الحرب على "أونروا" تستهدف حقّ العودة

الرابط المختصر

يرتقي قرار الولايات المتحدة، ومن تبعها من حلفائها، تعليق تقديم مساهماتهم المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، إلى المشاركة المباشرة في حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين في غزّة وتهجيرهم منها ومن الضفة الغربية المحتلة، فسلاح التجويع وسيلة لتحقيق الموت البطيء للضحية المنتقاة. عدا عن أنه ردة فعلٍ انتقامية ضد قرار محكمة العدل الدولية التي قبلت دعوى جنوب أفريقيا بارتكاب حرب إبادة في غزّة، كما أنه محاولة لعرقلة إلزام إسرائيل بالإجراءات التي تمنع حرب الإبادة من قتل وتدمير وتجويع. إذ لجأت إسرائيل وأميركا إلى إيجاد تُهم تعيد الأنظار إلى 7 أكتوبر بوصفها نقطة البداية، لشطب السياق القانوني والتاريخي الذي وضعته جنوب أفريقيا لمشروع استعماري استيطاني يهدف إلى إلغاء الشعب الفلسطيني.

لا يحكي كل ما تقدم من أهداف أميركية وإسرائيلية غير أخلاقية كل الرواية؛ فالعداء الأميركي لوكالة أونروا قديم، وخاصة منذ بداية سبعينيات القرن المنصرم، بعد ظهور فصائل المقاومة الفلسطينية، وبروز دور الوكالة ليس فقط بوصفها منظمّة وفرت سبل الحياة للفلسطينيين، بل بحكم إشرافها على المدارس ومعلميها، لتأخذ دوراً لم تتوقعه الأمم المتحدة أو الدول المموّلة، بالحفاظ على الهوية الفلسطينية، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين. أي إنّ فلسطينيي المخيمات، وحتى من خارج المخيمات، لم يتعاملوا مع "أونروا" مؤسّسة خيرية تقيهم شرّ البرد والجوع، وإنما مؤسّسة تحافظ على صمودهم وبالتالي حقوقهم. ولم تنتبه الدول الغربية في السنوات الأولى لبداية تأسيس الوكالة الأممية إلى تمسّك الفلسطينيين بحقوقهم، وسعيهم إلى العلم والثقافة، فهم امتداد لمجتمع ما قبل النكبة الغني بالعلم والثقافة، ولم تتوقع الدول المموّلة أن دورها سيتجاوز أهداف تأسيسها.

نظرياً، كان من الطبيعي أن يكون دور وكالة انبثقت عن الأمم المتحدة الحفاظ على هوية اللاجئين الفلسطينيين، فميثاق الأمم المتحدة وقراراتها، وأبرزها قرار الجمعية العمومية رقم 194 ينص على حق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين. لكن هذا لم يكن في حسابات الدول الغربية، وخصوصاً بعدما أصبحت الولايات المتحدة المتعهد الأول لإسرائيل والتزامها بتفوّقها العسكري، بما يعنى ذلك من إنكار حقوق الشعب الفلسطيني التاريخية والمشروعة في بلادهم فلسطين.

قصة اللاجئين الفلسطينيين مع "أونروا" معقّدة، فلا يوجد لاجئ لم يلاحقه شعورٌ بالغضب من الذلّ الذي أحسّه خلال وقوفه في طوابير لاستلام كيسٍ من القمح أو السكر أو الرز. هي علاقة تُظهِرُ رغبة الدول الغربية باستعمال "أونروا" أداة لتطويع اللاجئين الفلسطينيين مقابل رفض الفلسطيني ونضاله لأن تكون "أونروا" أداة تمكين لنشوء أجيال متعلّمة صامدة تنطلق إلى العلم، وتحافظ على حقّ الفلسطيني في تاريخه ووطنه، الحق الذي انتصر.

الأنظمة يهمّها رضا واشنطن، وواجب الشعوب العربية الآن هو الضغط لوقف التطبيع، وقطع العلاقات مع دولة تمارس الإبادة ضد الشعب الفلسطيني

وقد بقيت مأساة تشريد الفلسطيني من بيته ووطنه وحقول القمح وبيارات البرتقال وأشجار الزيتون راسخة في ذاكرته، لأنها جزء من الحفاظ على الهوية بل حلم العودة، أيا كانت أهداف الدول المموّلة "الأونروا"، فبرغم مرارة الشعور بالذل، التي ترافق اللاجئ الفلسطيني، مهما تغيّرت حياته من إحساس "التسوّل" على أبواب "أونروا"، 

هل كان المموّل الأجنبي يعتقد أن المعلم الفلسطيني لن يدرّس تاريخ بلده؟ لن يدرّس ثورات البراق وعام 1936، ويحدّث طلّابه عن مجزرة دير ياسين وعصابات شتيرن والهاغاناة وغيرهما؟ هي قصص تُسرد عن بيوتٍ كانت، واستبدلت بعد ذلك ببيوتٍ في مخيّمات اللجوء، ناهيك عن ملاحم شعراء فلسطين وأدبائها؟

هذا كلّه وأكثر، ولأن المخيّمات كانت الحاضنة الأولى للثورة الفلسطينية، كانت دائماً مصدر قلق لأميركا وإسرائيل، وتعمّق العداء لدور "أونروا" الذي لم تتوقّعه الدول المموّلة، أكثر فأكثر، فالمشروع الصهيوني يقتضي إلغاء الحقوق الفلسطينية، وفي مقدّمِها حقّ العودة، و"أونروا" تقف بوجهه. لذا؛ جمّدت الولايات المتحدة مساهماتها لهذه الوكالة الأممية أكثر من فترة، ولهذا تعتبر إسرائيل "أونروا"، ومدارسها بخاصة، عدوّاً تتعامل معه بحقد ووحشية، كما شاهدنا في كل حروبها على قطاع غزّة، وخصوصاً في حرب الإبادة الجارية المستمرّة ضد أهل غزّة.

ظلّت الولايات المتحدة تردّد دائماً اتهامات إسرائيل لـ"أونروا" تعليم مناهج "تحريضية"، أي تتحدّث عن الحق الفلسطيني

ما جدّ هو صمود المقاومة أمام الترسانة العسكرية الصهيونية، ونهوض شعبي عالمي ضد إسرائيل وتماديها في جرائمها أمام الملأ، وهو ما يُعرقل أهداف واشنطن الاستراتيجية بالوصول إلى تطبيع شامل، يعتمد على إقناع السعودية بالدخول فيه، وبالتالي، دمج إسرائيل في المنطقة تحت غطاء حلف أمني عربي بقيادة أميركا وإسرائيل.

وعليه، أصبحت "أونروا" عائقاً لا بد من إزالته، فالخطة الأميركية تعني تصفية الحقوق الفلسطينية، ولذا ظلّت الولايات المتحدة تردّد دائماً اتهامات إسرائيل لـ"أونروا" تعليم مناهج "تحريضية"، أي تتحدّث عن الحقّ الفلسطيني، وتجمّد مستحقّاتها. ولكن الأمور في هذه الحرب وصلت إلى مرحلة مختلفة من العداء، والتصميم على خنق موارد الشعب الفلسطيني، وتصميم أميركا على مشاركة إسرائيل في ابتزاز أهل غزّة، وإخضاعهم للخنوع، بعد أن دمّر الإسرائيلي غزّة وحولها إلى منطقة غير قابلة للعيش مدمّرة، لتحويلها إلى معسكرات اعتقال، و/ أو دفعهم إلى الهجرة القسرية تحت شعار "الهجرة الطوعية". ولذلك تأتي الحرب على "أونروا" في سياق الحرب على الشعب الفلسطيني، وتضع الأنظمة العربية مرّة أخرى وللمرة الألف، في قفص الاتهام، فهي تتفرّج وتناشد وتندّد، وإنْ لم يعد بعضها يستنكر حتى، بدلاً من التقدّم بعرض التعويض عما ينقص "أونروا" من إمكانات وتمويل.

ليس الحفاظ على "أونروا" بديلاً لاستمرار النضال لتحرّر الشعب الفلسطيني، ويجب هنا ألا نسمح باستعمال "إنقاذ الأونروا" الضروري، كلاصق على جرحٍ نازف، فيما تستمرّ حرب الإبادة ومخطّطات تصفية الحقوق الفلسطينية. المطلوب أن نعرف أنّ الأنظمة يهمّها رضا واشنطن، وأن واجب الشعوب العربية الآن هو الضغط لوقف التطبيع، وقطع العلاقات مع دولة تمارس الإبادة ضد الشعب الفلسطيني، فلا بديل عنهما.

العربي الجديد