الدولة الأردنية: من جوف الآلة.. وعنها
في تفاصيل عمل الدول، هناك آليات معينة تتحرك بها الدولة، وفي الدول التي لا تزال قاصرة عن الوصول إلى دولة مؤسسات مكتملة الأركان، فإن الحيلة تكمن في توليف ذاتي داخل ماكينة الدولة يمنع الاحتكاكات ويجعل الماكينة تدور بأقل ما يمكن من معوقات.
في الدولة الأردنية، وهي دولة شبه مؤسسية يحمي الوضع الدستوري الملك من المساءلة ويمنحه صلاحيات مطلقة مما يجعل حكومات "جلالة الملك" ليست أكثر من إدارات سياسية لجهاز بيروقراطي ضخم، وكانت التوليفة في ماكينة الدولة دوما هي تلك النخبة التي تحيط بالملك، ونوعية تلك النخبة وتركيبتها كانت حيوية ومهمة لضمان تشغيل ماكينة الدولة وعدم توقفها، وهي ما يمكن تسميته بالحلقات الوسيطة بين الملك والباقين.. كل الباقين في الدولة بلا استثناء.
المرويات عن تلك الحلقات الوسيطة كثيرة، والحكايا التي يعرفها كثيرون أكثر، ومن آخرها مثالا لا حصرا ما نعرفه من عام 2009، حين تصاعدت حمى التهديدات ضد الزميل الصحفي الأردني بسام بدارين، وقد كانت تقاريره الصحفية المحكمة والمشغولة بعناية مهنية قد فتحت عش الدبابير عليه، في قضايا سحب جنسية مواطنين أردنيين من أصول فلسطينية في تطبيق أمني "تعليماتي لا قانوني" فظ لقرار فك الارتباط مع الضفة الغربية والذي أصدره الملك الراحل الحسين عام 1988، في نوبة غضب عارمة.
الزميل بدارين ـ وهو مثال من أمثلة كثيرة ـ تعرض لحملة تهديدات استهدفت حياته، ومع شعوره بغياب أي تغطية أمنية جدية لحمايته، لجأ إلى رئيس الديوان الملكي "آنذاك"، ليوصل صوته إلى الملك، فهو رأس السلطات وصاحب الأمر النهائي في المحصلة، وحسب ما فهمناه وقتها، فإن رئيس الديوان بادر من فوره بالاتصال بمدير المخابرات، ليطلب منه توضيحا وطلبا بحماية الزميل "المغضوب عليه"، مدير المخابرات كان رده فاترا، لكن الرسالة وصلت لجهازه الأمني بأن مكتب الملك في صورة المشهد، وفعلا، قام رئيس الديوان الملكي بتوصيل المعلومة للملك، والذي أمر جهازه الأمني بملاحقة التهديدات ووقف مصدرها.
تلك كانت توليفة ماكينة الدولة الأردنية وحيلتها في وقف الاحتكاكات بين تروسها ومفاصلها المتراصة إلى جانب بعضها بضغط ديموغرافي وجغرافي فريد من نوعه..
وهي ماكينة يمكن إعادة تصنيعها بطريقة أكثر مرونة لو كانت الدولة دولة مؤسسات بدستور ناظم، لا يحتاج فيه المرء إلى أي حلقات وصل مانعة للاحتكاك، فالمؤسسية ودولة القانون كافية للعمل بيسر بلا مشاكل حسب نماذج الدول المحترمة في العالم.
لكن المشكلة اليوم، أنه وبغياب واضح لدولة المؤسسات والقانون فعليا، والتوجه نحو "الحل الأمني الخشن" في مختلف الأزمات، وازدياد الاحتكاكات بالضرورة، فإن توليفة الحلقات الوسيطة قد اختفت تماما من ماكينة الدولة، وحلت محلها "حلقات عزل" تفصل بين الملك.. والباقين، كل الباقين.
هذا الغياب المفجع لتلك التوليفة السحرية الضرورية في حالة غياب دولة المؤسسات مكتملة الأركان، واستبدالها بحلقات العزل ضاعفت الاحتكاكات لا مع الإعلام وحسب، بل إن صرير تلك الاحتكاكات بين مفاصل نخب الحكم والسلطة في الدولة يتم سماعها بوضوح، وهو ما أنتج في المحصلة ثغرة خطيرة يتم استهداف الدولة منها وفيها وخلالها، والدولة هنا بمفهومها ككيان يشمل الجميع، الآلة من جوفها فيها خلل بلا شك.
♦♦♦
وفي السياق ذاته؛
كثيرا ما أتبادل الرسائل مع مسؤولين أردنيين من مختلف المستويات، فأنا في المحصلة كاتب صحفي ولم أقدم نفسي يوما سياسيا ولا ناشطا معارضا للسلطة، وبسبب هذا التأطير لذاتي والذي ألتزم به فإنني أجد خطوط تواصل وتصريح بمعلومات لكن أكثرها لا أستخدمه لأن غالبية من أتواصل معهم يرفضون توثيق أسمائهم كمصدر، حتى رأس الدولة نفسه الملك عبدالله الثاني، غالبا ما يطلب أن تكون لقاءاته خارج النشر والتسجيل الموثق ـ Off The Record ـ وفي أكثر من تواصل مع طاقم مكتبه فإن الاتصال ينقطع بالصمت من الطرف الآخر، خصوصا أنه يفترض بالملك أن يتحدث مباشرة للإعلام ما دامت الماكينة الإعلامية للدولة مسحوقة بالرعب، ومترددة بالخوف، حتى أن نقابة الصحفيين التي وجدت للدفاع عن منتسبي المهنة وحرياتهم، باتت اليوم عاجزة عن مواجهة موظف إداري برتبة محافظ يقوم بممارسة القمع الأمني للصحافة.
تلك أولى مشاكل رأس الدولة الأردنية التي خلقت فراغا في المعلومات مما جعل التحليلات والشائعات والتكهنات وحديث الصالونات مزيجا عجيبا يملأ هذا الفراغ حد الانفجار الصوتي الوشيك.
هذه المشكلة "الكبيرة والخطيرة" جعلت مادة باهتة المحتوى تحمل كل ذلك المزيج الوارد ذكره أعلاه على صيغة تقرير صحفي نشرته مجلة "الإيكونومست"، ولأن المجلة يتم وصفها بالعريقة فإن التقرير يصبح فقاعة إعلامية ضخمة تثير الجدل والضجيج وكثيرا من الإزعاج في الأردن، وهو ما لم يكن ليحدث لو كان هناك بناء تراكمي من الشفافية والدفق المعلوماتي الواضح، وهي حالة لو تحققت فإن تقرير "الإيكونومست" ما كانت لتقبل بنشره أي جريدة فضائحية المستوى لا تحمل صفة العراقة ولا الرصانة.
♦♦♦
تحتفل الدولة "بترف رسمي واضح" بالعيد العشرين لجلوس الملك على عرش المملكة، وحول الاحتفال وبمحيطه تثور التساؤلات بين الأردنيين ومن خارج محيطهم، عن تلك الأزمات التي تحاصر الأردن من الداخل والخارج، وهي ذاتها الأسئلة التي يطرحها الجميع ويناقشها الكل في العلن في الشارع الأردني وبجرأة أكبر في مختلف صالوناتهم السياسية من تقرير "الإيكونومست" الذي كان مجرد تساؤلات تحريضية خبيثة استثمرت في اسم المجلة العريقة لهز الدولة والعرش.
الصالونات، بغالبيتها، ماكينة تفريخ حكايات مرهونة بمصالح متضاربة
تلك الصالونات التي يسخر من وجودها الملك في لقاءاته الخاصة والمغلقة ومن كل ما تنتجه من أقاويل، لكنها في النهاية أحد أهم مخرجات الوضع القائم، في ظل غياب إعلام متماسك وحر في عالم لم تعد فيه إمكانية دفن المعلومة.
تلك الصالونات، وهي فعلا بغالبيتها ماكينة تفريخ حكايات مرهونة بمصالح متضاربة، هي التي تنتج مادة باهتة على كل الضعف المهني فيها لكنها قادرة أن تهز ماكينة الدولة الأردنية، ولا قيمة حقيقية لتلك المادة فعليا إلا ترويسة واسم المجلة التي حملتها.
وفي النتيجة، فإن القاعدة تقول إن دولة المؤسسات هي أن لا يحدث ذلك كله.