الحصانة والحصانة الذاتية عند دريدا

الحصانة والحصانة الذاتية عند دريدا
الرابط المختصر

أولا: في أشباح ماركس

 

في (أشباح ماركس،1994) يلتقط دريدا العبارة الشهيرة في البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريك إنجلز،"هناك شبح يطارد أوروبا؛ شبح الشيوعية". يهتم دريدا برمزية هذاالشبح بسبب ما قد يمكنه أن يخبرنا عن العلاقة المزدوجة بين الحياة والموت، وأيضا كيف يمكن لهذه العلاقة أن تمنحنا أسبابا جديدة للتفكير في ما يعنيه أن تعيش ( بوصفك كائنا حياً). في "التصدير" يخبرنا دريدا عن العبارة التي طاردته (واستمرت في مطاردته بقية حياته): "أود أن أتعلم كيف أعيش في نهاية المطاف". ويتساءل "من سيتعلم؟" و"هل سنعرف؟ هل سنعرف أبدا كيف نعيش وأولا وقبل كل شيئ ما الذي يعنيه (أن نتعلم أن نعيش )؟".

 

لا يمكن للمرء أن يتعلم كيف يعيش: المرء يعيش فقط. ولكن "حتى الآن لا شيئ أكثر ضرورة من هذه الحكمة.هي أخلاقيات ethics بحد ذاتها: أن تتعلم أن تعيش، وحدك، من نفسك، من قبل نفسك. الحياة لا تعرف كيف تعيش خلاف ذلك". ترتبط الأخلاقيات بالحياة؛ إنها تكمن في ما يفعله المرء بحياته، وبالتالي، فإن الأخلاقيات من المفترض أن تكون هي ما نعيش به. ولكن نقطة دريدا هي: إذا لم تتصالح الأخلاقيات مع الموت، فستبقى "وصية زجرية متكلفة".الأخلاقيات يجب أن تتصالح مع ما ( بين) الحياة والموت، لأن (أن تتعلم كيف تعيش) لا يمكن أن يحدث إلا ضمن هذا الـما (بين) الحياة والموت، "لا في الحياة وحدها ولا في الموت وحده".يشير دريدا إلى أنه من المهم للأخلاقيات أن لا تفكر في الحياة والموت بوصفهما منفصلين عن بعضهما البعض، ثم تصمم نوعا معينا من المعيشة التي تحقق هذا الفصل. إن الحياة دون الموت يمكن استخدامها بسهولة جدا لتعويض أي شخص أو مجموعة من الناس، أو مؤسسة ربما، وهذا هو السبب في أن "الحياة" لا بد لها أن تفهم بوصفها شبحا، "حتى وخصوصا، إذا كانت هذه الشبحية [...] لم يحدث أن كانت حاضرة بوصفها هذا ".

 

يذكرنا دريدا في أشباح ماركس أن الأنطولوجيا الكلاسيكية تتشكل جدليا، بمعنى أنها ترسم حدود (الكيونة ذاتها is-ness ) عن طريق التمييز الحاسم بين الوجود والعدم، والحضور والغياب، وما هو لي وما هو لك، والحي والميت، وهنا وهناك، والآن وفيما بعد... وما إلى ذلك. وبالنظر إلى زعزعة الفهم الواحدي للهوية التي تنبثق من الإقصاء المتبادل لهذه الأزواج (أنا أنا بحكم أنني لست أنت، على سبيل المثال)، يموضع دريدا في المنطق الزائف pseudo-logic للمطاردة الشبحية أسبقية معينة وتجاوز دائم لمنطق المعارضة الثنائية. فالشيء الذي يطارني يطارد ويقلق جميع منتجات الأنطولوجيا المتطابقة ذاتيا، لأن شبحا ما سواء كان لي أو لغيري-لا هو ولا ليس هو، وليس مجرد حاضر ولا غائب ببساطة، وليس أنا ولا أي شخص مختلف تماما عني، وليس حيا ولا ميتا، وليس هنا وليس هناك تماما، ويصل بمثابة ثم (سواء في الماضي، المستقبل، أو الأسطورة) التي تجري في خضم الآن. وبعبارة دريدا، فإن المساكنة "hauntologie" تسبق الأنطولوجيا ontologie سواء من حيث الشروط أو الانقطاعات. وهكذا يمكننا القول بأن مجمل التراث الفلسفي والأدبي واللاهوتي، الإرث الذي بموجبه كل أفكارنا وتعبيراتنا وكتاباتنا ممكنه في المقام الأول ـــ مطارد ومسكون.

 

وبالتالي فإن أخلاقيات، سياسية وتأويلية معا، تنبثق من تحليل دريدا. لا بد للفكر أن يتصالح مع " أن نتعلم أن نعيش" مع الأشباح. ولكن هذا لا يعني القبول دون تمحيص رسالة كل ظهور لها. بدلا من ذلك، لا بد من الاستماع إليها بعناية وأن نقرر رأي رسالة وفي أي منعطف يمكننا أن نتجاوب معها لتكون ضمن ما نرثه. ولكن، كما يوضح دريدا في مقابلة "أن ترث لا يعني أبدا أن تحصل بشكل مبدئي على شي، على معطى يمكن أن يكون لك لاحقا. بل هو تأكيد نشط". ولكي يكون، يجب على المرء أن يقرر كيف وماذا يرث، وهكذا "يختار المرء، ويرشح، وينحل من خلال الأشباح أو من خلال تعاليم كل روح". هذا الإرث المستمر، والمتغير باستمرار، هذا التوجيه المتواصل من بعض الأشباح دون غيرها هو الذي يجعل مني ما أنا عليه. وهكذا فإن الكينونة "حصانة ذاتية" من حيث أنها  تسمح لشيئ غير الذات أن يشكل الذات. وبقدر ما تقوم بفعل التوريث، بقدر ما أن الهوية بوصفها حصانة ذاتية تكون مسكونة ومطاردة من الأشباح. "أنا أكون تعني أنا مسكون....أينما كان هناك أنا، فهناك أشباح". نحن مسكون بالأجداد، بالأصدقاء والأعداء الميتيين، بالأصدقاء والأعداء الأحياء، بحلم طوباوي أو بآخر، بمجمل "التراث" - مسكونون إلى حد أن (أنا) فقط بقدر ما أنا لست أنا أو ليس تماما "أنا". تماما كما أن (نحن) فقط نحن بقدر ما أننا لسنا "نحن" بصورة أو بأخرى. وكما أن "الآن" و "لاحقا" هي ذاتها فقط بقدر ما تخترقها  طلقات أشباح الماضي، والحاضر، و ما سيأتي".

 

هنا نصل الىما يتعلق بالسياسات الحيوية وتوظيف دريدا السياسي لمصطلحي الحصانة والحصانة الذاتية من القاموس الطبيفي هذا الكتاب، ثم لاحقا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر. ذلك أنه المهم العودة إلى تحليله للعلاقة بين الحصانة الذاتية والشبح في (أشباح ماركس) كي نفهم مغزي توظيفهما في أعماله المتأخرة. ولكن وقبل ذلك سأعرف الحصانة والحصانة الذاتية من المنظور الطبي الذي استند عليه دريدا تحديدا حين نقل المصطلحين إلى الفضاء السياسي*. يقول دريدا:"يحمي التفاعل التحصيني (المناعي) immunitary reactionالجسم السليم من خلال إنتاج الأجسام المضادة ضد المستضدات الدخيلة. في التحصين الذاتي، والذي يهمنا بشكل خاص هنا، يحمي الكائن حي نفسه من حمايته الذاتية، من مناعته وذلك بتدمير نظام المناعة الخاص به. وحين تمتد ظاهرة هذه الأجسام المضادة إلى منطقة أوسع من المرض يلجأ المرء بشكل متزايد إلى مثبطات المناعة الموجهة للحد من آليات الرفض وتسهيل تقبل بعض عمليات زرع الأعضاء". يخدم التعطيل الجزئي لنظام الجسم في للدفاع عن النفس في هذه الحالات فرص المريض في البقاء على قيد الحياة لفترة أطول -بالنسبة لدريدا، يمكن للحصانة الذاتية أن تكون قوة إيجابية، مثلما أن دافع الموت عند فرويد يمكن أن يكون إيجابيا:

 

"تُبقي شهادة الصراع الذاتيSelf-contesting attestation مجتمع الحصانة الذاتية على قيد الحياة، ما يعني أنه مفتوح على شيء آخر وأكثر من نفسه: على الآخر، والمستقبل، والموت، والحرية، وقدوم أو حب الآخر". وبعبارة أخرى، تحفزنا الحصانة الذاتية على إعادة النظر في الحياة والموت.

 

نعود إلى العلاقة بين الحصانة الذاتية والشبح. فإذا كان الشبح يحوم في الما (بين)الحياة والموت، في قلب أخلاقيات المعيشة، فإن الحصانة الذاتية توسع هذا القلق إلى قضية ما هو الموجود فعلا بين الحياة والسياسات (السياسات الحيوية). رأى دريدا في مصطلح الحصانة الذاتية وسيلة لتعقيد مسألة الكائن الحي (الحيوي أو الحيواني bio- or zoological)عن طريق تحويل التركيز إلى ما (بين) الحياة والموت.

 

"ما هو الشبح؟" يدعونا دريدا أن نتساءل، و"ما هي فعالية أو حضور الشبح الذي يبقى غير فعال، وافتراضي، ولا قيمة له باعتباره زائفا"؟ يظهر شبح بوصفه وجودا مشكوكا فيه من حيث أن هذا الحضور إما أنه لا يفترض أن يكون، أو أنه في الواقع لا وجود له، أي أنه ليس حقيقيا. وعلى الرغم من ذلك، عندما نتحدث عن شبح، نحن نتحدث عن حضور. نقطة دريداعلى وجه التحديد هي استجواب المعارضات بين "الحقيقي وغير الحقيقي، الفعلي وغير الفعلي، والمعيشة واللامعيشة، والكينونة والعدم ".لا يعنى أن الشبح غير موجود أنه لا شيئ. فكون شيئ ما مستحيلا لا يعني أنه غير موجود. تنطوي كل معارضة بين الحياة والموت، والحقيقي وغير الحقيقي على خاصية تمنح الحضور أو المادية لواحدة منهما وليس للأخر. يستجوب دريدا الكيفية التي يتم بها توظيف هذه الخصائص داخل السياسة مبرر الأشياء وأفكار معينة، أو لتحصين وحماية كائنات بعينها. ومع ذلك، فالحصانة مستحيلة حتما لأن ما هو محصن أو محمي مطارد مننقيضه. تبدأ الحصانة الذاتية في تسييس مفهوم الشبح من خلال شرح كيف تحاول بعض الخطابات تحصين الحياة ضد الموت، ولكن في عملية تنتهي بالتحصين الذاتي الذي يتحول ضد الحياة نفسها. ومثل ما أن الحياة البيولوجية تحتاج إلى الحصانة الذاتية لتشكل وتحمي ذاتها، فإن الحياة تحتاج الى الشبح لمواصلة العيش. ولكي نعود إلى مفهوم الأخلاقيات المعيشية، يمكننا أن نقول أن الحصانة الذاتية تحمل أيضا مسؤولية أخلاقية تجاه الآخر بسبب أن الحصانة الذاتية هي أيضا مطلوبة لأي لقاء مع غيرــ الذات. تنطوي الحصانة الذاتية على "مواجهة الآخرين، قبل (أوأمام) الآخرين "من خلال الاعتراف بالانفتاح الذي لا مفر منه على إمكانية مواجهة الآخر". هنا الحصانة الذاتية واقية ومدمرة على حد سواء، وخطر وفرصة يجب على الأخلاقيات المعيشية أن تقبض عليها. التهديد والفرصة حيويان للتفكير في ما الذي تعنيه الآثار المترتبة على الحصانة الذاتية في فلسفة دريدا عن الحياة المعيشية، وفي كيف يمكن لأخلاقيات المعيشة أن تكون مغلقة على الآخر أو أن تكون ملوثة بالآخر. من المستحيل أن تحصن نفسك من الآخر لأن لا شيئ سيكون موجودا، لا شى يمكن تعلمه، ولا يمكن التواصل دون الآخر. يمنحنا كل من الشبح والحصانة الذاتية وسائل للحفاظ على الأخلاقيات التي ترحب بالآخر ـ  بوصفه فرصة من التهديد ـــ عن طريق التركيز بعيدا عن الوحدة المستحيلة للجسد الحي المتفرد ذاته.

 

وجهت فكرة الشبح الذي لا يحضر أبدا كما هو عليه قراءة دريدا للشيوعية والديمقراطية (وكيف يتم تصور الحياة بين المفهومين)، في أشباح ماركس، يتتبع دريدا كل ما يشير إلى الأشباح والأطياف في الكتاب، ويجد أن ماركس، مثل كل المفكرين الملحدين العقلانيين في أواخر عصر التنوير، مصاب بالرعب من الأشباح، خوف يمكن ملاحظته بشكل خاص في دحضه المتكرر لعبارة شتيرنر:"في الواقع، إن العالم كله مسكون." يرى ماركس أن هذا الاعتقاد سخيفا، ولكن كما يلاحظ دريدا، أن الكمية غير عادية من الطاقة التي يبذلها ماركس في محاولة نفي الأشباح تحرض في النهاية على تعزيز عودتهم (كما في الكلمات الافتتاحية من عمله الأهم). يغلف دريدا هذا النوع من التخريب الذاتي في الدحض بتوظيف كلمة conjurer اتي تعني بالفرنسية الدعوة والإنكار، أو الاعتقال في الوقت نفسه.

 

وهكذا فإن هذا الاستحضار conjuring (الاستدعاء والإنكار ) ينفد بطريقة إشكالية اليوم ليس من جانب ورثة ماركس بل في الديموقراطية الليبرالية التي عينت نفسها بوصفها الفلسفة السياسية الوحيدة المتبقية على الكوكب، الخطوة التي يقرؤها دريدا بوصفها محاولة لحرمان الجمهور إلى أي /وجميع أشباح الماركسية: للتأكد من أن هذا المخلوق الميت باق في نعشه اجتماعيا وسياسيا. ولكن هذه الأشباح أكثر اصرارا حين تكون في المواضع الأقل ترحيبا واحتفاء. وفي محاولة محاربة بعضها (على سبيل المثال، أشباح حقوق العمال، والمساواة، وإعادة توزيع من ثروة والبضائع)، فإن الرأسمالية الحديثة تعيد نفسها في صورة أشباح أكثر شمولية من ماركس.

 

ولأن ماركس رفض الموت في الحياة، فقد حرم نفسه من التفكير خارج مفهوم الحياة وحده. ولأن ماركس "يحب الحياة"، فقد حافظ على "تفضيل غير مشروط للجسم الحي". وفي حين أن هذه قد تبدو ملاحظة غريبة، إلا أنها مهمة لدريدا لأن حب ماركس لمفهوم الجسد الحي هو ما يتركه أعمى عن بعض الأخلاقيات التي تفزع سياسات العيش الذي ليس حياة ولا موت. ولأن ماركس يركز على أن مفهوم حياة ينطبق فقط على جسم الإنسان، فقد شن "حربا لا نهاية لها ضد كل ما يمثله، كل ما هو ليس الجسد ولكن ينتمي له ". وبإسم الحياة المعيشية اللائقة بجسم الإنسان، يُقصي ماركس سائر المفاهيم، والأفكار، والأشياء التي تحيط بمفهوم الحياة، مثل الشبح. "المفهوم السياسي الذي لا يؤدي إلى تصنيف الحياة في التسلسل الهرمي للفرق يجب أنيتخلى عن الرغبة في تحديد المناسب للحياة، وأن يتصالح مع حقيقة أن "الأنا الحية هي حصانة ذاتية".

 

*الحقيقة أن دريدا ربما كان يفكر في تفسير المناعة الذاتيةكما في متلازمة نقص المناعة المكتسب (الإيدز)، الذي كان يعتقد -خطأ، كما اتضح لاحقا ــأنه بسبب أنبعض الخلايا والآلياتالمناعية تدمر الخلايا التائية T lymphocyteالمختصة بالمناعة الخلويةcellular immunity. المناعة الذاتية أو الإنضِدادية بالإنجليزية (Autoimmune disease): تحدث نتيجة فشل الجهاز المناعي لجسم الكائن الحي بالتعرف على الأعضاء والأجزاء الداخلية الخاصة به، حيت لا يستطيع معرفة البصمة الوراثية الخاصة بخلايا الجسم فيتعامل معها كأنها غريبة عنه ويبدأ بمهاجمتها باستخدام خلايا المناعة والأجسام المناعية. مفهوم يختلف قليلا عن تفسير دريدا بأنه نتيجة فرط نشاط جهاز المناعة بحيث ينقلب على نفسه ويدمر آلياته.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

 

أضف تعليقك