الحداثة الآلية: تزاوج الأتمتة التكنولوجية والاستقلالية الذاتية الفردية

الحداثة الآلية: تزاوج الأتمتة التكنولوجية والاستقلالية الذاتية الفردية
الرابط المختصر

 

ينحت روبرت  صاموئيل في الفصل الخاص به من مجلد بعنوان (شباب الديجيتال، الابتكار، والمباغتة) والصادر عنام آي تي برس، وأعدته تارا ماك ـ فيرسون من كلية الفنون السينمائية، قسم الدراسات النقدية في جامعة كاليفورنيا الجنوبية عام 2008  ــــــــ ينحت مصطلحا جديدا لتوصيف حقبة بعد ما بعد الحداثة مركزا على التربية والتعليم. يقدم صاموئيل للفصل بقوله" إذا أردنا أن نفهم التضمينات التي تترتب على كيفية توظيف شباب الديجيتال للوسائط والتكنولوجيات الجديدة بطريقة غير متوقعة وإبداعية، فلا بد لنا أن نعيد التفكير في كثير من المتناقضات الثقافية التي شكلت التقاليد الغربية منذ بدايات عصر الحداثة. وحتى نكون أكثر دقة، فلا بد من الاعتراف أنه لم يعد بمقدورنا أن نعتمد، في تحليلاتنا للثقافة، والهوية، والتكنولوجيا، على الصراعات التقليدية بين العام والخاص، والذات والموضوع، والإنسان والآلة. فضلا عن أن التقسيم الحداثي الذي يضع الإنسان الأعزل في مواجهة عوالم الميكنة التقنية لم يعد قابلا للتطبيق على الطرق المتعددة التي يستغل بواسطتها شباب الديجيتال الوسائط الرقمية الجديدة والتكنولوجيات المعاصرة". ولذلك ـ يتابع صاموئيل ـ" فإننا نتحرك نحو مرحلة ثقافية جديدة من الحداثة الآلية أو التلقائية automodernity))".أما مفتاح هذه الحقبة التاريخية فهو تزاوج الأتمتة التكنولوجية والاستقلالية الذاتية الفردية. وبدلا من أن تكون الحرية الفردية والحتمية القدرية قوى اجتماعية متضادة، فإن شباب الديجيتال سيتحولون إلى الأتمتة من أجل التعبير عن استقلاليتهم، وسيؤدي ذلك الجمع بين الأضداد السابقة إلى إعادة هيكلة جذرية للنماذج الفكرية التقليدية والحديثة. وعلاوة على ذلك، فإن الجمع بين الإنسان والآلة في دائرة واحدة من التفاعل سيعمل، في كثير من الأحيان، على استبعاد الأدوار التقليدية للوساطة الاجتماعية وللمجال العام برمته. وبالنسبة للتربويين وصانعي السياسة العامة، فإن تواطؤ الأضداد غير المتوقع هذا يمثل واحدا من التحديات الحاسمة التي يطرحها القرن الحادي والعشرين.

 

تتلخص فكرة صاموئيل في أن بعض التوظيفات المبتكرة للتكنولوجيات الجديدة تهدد بتقويض الهياكل التعليمية والاجتماعية التي لا تزال ترتكز على المقابلة الحداثية بين الذات والآخر، والموضوعية والذاتية، والأصلي والمستنسخ. وللمساعدة في توضيح ما هي التحديات التي ستجلبها الحداثة الآلية، فإن صاموئيل يفصل الطرق التي تشكل بها، الوسائط الرقمية والتكنولوجيات الإعلامية الجديدة. ثم يناقش كيف أن هذه التكنولوجيات تتحدى النظريات الذاتيةالمعاصرة المتعلقة بالتعليم، لينهي الفصل بتقديم مقترح تقانات مختلفة لتكامل الوسائط القديمة والجديدة في التعليم والثقافة السياسية.

 

وعلى الرغم من شيوع النشاطات التعاونية التي تتضمن مجموعات من الطلاب خارج أسوار المدرسةـ فيما يطلق عليه التعليم غير المنهجي، فضلا عن أنه لا مفر من ممارسة هذه النشاطات التشاركية في سوق العمل فيما بعد، إلا أن المدرسة ظلت تقاوم الاعتراف بهذه الابتكارات الرقمية لأن الوسائط الجديدة تركز على التعاون، والمهام المتعددة، والأتمتة، وتعدد الصور والنماذج، الأمر الذي يتعارض كلية مع النموذج القديم الذي يرتكز فيه التعلم على الكتاب الورقي. ولأن كثيراً من الآباء والمعلمين والمدراء لازالوا مقيدين بالتحديد الجامد للتعليم الذي يرتبط بامتحان قدرة الطلاب على الحفظ والاسترجاع، فإن نظام التعليم بمجمله ساهم في خلق فجوة رقمية بين توظيف الطلاب للوسائط الرقمية في البيت وتوظيفها (أو عدم توظيفها) في المدرسة. وكان من نتائج هذه الفجوة أن الطلاب الذين برعوا في توظيف الوسائط الرقمية الجديدة بطرق إبداعية وغير متوقعة في البيت، باتوا يشعرون بالإقصاء والاغتراب عن المدرسة، لأن تلك المعاهد والمؤسسات التعليمية لازالت تركز على صيغ ونماذج قديمة للتواصل وتبادل المعلومات. وهنا ـ يقول صموئيل إن المؤسسات التعليمية لازالت مبنية على أسس الاحتفاء الحداثي بالفرد الأعزل الذي يُكافأ على عمله الفردي الإبداعي أو التوثيقي، بينما يحتضن الطلاب صيغا تعاونية وتقسيمية في التعلم والعمل. ويقول أن بعض التربويين الذين اعترفوا بتزايد الفجوة بين الطلاب والمؤسسات التعليمية قد طوروا نظريات ما بعد حداثية في محاولة لتجاوز التقويض الحالي في الاعتقادات والممارسات الحداثية والتقليدية. ولكن صموئيل يرى أن معظم النظريات ما بعد الحداثية قد فشلت في مقاربة الطرق التي يوظفها شباب الديجيتال للمزاوجة بين الأتمتة والاستقلالية. ويقول أننا نتحرك نحو بعد ما بعد الحداثة إلى عصر أطلق عليه وصف الحداثة الآلية. وإن على المعلمين والمربيين أن يفهموا كيف أن هذه الحداثة الآلية قد قوضت نظريات ما بعد الحداثة، والجهودالتربوية التي تسير في ركابها.

 

وكما أن تطور ما بعد الحداثة جاء من خلالها نقدها للحداثة، فإن صاموئيل يسلك الطريق ذاته. فهو يبني طروحاته على نقد ما بعد الحداثة. ويقول أن الحداثة الآلية في كثير من جوانبها تمثل ردة فعل عامة على تأكيد ما بعد الحداثة على الحتمية الاجتماعية.

 

يعلم صموئيل أن القارئ المعاصر سينفر من مصطلح ما بعد الحداثة ومن تبعاته ومناقشاته. ويرى أيضا أن الزمن قد تجاوز ما بعد الحداثة غير آسف، إلا أنه يعترف أيضا أن لذلك التصنيف الثقافي الذي كان يعرف بما بعد الحداثة توظيفات محتملة مختلفة بعضها مفيد والآخر غير ذلك. ولذلك فإنه مضطر للعودة إلى ذلك المصطلح، لأنه سيساعد في مناقشة الكثير من فروع النظام الثقافي الراهن، وكيف أن التكنولوجيات الحديثة والتيارات الاجتماعية قد غيرت بالفعل ـ ولازالت تغيرـ الطريقة التي نفكر بها بالتعليم والتعلم. وفي الوقت الذي يسعى فيه الكثيرون لنبذ فكرة ما بعد الحداثة بالمجمل، من خلال توصيفها بالحركة الجذرية العدمية، أو بالبدعة الثقافية التي كانت ستزول حتما، إلا أن صموئيل يرى أن ما بعد الحداثة تصف سلسلة من التحولات الاجتماعية المعاصرة، ويقول أنه سيحاول إنقاذ هذا المصطلح من سوء التوظيف بطرح فكرة أن هناك أربعة أشكال منفصلة لما بعد الحداثة وأن تداخل هذه الأشكال هو الذي قاد إلى سوء الفهم.

 

أول شكل لما بعد الحداثة هو التعددية الثقافية، ذلك أن ما بعد الحداثة ترى العالم مكونا من ثقافات عديدة ومن المفترض احترام الثقافات المتنوعة. وفي الحقيقة فإن التعددية الثقافية هي انعكاس للحركات الاجتماعية الهامة التي بزغت في القرن العشرين وناضلت من أجل الحقوق المدنية، وحقوق الأقليات، والنساء، والعمال، وحق تقرير المصير للأمم والشعوب. وتبعا لذلك فإن احتفاء التعددية الثقافية بالقيم والمساهمات التاريخية للجماعات الاجتماعية المتنوعة، قادها إلى فكرة انه لا يوجد مصدر وحيد وكوني لمعرفة الحقيقة. ولكن ما حصل لسوء الحظ ـ هو أن فكرة التعددية الثقافية قد التبست مع الفكرة ما بعد الحداثية المتطرفة التي تزعم أن لا حقيقة أو قيمة أخلاقية لان كل شيء نسبي ويعتمد على ثقافة الفرد. وإن هذه الصيغة من النسبية الثقافية كانت الصيغة الكرتونية الساخرة من الفكرة الأكثر دهاء والتي تقول بأن كل الحقائق والقيم هي تراكيب اجتماعية وهذا هو الشكل الثاني لما بعد الحداثة من وجهة نظر صموئيل. ويضع صاموئيل عبارة أكثر دقة تجمع الفكرتين السابقتين: النسبية الثقافية والبنائية الاجتماعية، وتضميناتهما حين يقول:" في حين أنه توجد حقائق وقيم في هذا العالم، فإنه لا يمكننا أن نفترض بعد اليوم أنها ـ أي الحقائق ـ عالمية وخالدة، خصوصا عندما توظف صفتي العالمية والخلود رمزا للذكر الأبيض".

 

وفضلاً عن التعددية الثقافية والبنائية الاجتماعية، فإن النمط الثالث من اهتمامات ما بعد الحداثة هو النموذج الثقافي الذي يجمع الثقافات المتنوعة في مجال الترفيه والفن من خلال عمليات مثل الكولاج، والريمكس، والعينات، بحيث يمكننا أن نقول بأن جميع الثقافات تعتاش على الثقافات الأخرى، ومع ذلك، فقد أدعى بعض الناس ـ بحقـ أن إصرارنا على إعادة تجميع التمثيلات الثقافية المتنوعة لم يساعدنا على فهم أو مقاربة العوالم الثقافية الأخرى. ويضيف صاموئيل قائلاً، أنه في حين أن هذا الإصدار الجمالي ما بعد الحداثي كان الأكثر انتشارا، إلا أنه كان الأقرب للتجاهل بسبب ميله إلى السطحية والزوال. وأخيرا، يحدد صاموئيل الشكل الرابع من ما بعد الحداثة، والذي يتعلق بالنقد الأكاديمي لثقافة الحداثة وفلسفتها. يأتي هذا النمط من الخطاب الأكاديمي غالبا تحت عنوان التفكيكية أو ما بعد البنيوية. وقد تعرض هذا الخطاب لهجمات عنيفة بسبب تقديمه للفكرة المتطرفة التي تدعي أن عالمنا محدد باللغة. ولأنه لا يمكن أبدا للغة الهروب من فضائها الخاص، فإن جميع المعارف والمعاني موضع شبهة وتشكيك في نهاية المطاف. وفي حين أنه يمكننا استجواب هذا التمثيل المعمم بشكل مفرط لفلسفة ما بعد الحداثة، إلا أننا ننسى في كثير من الأحيان الطريقة التي عملت بها هذه النظرية البلاغية على إخفاء الرابطة الهامة بين ما بعد الحداثة والحركات الاجتماعية. ذلك أن تصاعد العمل الجماعي حول حقوق الأقليات، والحقوق المدنية، وحقوق الإنسان والمرأة هو الذي عزز التعددية الثقافية ونقد الحداثة. لقد تحدت الحركات الاجتماعية العديد من الافتراضات الثقافية الحداثية. والحقيقة أن العديد من الناشطين أو المنظرين المشاركين في هذه الحركات الاجتماعية قد تحدى التركيز المفرط على الاختلاف ضمن ما بعد الحداثة، طارحاً، بدلاً من ذلك، نوعا من التنقل بين التشابه والاختلاف.

 

ومن الضروري أيضا التأكيد على أننا إذا أردنا لشباب الديجيتال توظيف وسائط جديدة لاقتحام العوالم الاجتماعية والعامة، فلا بد أن نكون قادرين على تحديد الحركات الاجتماعية ما بعد الحداثية دون الوقوع في شرك الأشكال الأكثر تطرفا من خطاباتها الأكاديمية.

 

ويلخص صموئيل مناقشاته السابقة بعبارة بالغة الدلالة والايجابية حين يقول:"إذا كنا نرغب أن يعي طلابنا كيف أن الثقافة والمعرفة والذاتية تتأثر بالقوى الاجتماعية الهامة، فمن الضروري أن نتجنب الوقوع في فخ الترويج للنظريات التي تحطم أسس استقرار أي معنى أو مناقشة أو عمل اجتماعي. ولأن أحد الجوانب المحددة لشباب الحداثة الآلية هو الجمع السلس بين الأتمتة والاستقلال الذاتي ـ وهذا يستبعد في كثير من الأحيان الاختلافات الثقافية والعمل الجماعي ـ فإننا بحاجة لإظهار أهمية المجال الاجتماعي في الثقافة المعاصرة".

 

وفي دراساته لنظريات ما بعد الحداثة في التربية والتعليم والمجتمع، وجد صموئيل أن نصوصا عديدة تحدد ما بعد الحداثة من منظور التخصصات المتعددة. وقد وجد أيضا أن العامل الثابت في تطويق هذه الفترة التاريخية هو التأكيد على الانتقال من مفهوم الحداثة عن العقل التنويري إلى التركيز على الطبيعة الاجتماعية لجميع المساعي البشرية. وهكذا، فسواء كنا نتحدث عن انهيار السرديات الكبرى، أو نقد العلوم الكونية، أو تصاعد التعددية الثقافية، أو هبوط أسهم الدولة القومية، أوظهور اقتصاد المعلومات العالمي، أو اختلاط الثقافة الرفيعة والشعبية، أو المزج بين الترفيه والاقتصاد، أو تطوير تكنولوجيات الاتصالات، فإننا في الحقيقة نخوض في خطاب اجتماعي مضاد للحداثة انبثقت عنه جميع الظواهر السابقة وغيرها بالطبع. وبحسب هذا المنطق، فإن الحداثة تمثل تصاعد الرأسمالية، والعلوم، والديمقراطية من خلال المساواة والعقل الكوني. علاوة على أن حقبة الحداثة كانت ردة فعل على تركيز القروسطية على التسلسل الهرمي الإقطاعي، والقدرية الدينية، والمعتقدات الكونية، والنظام الملكي السياسي. ومن المؤكد بالنسبة لصموئيل ـ مع اعترافه بان هذا التسلسل السردي قابل للطعن والاستجواب ـ أن هذا المخطط ـ التحول من القروسطية إلى الحداثة ثم إلى ما بعدها ـ لعب دورا مهيمنا في التاريخ الثقافي المعاصر. ولكن لسوء الحظ، فإن هذا السرد لن يساعدنا ـ كما سيثبت صموئيل في فصله ـ على تناول أنماط الذاتية والثقافة التي يوظفها شباب الديجيتال اليوم والتي أطلق عليها الحداثة الآلية.

 

كان التحول من الحداثة إلى ما بعد لحداثة في مجال التعليم مرتبطاً بالاعتراف المتأخر بالثقافات المتعددة التي كونت العالم كله وتحديدا جموع الطلاب في الغرب ذوي الخلفيات الثقافية المتباينة. وقد كانت القوة المركزية الموجهة للتحول نحو ما بعد الحداثة التعليمية والتربوية ـ من وجهة نظر كثيرين ـ هي الاحتفاء بالتنوع الثقافي الذي دعا ـ بوصفه واقعا معاشا في الغرب ـ إلى استجواب احتمالية وجود منظور كوني ومميز. وتبعا لذلك فقد رحب قطاع التعليم بقيم تنهل من تجاور المنظورات والأصوات المتنوعة والمختلفة والمتباينة أحيانا، والتأمل في الروابط والعوامل المشتركة بدلا من البناء الهرمي للأفكار والثقافات الذي سيقود حتما إلى منظورات مطلقة وأصوات وحيدة متفردة تتربع على قمته وتحقر الثقافات والأصوات الدنيا التي تقبع في قاع هذا البناء الثقافي الهرمي. ينقل صموئيل عن مارلين كوبر إشارتها إلى الصيغة الثقافية والاجتماعية للتعليم ما بعد الحداثي الذي تحدى النموذج الحداثي المرتكز على الذاتية المتفردة والكونية. وتبعا لذلك فإن نظرية ما بعد الحداثة يمكن أن تُقرأ بوصفها استجابة للتنوع الثقافي وتجاور مختلف الأصوات والتخصصات في بيئة ينسف فيها الوسط الاجتماعي العقل الكوني والاستقلالية الفردية. ومثل نظريات أخرى كثيرة لما بعد الحداثة، فإن فهم كوبر لهذه الحقبة يستند إلى فكرة أن مفاهيمنا عن المعرفة تحولت بعيداً عن التأكيد الحداثي السابق بشأن الحقيقة الكونية الثابتة والمطلقة، والفردية المتوحدة. وينطوي هذا التحول من مفهوم المعرفة بوصفها حقيقة كونية يمكن للغة أن تمثلها بشفافية عالية بوساطة أفراد يتميزون بالعقل الراشد، إلى مفهوم المعرفة بوصفها بناء لغوي لحقيقة جزئية ومؤقتة بوساطة أفراد متعددين ومختلفين بل ومتناقضين. لقد دفع هذا التحول إلى تقويض الفرد الحداثي ذي الوعي الموحد في ثقافة وتعليم ما بعد الحداثة التي أصبحت بدورها اجتماعية وغير كونية.

 

ويرتبط هذا التعريف الاجتماعي، الذي تقدمه كوبر، لما بعد الحداثة بالدور الذي لعبته وسائط الاتصال الرقمية الجديدة في الثقافة والتعليم. ينقل صموئيل عنها قولها:" يتحرك الفرد المفكر في المحادثات الإلكترونية نحو تعدد وتنوع العالم الاجتماعي، وهو يجرب العديد من الأدوار والمواقف أثناء التفاعل الاجتماعي المرتكز على الوسائط الرقمية الجديدة".ووفقا لهذا التوصيف للمناقشات الإلكترونية، فإن التكنولوجيات الجديدة تساعد على خلق حالة يدخل فيها الأفراد إلى بيئة متعددة الثقافات وتؤكد على الأسس الاجتماعية والحوارية والتفاعلية للمعرفة، والاتصالات، والتعليم. ومع ذلك، يرى صموئيل، أن هذا التركيز على الطابع الاجتماعي للوسائط الجديدة لا
يأخذ في الاعتبار الهيمنة المعاصرة للأتمتة، والاستقلالية الفردية العالية التي أدت إلى إنتاج الحداثة الآلية. وعلاوة على ذلك، فإن رغبة كثير من المربين والمعلمين في تعزيز مجتمع مسؤول ومتعدد الثقافات، جعلت العديد منهم يشكك في فرضية أن التعاون الشبكي (نسبة إلى الشبكة العنكبوتية) يساوي قبول التنوع الثقافي والمسؤولية الاجتماعية. ويتفق صاموئيل مع هؤلاء المشككين، ذلك أنه يرى أن المساواة بين التكنولوجيات المعاصرة والوعي الثقافي التعددي تبسيط سطحي. بل أنه يذهب أبعد من ذلك حين يقول بأن التكنولوجيات الجديدة يمكن أن تعزز صيغة تواصل مناهض للتعددية الثقافية، بل وتمنع في الحقيقة تفهم أو تجربة الفروق والاختلافات. وثمة مشكلة أخرى خطيرة في النظريات التي تؤكد تحولا جذريا من العقل الكوني الحداثي إلى الوساطة الاجتماعية ما بعد الحداثية، تتلخص في أنها تستند على تصور خطي صارم للتطور التاريخي. إن هذا النموذج التقدمي يميل إلى تجاهل استمرار تأثير الحداثة وما قبلها على ثقافة ما بعد الحداثة.

 

تواصل الجدل بهذا الخصوص في المحافل الأكاديمية ومراكز الأبحاث التي تناولت فكرة (العلوم الجديدة) التي تقول بأننا نشهد الآن تحولا جذريا في الانتقال من المعرفة الكونية الحداثية إلى ما بعد الحداثة التي تؤكد التركيب الاجتماعي للحقيقية. ولذلك نجد أن نقد الكونية الحداثية حاضر دائماً في الطروحات ما بعد الحداثية التي تتناول الصراع بين الموضوعية objectivism)) والبنائية (constructivism) في العلوم الطبيعية. ينقل صموئيل عن جورج هاوارد قوله:"في جميع أنحاء الساحة الفكرية، نلحظ أن قوى الموضوعية ترضخ لالحاحات البنائية الفكرية. ولكن ما يثير الدهشة هو أن مفهومنا للعلوم قد تغير جذريا بفضل البنائية الفكرية الحالية. ففي حين تعتقد الموضوعية بالحقيقة الحرة القائمة فعلا، الحقيقةالتي يمكن في نهاية المطاف اكتشافها، تفترض البنائية الفكرية أن جميع الصور الذهنية هي إبداعات البشر وابتكاراتهم، وبالتالي فإننا نتحدث عن واقع مخترع أو حقيقية مبتدعة. وفي الوقت الذي يركز فيه الموضوعيون على دقة نظرياتهم، نجد أن أنصار البنائية الفكرية يفكرون في جدوى نماذجها وفي منافعها وتوظيفاتها، ويدعي التربوي بول واتزلاويك"أن التحول من الموضوعية إلى البنائية الفكرية، ينطوي على وعي متزايد بأن ما يسمى واقعا ـ بالمعنى المباشر والمتماسك ـ هو بناء (تركيب) أولئك الذين يعتقدون أنهم اكتشفوه وتحققوا منه".ووفقا لتفسير البنائية الاجتماعية للعلوم، فقد تم الطعن بالمفهوم الحداثي الذي يرى المعرفة عالمية وموضوعية من قبل فكرة ما بعد الحداثة التي تقول أن المعرفة هي دائماً فعل تفسير واختراع. علاوة على ذلك، فإن النظر إلى العلوم بوصفها تشكيل إصدارات مشتركة بنائية عن الواقع، جعل علماء ما بعد الحداثة يتقبلون مفهوم الواقع الاجتماعي المناهض للفردية.

 

يرتبط هذا التحول المعاصرفي النظرة إلى الفرد ـ باعتباره مراقبا محايدا إلى النظريات المقبولة ضمن البناء الاجتماعي ما بعد الحداثيـ بالتحول في جميع جوانب الثقافة الأكاديمية الحالية. ويؤيد صاموئيل آلان ريان في وجهة نظره حول كيف تمكنت بلاغة ما بعد الحداثة من أن تغير تعريفنا للذات ولعملية تسجيل تصوراتنا وإدراكاتنا. يقول رايان:

" إن ما بعد الحداثة هي التسمية التي تحتضن التعدد. وسننتقي فكرتان هامتان لهما دلالة بالغة هنا وهما: التشككحول مقدار السيطرة التي يمارسها الكاتب على عمله، والشعور الحاد بهشاشة الهوية الشخصية. وتتفاعل هاتان الفكرتان بطبيعة الحال، فكرة أن كل فرد منا هو فرد مستقل وحيد، مع فكرة أننا نحكي قصصاً ونضع نظريات مسبقة، ونتفاعل مع الآخرين من وجهة نظر معينة. إن التشكيك بهذه الصورة بهوياتنا يقترن بفكرة أنناتحت رحمة القصص التي نحكيها، بقدر ما أنها تحترحمتنا. كما أنه يقترن بالميلإلى التأكيد على مدى عرضية فكرة أننا نتبنى الآراء التي نريد ونعيش حيث نرغب ونمنح ولاءاتنا لمن نريد".

 

نستنج مما سبق أن الاستقلال الذاتي للفرد يجب أن يكون باستمرار موضع تفاوض وتنقيح، وبالتالي فإنه ليس المنتج النهائي لثقافة ما بعد الحداثة. فضلاً عن أن هذا المفهوم للذاتية يغذي التحديد الاجتماعي لما بعد الحداثة. وبالرغم من ذلك، فإن الطلاب الذين يفترض أنهم نتاج مفاهيم ما بعد الحداثة عن البناء الاجتماعي، لا يشعرون بأن استقلاليتهم موضع تحد أو تفاوض أو أنها مؤقتة بحال. والحقيقة أن معظم الطلاب يسجلون مستوى عاليا من التحكم الفردي والحرية. فضلا عن أن الصراع بين خبرة الطلاب لحياتهم الخاصة ونظريات ما بعد الحداثة التي تصف الذاتية المعاصرة جعلت الطلاب ينبذون تلك النظريات الأكاديمية. إن مقاومة التلاميذ لتلك النظريات هو أحد الأسباب لتي تجعل من إعادة النظر في فكر ما بعد الحداثة أمرا ضروريا. ولهذا السبب يقول صموئيل أنه طور فكرة الحداثة الآلية.

 

ولذلك، ومن خلال التبصر في أخطاء نظريات ما بعد الحداثة التي قللت من أهمية الذاتية الظاهرية، فإنه يمكننا الحصول على فكرة أفضل عن احتياجات النظريات التعليمية الجديدة لتصحيح المسار. إن صياغة نظرية اجتماعية ونفسية كاملة وتامة عن الذاتية عند الطلاب، ستبين أهمية حماية العوالم الاجتماعية، وستوضح في الوقت نفسه الأسباب التي تجعل الوسائط الرقمية الجديدة تساهم في تقليل أهمية الوساطة الاجتماعية من الناحية النفسية. وفي الواقع، فإنالنظرية الاجتماعية ما بعد الحداثية عن الفردية تميل إلى إهمال الأسس النفسية والظاهرية للاستقلالية والوحدة الذاتية.

 

يؤكد صموئيل على أهميةدراسة كيفية تطور الشعور بالذات من الناحية النفسية، ويقول أننا نتعلم الشعور بالهوية الفردية للمرة الأولى من خلال النظر إلى المرآة، أو لأي تمثيل خارجي، حيث يتمثل لنا الجسم كاملاً كليا ومترابطا. تعلمنا نظرية المرآة التي وضعها لاكان عن الفردية أنخريطةجسدنا الداخلية هيتذويت لتلك الصورة الظاهرية وليستحقيقة مادية ملموسة، نظرا لأننا لا نرى الجسم كله بلمحة واحدة. وبعبارة أخرى، فإن الشعور بالذات هو نفسي افتراضي ظاهري، وليس اجتماعيا ومادياً في المقام الأول.

 

وأخيرا يأمل روبرت صموئيل أن يكون هذا الفصل بداية حوار جاد بين طرفي النقيض: الاحتفاء الساذج والإبعاد المتشائم لتكنولوجيات الاتصالات المعاصرة. ويأمل أيضاً أن تطوير صيغة نقدية من المعرفة المعتمدة على هذه الوسائل سيساعد في عملية تكامل هذه الوسائل التعلمية والمعيشية الجديدة مع أشكال التفاعل الاجتماعي القديمة. ويختتم صموئيل فصله بنبرة تفاؤلية حينيقول أنه:"يمكننا أن نحتفي بفضاء الحداثة الآلية العام من خلال الدفاع عنهوحمايته من تهديدات الخصخصة المستمرة".

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

 

 

أضف تعليقك