الرأسمالية المتاخرة: التركيب الإنكاري والمسافة الساخرة

الرأسمالية المتاخرة: التركيب الإنكاري والمسافة الساخرة
الرابط المختصر

 

يمكن القول إن فيلما مثل (أطفال الرجال، 2006) لألفونسو كوارون المأخوذ عن رواية (ديستوبيا) للروائية البريطانية فيليس دورثي جيمس هو لسان حال الرأسمالية المتأخرة. ذلك أنه لا يشبه السيناريو الاستبدادي المعهود في الأفلام الديستوبية مثل فيلم (في فور فينديتا، 2005) لمخرجه جيمس ماكتييج مثلاً، حيث يقاوم الناس الاستبداد بطريقة أو بأخرى (في الفيلم يلجأ البطل إلى العمليات الانتحارية والتفجيرات لمقاومة الحكم الشمولي الذي يسود بريطانيا عام 2038، وفي النهاية وقبيل التفجير الأخير، يخرج آلاف الناس إلى الشوارع ليشاهدوه، متحدين حظر التجول).

 

ويتحدث فيلم (أطفال الرجال) - لمن لم يشاهده أو يقرأ الرواية - عن مستقبل قريب حيث يتغير هذا العالـم ‏للأسوأ فتتحول بريطانيا الديـمقراطية إلى ديكتاتوريـة‏ مغلقة ويتحول مواطنيها إلـى مساجين في داخـل هذه الديكتاتورية. أمـا المهـاجرون الذيـن يـحـاولون اختراق أسـوار البلد فإن مصـيرهم الإعدام أو السـجن. ‏وإذا لم يكن هذا سيئا بما فـيه الكفاية، فهناك ما هـو ‏أسوأ بكثير. فخلال مدة الثمانية عـشر عاما الماضية ‏توقفت النساء عن الإنجاب، ولم تعــد فيـهن مــن تستطيع الحمل والإنجاب لسـبـب مجهول لا يعرفـه ‏أحد. وهذا يعني أن الجيل الحالي هـو أخـر جيل سوف يعيش علي هذه الأرض ومـن بعده سـوف ينقرض ‏الجنس البشري. وفي وسـط هـذا العــالم المظلم ‏يعيش (ثيو) - وهو رجل في متوسط العـمـر - حياة بائسة منذ أن فقد ‏ابنه الوحيد. وحـين تتصل به ‏مطلقته التي تعمل مع الثوار ضد الـنظام الديكتاتوري ‏وتطلب مساعدته في نقل فتاة مهـاجرة إلي داخل البلد يوافق بعد تردد، وهو لا يعلم بأهمـية هذه الفتاة، ولكنه يعلم سرها لاحقا. حيث أنها الفتاة الوحيدة الحامل في هذا العالم العقيم الـذي اختفت منه ‏أصوات الأطفال وتحمل في بطنها جـنينا في شهره ‏التاسع ‏. في فيلم (أطفال الرجال) تم تعليق الديمقراطية وحكم البلاد وصي نصب نفسه على الجموع، ولكن الفيلم يقلل من أهمية كل هذا. ونحن نعلم أن التدابير الاستبدادية التي توجد اليوم في كل مكان قد نفذت داخل هيكل سياسي لا يزال يدعي من الناحية النظرية على الأقل أنه ديمقراطي. ونعلم أيضاً أن الحرب على الإرهاب قد جهزتنا لمثل هذا التطور: إن تطبيع الأزمة ينتج حالة يصبح فيها إلغاء التدابير التي وضعت للتعامل مع حالة طارئة أمر لا يمكن تصوره، إذ (متى ستنتهي الحرب؟).

 

إن أفلام وروايات الديستوبيا أو المجتمع الوهمي ذي الاتجاهات والغايات المتشائمة والرهيبة ليست سوى تطبيقات على ذلك التخيل المستحيل. ذلك أن المآسي التي تصورها أفلام من نوع (أطفال الرجال) تعمل بوصفها ستاراً سردياً أمام نشوء أي طرق بديلة للعيش. في عالم الفيلم كما هو الحال في عالمنا، يمكن جداً أن تتوافق السلطوية الفائقة والرأسمالية، لذلك فإن معسكرات الاعتقال تتعايش بكل بساطة مع مقاهي النخبة وأصحاب الامتيازات والمنتخبين. ويحدث في (أطفال الرجال) التخلي عن الفضاء العام لأكوام القمامة والحيوانات المطاردة. ويحتفل الليبراليون الجدد الواقعيون الرأسماليون بتدمير الفضاء العام، ولكن خلافا لآمالهم (الرسمية) لم تذوي الدولة في (أطفال الرجال) ولكنها عادت إلى دولة بوليسية مجردة، مهامها الجوهرية هي الجيش والشرطة. ويؤكد فيشر على (الرسمية) ذلك لأن الليبرالية الجديدة تعتمد خلسة على الدولة حتى في الوقت الذي تدعي فيه شطب الدولة أيديولوجيا. وقد اتضح ذلك بشكل مذهل خلال أزمة مصرفية من عام 2008، عندماـ وبناء على دعوة من النيوليبرالية ـ هرعت الدولة لإنقاذ النظام المصرفي.

 

والكارثة في(أطفال الرجال) لا تنتظر على قارعة الطريق كما أنها لم تحدث فجأة، ولكنها معاشة أو بعبارة أخرى يجري العيش من خلالها. لا توجد لحظة دقيقة لحدوث الكارثة كما أن العالم لا ينتهي بصيحة واحدة ولكنه يتحطم تدريجياً حين تتكشف مآسيه واحدة بعد الأخرى. ولا أحد يعلم من تسبب في الكارثة: ذلك أن سببها يرقد بعيداً في الماضي، ولذلك فإنه منفصل تماما عن الحاضر بحيث يبدو وكأنه نزوة كائن خبيث: معجزة سلبية لا يمكن لأي ندم أو تراجع أن يحسنها. لا يمكن لمثل هذه الكارثة أن تعالج إلا بالتدخل الذي لا يمكن توقعه تماما كما الكارثة نفسها. فالعمل تافه ولا طائل من ورائه، والتمني الذي لا معنى له هو الذي سيحدث الفرق ولذلك تنتشر الخرافات والدين بوصفها ملاذ من لا حيلة له. ولكن ماذا عن الكارثة في حد ذاتها؟ ومن الواضح أن ثيمة العقم في الفيلم يجب أن تقرأ مجازا، بوصفها انزياحاً نحو نوع آخر من القلق. قلق يجب أن يُقرأ من الناحية الثقافية، ذلك أن القضية التي يحملها الفيلم هي: كيف يمكن أن تستمر ثقافة ما لفترة طويلة دون جديد ؟ ماذا يحدث إذا لم يعد الشباب قادراً على إنتاج مفاجآت؟

 

يرتبط (أطفال الرجال) مع الاشتباه بأن النهاية قد حدثت بالفعل، وفكرة أن المستقبل لن يكون إلا تكرار الموجود أو تبادل الأدوار. ولكن هل من المكن ألا يكون هناك فواصل، أو صدمات، أو جديد قادم ؟ يتذبذب هذا القلق بين قطبين: أمل مسيحاني ضعيف بأنه يجب أن يكون هناك شيء جديد في الطريق ويأس بأن لا شيء جديد يمكن انتظاره. وينتقل التركيز من الشيء الكبير التالي إلى الشيء الكبير النهائي: ذلك أننا ننتظر النهاية ولا شيء. ولكن منذ متى حدث ذلك والى أي حد كان الحدث كبيراً ؟

 

وهكذا يتأكد إرهاق العالم واندفاعه إلى الحضيض. هذا العالم الذي ليس مصطنعاً فحسب، بل هو في حد ذاته قوة منتجة للتصنع الذي يؤكد تواطؤه السلبي ضمن المرحلة النهائية التي لا تبشر بنتيجة نهائية يمكن توقعها، وفي الوقت ذاته لا توفر منفذا إلى مستقبل يوتوبي بوصفه أسطورة نائية: ولكنها تنذر فقط بالإنهيار النهائي إلى عالم الرجل الأخير الذي لا يتأثر ولا يحاول أن يفعل شيئًا نتيجة القوى الارتكاسية التي تُسيطر عليه ليردد بحق مع رجل نيتشه الأخير: (لقد اخترعت السعادة) فيما هو يستمع بذعر إلى إيقاع الآلة العملاقة الروبوتية للرأسمالية.

 

يمكن هنا أن نذكر حكاية (كورت كوبين) ـ الموسيقي والمغني الأول في فريق الروك الأمريكي نيرفانا ـ الكئيبة والذي قضى انتحاراً عام 1994، حيث (الرجل الأخير) بالنسبة له شعاراً متضمناً في حياته العدمية الخاصة: في إنهاكه المروع وغضبه اللا-موضوعي، بدا كوبين وكأنه يطلق أصوات قلقة إلى الجيل اليائس الذي جاء بعد التاريخ وكانت كل خطواته متوقعة، ومتعقبة ومحدودة، بل أنه قد تم بيعها وشراؤها حتى قبل حدوثها. ويعرف كوبين أنه كان مجرد قطعة من المشهد، ويعلم أن كل تحركاته كانت شعارات مبتذلة معدة سلفاً، ويعلم أن تحقيقها هو شعار أيضاً...

 

يتكيف كوبين مثل رجل ميت في متحف مع أقنعة الثقافة غير المعقولة ليظهر أنماطا ميتة أعيدت لها الحياة من عصر الثورة، ولكنها أنماط ليست ثورية على الإطلاق. أنماط من انحطاط التنميط الفائق للآلة العالمية التي تتغذى على مثل هذه المخلفات مع نكهة تجعل أي شكل من أشكال العصيان والتمرد يبدو وكأنه ليس أكثر من استسلام نهائي للقدرة الخاصة للرأسمالية على احتواء جميع حركات التمرد. ويصبح الهيب هوب شكلا من أشكال الرأسمالية العصاباتية التي يُرى فيها العالم المتحجر الفؤاد والذي جرد من كل الأوهام الوجدانية على حقيقته: حرب هوبيزية ـ نسبة إلى توماس هوبز الفيلسوف الإنجليزي الذي أيد الحكم المطلق ـ حيث الجميع ضد الجميع، فيما يسود نظام الاستغلال الدائم والجريمة المعممة. وهكذا تصبح هذه المناهضة الوهمية للرأسمالية صورة أكثر قسوة ـ وان حملت مسميات أُخرى ـ لفذلكتها المظلمة والمتأصلة. وقد رأينا العديد من أفلام هوليوود التي تناولت المؤسسة السيئة القديمة بوصفها العدو الوحيد فقط لتجعل منها كبش فداء ظاهري لعجزنا الفاتر عن تخليص أنفسنا من مؤثراتها القمعية. مما يسمح للمناورة المناهضة للرأسمالية أن تستنفذ نفسها على الشاشة، وتتركنا وحدنا نواصل استهلاك سلعها ومنتجاتها التي يجري ذمها. وفي النهاية فإننا نحن الذين نتعرض للذم بوصفنا متفرجين على وليمة نأكل فيها أنفسنا أحياء في عالم المفارقات التاريخية التنافسية. يقول مارك فيشر( في الواقعية الرأسمالية : هل من بديل، 2010):" إن دور الايدولوجيا الرأسمالية ليس صنع قضية واضحة عن شيء بطريقة الدعاية، ولكن إخفاء حقيقة أن عمليات رأس المال لا تعتمد على أي نوع من الاعتقاد المسلم به ذاتيا. فمن المستحيل تصور الفاشية أو الستالينية دون دعاية – ولكن يمكن للرأسمالية المضي قدما بمهارة دون أن يتطلب الأمر تحويلها لقضية من أي نوع" . وهنا ينقل فيشر عن سلافوي جيجيك رأياً يرى أنه لا يقدر بثمن. "إذا كان مفهوم الإيديولوجيا هو المفهوم الكلاسيكي الذي يموضع الوهم في المعرفة، فإن مجتمع اليوم لا بد أن يكون في مرحلة ما بعد الايديولوجيا: حيث الايدولوجيا السائدة هي السخرية، ولم يعد الناس يؤمنون بالحقيقة الإيديولوجية كما أنهم لا يأخذون المقترحات الإيديولوجية على محمل الجد. ومع ذلك فإن مستوى الايدولوجيا الجوهري ليس الوهم الذي يحاول إخفاء الوضع الحقيقي للأشياء، ولكنه هذه الفانتازيا (اللاواعية) التي تهيكل واقعنا الاجتماعي نفسه. وعلى هذا المستوى، فإننا بطبيعة الحال أبعد ما نكون عن مجتمع ما بعد الأيديولوجيا. فالبعد الساخر ليس إلا طريقة واحدة نعمي بها أنفسنا عن السلطة الهيكلية للفانتازيا الإيديولوجية: فحتى لو كنا لا نأخذ الأمور على محمل الجد، وحتى لو كنا نحتفظ بمسافة مفارقة، فإننا لا نزال نمارسها".

 

تتألف الايدولوجيا الرأسمالية على وجه العموم ـ يواصل جيجيك ـ على أساس المبالغة في الاعتقاد، بمعنى الموقف الداخلي الذاتي. ونحن نعرض ونُخًرج سلوكياتنا على حساب المعتقدات. إذ طالما أننا نعتقد (في قلوبنا) أن الرأسمالية سيئة، فإننا أحرار في مواصلة الانخراط في التبادلات الرأسمالية. ووفقا لجيجيك أيضاً ـ الرأسمالية تعتمد على هذا التركيب الإنكاري. فنحن نعتقد أن المال ليس سوى رمز تافه بلا قيمة ذاتية، ولكننا نتصرف كما لو أنه ذو قيمة مقدسة. ويعتمد هذا السلوك على وجه التحديد على الإنكار المسبق، فنحن قادرون على التولع بالمال في تصرفاتنا فقط بسبب أننا قد اتخذنا بالفعل (مسافة ساخرة) من المال في رؤوسنا.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

 

 

أضف تعليقك