الأخيرة التي أفرزت مجلسا نيابيا "على قد" متطلبات المرحلة" كان بمثابة الضربة القاضية لوعود الإصلاح والتغيير.
ولد مجلس غير مسيس يضم وجوها لا تقنع الناخبين ولا ترتقي إلى مستوى دخول المملكة حقبة المئوية الثانية. فضائح بعض الوجوه بدأت بالظهور وبسرعة من خلال تصريحات كادت ان توقع حرب بين بعض مكونات الشعب الأردني أو افتحام مصنع الدواء مؤخرا في خرق واضح للقانون. الأنكى أنهم يريدون اقناعنا بأن أحد وجوه مجلس الأمّة يليق بالتغيير الجديد لعبور عتبة المئوية الجديدة؛ وهو الذي أسهم في صوغ موسوعة قوانين عرفية سرّعت الردّة على الاصلاح خلال السنوات الماضية وأجهضت مشروع قانون جديد تقييد اقتناء الاسلحة وورطت القصر في صفقة العفو العام لكسب الشعبية الانتخابية.
الأوامر الملكية الجديدة لا تتناسب وحال الاحتقان الشعبي والسياسي والإجراءات التعسفية ضد نقابة المعلمين وبعض الأحزاب المعارضة مثل حزب الشراكة والانقاذ واستمرار تكميم أفواه النشطاء والصحفيين المستقلين.
صحيح أن الرئيس بايدن يحترم الملك كثيرا ويقدّر دوره ودور الاردن في حماية استقرار المنطقة وصون أمنها وفق نهج السلام وسياسات الاعتدال. لكن أمريكا لم تعد جمهورية دكتاتورية كما عشناها أيام ترامب ولن تستمر في السكوت على أخطائنا وأخطاء غيرنا مثلما سكت ترامب.
طاقم بايدن الذي يتربع اليوم على أهم مفاصل الإدارة – خصوصا الرجل الجالس على رأس جهاز السي آ إيه وليام بيرنز "كاشف" مطباتنا وتعرّجات حكوماتنا المتعاقبة لجهة إطلاق وعود بالإصلاح فقط لتكحيل العين المرمدة... ويصعب إقناع حلفائنا الآن بتصديق الأسباب الموجبة – التي استخدمت كحجج لفرملة الإصلاح- بدءا من الخشية على الاستقرار السياسي منذ الربيع العربي، اسطوانة اللاجئين السوريين وصولا إلى الحرب على الإرهاب..
من هنا تأتي أهمية رسائل الملك الأخيرة.
مهمّة لأنها تأتي بعد أن روّج ساسة يتراقصون بحسب أسطوانة الموسم وأصحاب أقلام محسوبة على مطبخ صنع القرار بأن الحكومة استكملت معظم الإصلاحات السياسية المطلوبة منذ ٢٠١١ ولا مجال لأي جديد قبل قيام أربعة احزاب سياسية ببلورة ملامح برامج واضحة تغطّي الطيف السياسي من اليمين الى اليسار.
اليوم يطرح سيد البلاد مرّة أخرى ضرورة تحديث قوانين الانتخابات التشريعية وتعديل قانون اللامركزية والأحزاب. وكالعادة يلتقط المسؤولون الرسالة وينقلبون على تصريحات الأمس بدعم من المنظومة الإعلامية ذات الصوت الواحد. يتصرفون وكأن الشعب الأردني المثقف يعيش على ذاكرة سمكة وينسى ما عاشه خلال السنوات الماضية من انقلابات على المبادىء والقيم والوعود البرّاقة التي سقناها للغرب، والتي حوّلتنا إلى دولة أمنية بامتياز خصوصا بعد استغلال بعبع الكورونا الكوني وأوامر الدفاع للسيطرة على تفشي "الوباء".
أرجو أن أكون مخطئة وأتمنى ان تكون الرسالة الملكية بداية مئوية ثانية تقوم على إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية واسعة بعد تبرئة ذمة الدائرة انها القلعة الأخيرة التي تقف في وجه ذلك وشكرها على ملى الفراغ الكبير بعدما خسرت عديد المؤسسات الأدوات التي تساعدها في واجباتها أو وقفت على اليمين ك "الشاهد الذي لم يري شيء" لضمان البقاء على الكرسي.
-