الذكرى الثالثة والأربعون لمعركة الكرامة الخالدة

الرابط المختصر

يحتفل الوطن كل عام بهذه المناسبة الخالدة مناسبة معركة الكرامة التي تشكل نقطة تحول كبيرة في مسيرة الصراع العربي الإسرائيلي وصفحة مشرقة من الصبر والتحدي والتصميم لدى أبناء الجيش العربي الذين سطروا خلالها أروع البطولات وأجمل الانتصارات على ثرى الأردن الطهور .

وفي ذكراها من كل عام يحلو الفرح وتسمو معاني النصر، ومهما كان احتفالنا بهذه المناسبة الخالدة فإننا لن نفيها حقها لأنها أكبر من كل الكلمات والاحتفالات، حيث تحوم أرواح الشهداء في فضاءات الأردن، فوق سهوله وهضابه وغوره وجباله، وتسلم على المرابطين فوق ثراه الطهور، وتسري في العروق رعشة الفرح بالنصر ونشوة الافتخار بهذا الجيش العربي الهاشمي وتطمئن القلوب بذكر الله وهي تقرأ قول الحق على روح قائد الكرامة المغفور له الملك الحسين رحمه الله وشهداء الكرامة واللطرون وباب الواد والقدس وحرب الاستنزاف والجولان حيث يختلط دم الخَلف بدماء السلف حيث النجيع الزكي في يرموك العز، وحطين ومؤتة وفحل والكرامة، فيسمو الوطن بقدسية أرضه وحرية إنسانه وكرامة أمته وأصالة رسالته التي توارثها قادة هذا الوطن من آل هاشم، حتى آل نصر الكرامة إلى بناء وإعمار وعطاء، وتعاون وتكافل بين أبناء الأسرة الأردنية الواحدة التي تحتفل كل عام في مثل هذا اليوم بما أنجزت وحققت وبما جادت به النفوس في سبيل أن يبقى بيرق هذا الحمى العربي الأصيل يخفق بين أرواح الشهداء عالياً كما هي هامات أهله وربعه وعشيرته وجيشه، لا تنحني إلا لله الواحد الأحد. وفي هذا السياق قال جلالة المغفور له بإذن الله الملك الحسين خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده جلالته في اليوم التالي للمعركة: "يا اخوتي في السلاح يا حصن الأردن الحصين ودرع العرب المتين يا معدن الفخر وينبوع الكبرياء، يا ذخر البلد وسند الأمة، وأصل البطولة والفداء، أحييكم تحية إكبار لا تقف عند حد وتقدير لا يعرف نهاية، وأبعث مثلها إلى أهلي من ذوي الأبطال الذين سقطوا في ساحات الوغى بعد أن أهدوا إلى بلدهم وأمتهم أنبل هدية وأعطوا وطنهم وعروبتهم أجزل العطاء، فلقد كنتم جميعاً والله أمثولةً يعز لها النظير في العزم والإيمان، وقمة ولا كالقمم في التصميم والثبات، وضربتم في الدفاع عن قدسية الوطن والذود عن شرف العروبة أمثولة ستظل تعيش على مر الزمان. وإذا كان لي أن أشير إلى شيء من الدروس المستفادة من هذه المعركة يا إخوتي فإن الصلف والغرور يؤديان إلى الهزيمة وإن الإيمان بالله والتصميم على الثبات مهما كانت التضحية هما الطريق الأول إلى النصر وإن الاعتماد على النفس أولاً وأخيراً ووضوح الغاية ونبل الهدف هي التي منحتنا الراحة حين تقرر أننا ثابتون صامدون حتى الموت مصممون على ذلك لا نتزحزح ولا نتراجع مهما كانت التحديات والصعاب".

ولقد كان صمود الجيش العربي الهاشمي في معركة الكرامة نقلة نوعية في تنامي الروح المعنوية العالية، والقدرة القتالية النادرة التي يتمتع بها الجندي الأردني، وهذا الصمود والنصر كانا منعطفاً هاماً في حياة الأمة العربية تحطمت خلاله أسطورة التفوق الإسرائيلي وأبرزت للعالم أن في هذا الوطن جيشاً يأبى الضيم ويدحر العدوان، ويذود عن حماه بالمهج والأرواح ويدافع عنه بكل ما أوتي من قوة.

ان النصر الذي حققه الجيش العربي الباسل البطل في هذه المعركة، جاء في وقت كنا فيه بأمس الحاجة إلى ملامح نصر وعزة وكرامة وإلى وقفة كلها شرف وإباء، وكانت معركة الكرامة التي هي أول نصر مبين يحققه جيشنا العربي المصطفوي للعرب عبر صراعنا الطويل مع إسرائيل وقوتها العسكرية المتغطرسة، أثبت خلالها الجيش العربي ان النصر العسكري العربي على إسرائيل ليس مستحيلاً وإنما هو مؤكد كما حدث في معركة الكرامة.

وتلخصت أهداف العدو بما يأتي: 1. إرغام الأردن على قبول التسوية والسلام الذي تفرضه إسرائيل وبالشروط التي تراها وكما تفرضها من مركز القوة. 2. محاولة كسب موطئ قدم على أراضٍِ شرقي نهر الأردن بقصد المساومة عليها لتحقيق أهدافها وتوسيع حدودها. 3. ضمان الأمن والهدوء على خط وقف إطلاق النار مع الأردن. 4.توجيه ضربات قوية ومؤثرة إلى القوات الأردنية. 5. زعزعة الروح المعنوية والصمود عند السكان المدنيين وإرغامهم على النزوح من أراضيهم ليشكلوا أعباء جديدة، وبالتالي المحافظة على الروح المعنوية للجيش الإسرائيلي بعد المكاسب التي حققها على الجبهات العربية وما آلت إليه حرب حزيران 1967م.

ومن هذه المفاهيم أخذ القادة الإسرائيليون يخططون لمهاجمة الأراضي الأردنية على جبهة واسعة، والاختراق في النقاط الضعيفة لتأمين، الأهداف الحيوية التي تناسب إستراتيجيتهم، وليرغم الأردن بالتالي على الخضوع للمطالب الإسرائيلية بالشروط التي تريدها لفرض الحل السياسي الذي يناسبها.

والحقيقة ان الجبهة الأردنية لم تشهد هدوءاً أو استقراراً منذ حرب حزيران 1967 وحتى نشوب معركة الكرامة، فقد وقع ما يزيد على أربعة وأربعين اشتباكاً بالمدفعية والقصف الجوي والدبابات والأسلحة المختلفة، كلها تبين نوايا العدو المبيتة، والتمهيد للمعركة المخطط لها لاحتلال مرتفعات السلط (البلقاء) والوصول إلى مشارف عمان للضغط على الأردن ولفرض الحلول التي يريدونها.

وفي 14 اذار عام 1968 وصلت إلى القيادة العامة للقوات المسلحة الأردنية معلومات تفيد بوجود حشود معادية على طول الواجهة، وفي الأيام الأولى التالية ضاعف العدو نشاطه في الكشف والاستطلاع والتصوير وحشد قوات الدروع والمدفعية والمظليين في مواقع أمامية قرب نهر الأردن ، ومقابل غور الصافي جنوب البحر الميت وتمكنت قواتنا المسلحة بيقظتها وحرصها من تحديد ساعة الصفر للهجوم، حيث كانت (0530) صباح يوم 21 آذار من عام 1968 وتم إشعار الوحدات بذلك منذ مساء يوم 20 آذار.

حشد العدو لمعركة الكرامة أفضل قواته تدريباً وخبرة قتالية، فقد استخدم اللواء المدرع السابع وهو الذي سبق أن نفذ عملية الإغارة على قرية السموع عام 1966 واللواء المدرع 60، ولواء المظليين 35، ولواء المشاة 80، وعشرين طائرة هيلوكبتر لنقل المظليين وخمس كتائب مدفعية 155 ملم و 105 ملم، بالإضافة إلى قوة الهجوم التي استخدمها في غور الصافي، وهي كتيبة دبابات وكتيبة مشاة آلية وسريتي مظليين وكتيبة مدفعية، حشد العدو هذه القوات في منطقة أريحا، ودفع بقوات رأس الجسر إلى مناطق قريبة من مواقع العبور الرئيسة الثلاثة، حيث كان تقربه ليلاً. بدأ العدو قصفه المركز على مواقع الإنذار والحماية ثم قام بهجومه الكبير على الجسور الثلاثة عبر مقتربات القتال الرئيسة في وقت واحد حيث كان يسلك الطريق التي تمر فوق هذه الجسور وتؤدي إلى الضفة الشرقية وهي طريق جسر داميا ( الأمير محمد) وتؤدي إلى المثلث المصري، ثم يتفرع منها مثلث العارضة- السلط-عمان وطريق أريحا ثم جسر الملك حسين – الشونة الجنوبية وادي شعيب – السلط – عمان ثم جسر الأمير عبد الله ( سويمه، ناعور) عمان.

وفي فجر يوم 21 آذار 1968 زمجرت المدافع وانطلقت الأصوات على الأثير عبر الأجهزة اللاسلكية تعلن بدء الهجوم الصهيوني عبر النهر على الجيش الأردني الصامد المرابط.

اندفعت القوات العاملة على هذا الجسر تحت ستار كثيف من نيران المدفعية والدبابات والرشاشات المتوسطة فتصدت لها قوات الحجاب الموجودة شرق الجسر مباشرة ودارت معركة عنيفة تمكنت قواتنا خلالها من تدمير عدد من دبابات العدو وإيقاع الخسائر بين صفوفه وإجباره على التوقف والانتشار. عندها حاول العدو إقامة جسرين إضافيين، إلا أنه فشل بسبب كثافة القصف المدفعي على مواقع العبور، ثم كرر اندفاعه ثانية وتحت ستار نيران الجو والمدفعية إلا أنه فشل ايضاً، وعند الظهيرة صدرت إليه الأوامر بالانسحاب والتراجع غرب النهر تاركاً العديد من الخسائر بالأرواح والمعدات.

لقد كان هجوم العدو الرئيسي هنا موجهاً نحو الشونة الجنوبية وكانت قواته الرئيسة المخصصة للهجوم مركزة على هذا المحور الذي يمكن التحول منه إلى بلدة الكرامة والرامة والكفرين جنوباً، واستخدم العدو في هذه المعركة لواءين (لواء دروع ولواء آليا) تساندهما المدفعية والطائرات.

وفي صباح يوم الخميس 21 آذار 1968 دفع العدو بفئة دبابات لعبور الجسر، واشتبكت مع قوات الحجاب القريبة من الجسر، إلا أن قانصي الدروع تمكنوا من تدمير تلك الفئة، بعدها قام العدو بقصف شديد ومركز على المواقع ودفع بكتيبة دبابات وسرية محمولة، وتعرضت تلك القوة إلى قصف مدفعي مستمر ساهم في الحد من إندفاعه، إلا أن العدو دفع بمجموعات أخرى من دروعه ومشاته، وبعد قتال مرير استطاعت هذه القوة التغلب على قوات الحجاب ومن ثم تجاوزتها، ووصلت إلى مشارف بلدة الكرامة من الجهة الجنوبية والغربية مدمرة جميع الأبنية في أماكن تقدمها. واستطاع العدو إنزال الموجة الأولى من المظليين شرقي الكرامة لكن هذه الموجة تكبدت خسائر كبيرة في الأرواح وتم إفشالها، ما دفع العدو إلى إنزال موجة أخرى تمكنت هذه الأخيرة من الوصول إلى بلدة الكرامة وبدأت بعمليات تدمير لبنايات البلدة، واشتبكت مع بعض قواتنا الموجودة هناك في قتال داخل المباني، وفي هذه الأثناء استمر العدو بمحاولاته في الهجوم على بلدة الشونة الجنوبية، وكانت قواتنا تتصدى له في كل مرة، وتوقع به المزيد من الخسائر، وعندما اشتدت ضراوة المعركة طلب العدو ولأول مرة في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي وقف إطلاق النار، ولكن المغفور له جلالة الملك الحسين بن طلال طيب الله ثراه أمر باستمرار القتال حتى خروج آخر جندي إسرائيلي من ساحة المعركة، وحاول العدو الانسحاب إلا أن قواتنا تدخلت في عملية الانسحاب وحولته إلى انسحاب غير منظم فترك العدو عدداً من آلياته وقتلاه في أرض المعركة.

وفي محاولة يائسة من العدو لمعالجة الموقف قام بفصل مجموعة قتال من قواته العاملة على مقترب وادي شعيب ودفعها إلى مثلث الرامة خلف قوة الحجاب العاملة شرق الجسر لتحاصرها، إلا أنها وقعت في الحصار وتعرضت إلى قصف شديد أدى إلى تدمير عدد كبير من آلياتها.

وانتهى القتال على هذا المقترب بانسحاب فوضوي لقوات العدو وكان للمدفعية الأردنية ونيران الدبابات وأسلحة مقاومة الدروع الأثر الأكبر في إيقاف تقدم العدو وبالتالي دحره خائباً خاسراً.

لقد صدرت الأوامر الإسرائيلية بالانسحاب حوالي الساعة 1500 بعد أن رفض المغفور له جلالة الملك الحسين القائد الأعلى للقوات المسلحة آنذاك وقف إطلاق النار، والذي كان يشرف بنفسه على المعركة ويقودها ويبعث روح الحماس بين جنوده وقواته وكان بتصميمه وإرادته القوية مثلاً رائعاً تعلم منه الجميع كيف تكون الإرادة الحرة القوية فوق كل اعتبار.

لقد استغرقت عملية الانسحاب تسع ساعات نظراً للصعوبة التي عاناها الاسرائيليون في التراجع وبفضل القصف المركز من جانب قواتنا.

وبلغ عدد القتلى من العدو 250 قتيلاً والجرحى 450 وتدمير 88 آلية مختلفة تمكن العدو من إخلائها وقد شملت 27 دبابة و 18 ناقلة و 24 سيارة مسلحة و 19 سيارة شحن و 20 دبابة وآلية مختلفة بقيت في أرض المعركة وإسقاط 7 طائرات مقاتلة.

قواتنا الباسلة عدد الشهداء 86 والجرحى 108 . تدمير 13 دبابة و 39 آلية مختلفة.

وأبرزت المعركة حسن التخطيط والتحضير والتنفيذ الجيد لدى الجيش العربي مثلما أبرزت أهمية الاستخبارات إذ لم ينجح العدو بتحقيق عنصر المفاجأة نظراً لقوة الاستخبارات العسكرية الأردنية والتي كانت تراقب الموقف عن كثب وتبعث بالتقارير لذوي الاختصاص حيث تمحص وتحلل النتائج فتنبأت بخبر العدوان ما أعطى فرصة للتجهيز والوقوف في وجهها.

كما برزت أهمية الاستخدام الصحيح للأرض حيث أجاد جنود الجيش العربي الاستخدام الجيد لطبيعة المنطقة وحسب السلاح الذي يجب أن يستخدم وإمكانية التحصين والتستر الجيدين بعكس العدو الصهيوني الذي هاجم بشكل كثيف دون معرفة بطبيعة المنطقة.

وسطر شهداء الجيش العربي الأردني بدمائهم الزكية صفحة مشرقة في تاريخ وطنهم وأمتهم يخلدها لهم التاريخ على مدى الزمن السرمدي ، وخلال الاحتفال بالذكرى الاربعين لمعركة الكرامة الخالدة قال جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين القائد الأعلى للقوات المسلحة في كلمة لجلالته بهذه المناسبة: "نستذكر من هذا المكان الطاهر المعطر بدم الشهداء وبطولات الجيش العربي الذكرى الأربعين لمعركة الكرامة التي حقق فيها نشامى هذا الجيش أعظم الانتصارات، وسجلوا فيها ملحمة الشجاعة والبطولة والتضحية والانتماء، وأعادوا فيها للأمة كرامتها وثقتها بنفسها.

وفي هذه الذكرى الغالية نرفع الأكف تضرعاً لله العليّ القدير أن يتغمد الحسين قائد هذه المعركة بواسع رحمته وان يمنح جلالة القائد الأعلى الملك عبد الله الثاني ابن الحسين العزم والقوة ليمضي بالأردن قدماً نحو معارج الرقي والتقدم .

أضف تعليقك