(الجويدة)...ودع انسانيتك على البوابة

 

يصر الاردن الرسمي على أنه بلد بلا سجون، وأن كل الموجود لديه الآن وما اصطلح على تسميتها بالسجون، لا تغدو إلا أن تكون "مراكز إصلاح وتأهيل"!!

زرت "سجن الجويدة" للمرة الاولى في حياتي، قبل بضعة سنوات، ضمن وفد من المجتمع المدني آنذاك، وبدعوة من المنسق السابق الحكومي لحقوق الانسان السيد باسل الطراونة، وعلى خلفية بناء جناح جديد في السجن. قادنا قادة السجن آنذاك ومن مختلف الاجهزة الامنية بجولة في مرافق الجناح، وبوجود بعض "النزلاء" والذين تبين لي لاحقا، بأنهم كانوا منتقين بعناية فائقة، او – ربما – كانوا من عناصر الاجهزة الامنية، الذين لعبوا دور "النزلاء"، بلباسهم الأزرق اللامع، والمفصل جيدا على قياساتهم، حيث لم يبق لهؤلاء "النزلاء" الا ان يصوروا لنا بأنهم يعيشون ويتنعمون في فردوس "مركز الإصلاح والتأهيل"!!

تجربتي "كنزيل" حقيقي في "مركز اصلاح وتأهيل الجويدة"، ولمدة 30 يوما بالتمام والكمال، جعلتني أعيش أجواء "الاصلاح والتأهيل" على حقيقتها، ولم أعد استغرب مطالبات بعض "النزلاء" بأنهم مستعدون لقبول "حقوق الحيوان" في التعامل معهم، ولا يطمحون أبدا لأن يرتقي التعامل معهم الى مستوى التعامل كبشر، وضمن منظومة "حقوق الإنسان"، التي يفتخر الاردن الرسمي بأنه من اوائل الدول التي وقعت عليها..!!

نعم عزيزي المواطن، فبمجرد "توقيفك" تحت طائلة أية قضية، وما أكثر أسباب التوقيف في بلادنا!! فإنك مضطر مجبرا لتوديع انسانيتك على بوابة "مركز إصلاح وتأهيل الجويدة"، ومن خلال اختبار الخطوات التالية:

النقل الى الجويدة: يتم نقل النزلاء مخفورين ومقيدين، من عند الجهة صاحبة أمر التوقيف الى أقرب مركز أمني، أو الى مديرية الامن صاحبة الاختصاص، وبعد طول انتظار داخل قفص القضائية في المركز المذكور، يتم اقتياد الموقوفين مقيدين إلى "سيارة الزنزانة"، والتي في أفضل حالاتها لا تصلح لنقل الدواجن ولا المواشي "عبارة عن صندوق حديدي مغلق من جميع الجهات بشباك حديدي صغير مغطى بشبك لا يسمح حتى بدخول الهواء"!!، يتم نقلهم الى مديرية الامن من اجل عملية "التبصيم" أي أخذ بصمات الاصابع والعيون، ولا فرق طبعا في زمن "الحكومات الالكترونية"، اذا كنت قد بصمت سابقا أم لا!! لتعود بعدها الى عذاب "سيارة الزنزانة" والنقل الى الجويدة... ويا طريق ما أطولك!!

الاستقبال في الجويدة: بمجرد وصولك الى بوابة الجويدة الرئيسية، فأنت مجرم حقير، لا يليق بك التعامل معك كإنسان!!، مع ان كل "نزلاء" الجويدة هم من الموقوفين الذين لم يحاكموا بعد، او تجري محاكمتهم ولم يدانوا، ضاربين بعرض الحائط بالمقولة القانونية التي تنص على ان "المتهم بريء حتى تثبت إدانته"!!  تصطف في طابور نحو غرفة "التفتيش"، والتي تتجرد فيها من كل ملابسك (من الحذاء وحتى الطاقية) باستثناء "البوكسر" في المرحلة الاولى، وتجمع كل ملابسك وحذائك وتضعهم في ماكينة الفحص (كتلك التي في المطارات لفحص الحقائب)، ومن ثم يطلب منك مأمور الفحص بكل احتقار أن تجلس بالبوكسر فقط على جهاز فحص يشبه الكرسي تماما، وذلك لفحص النزيل بالاشعة.. يجمع النزيل ملابسه نحو المرحلة التالية في التفتيش وهي نزع آخر ورقة توت تستره "البوكسر" ويقوم بالصعود والقرفصاء اكثر من مرة.. ومن ثم الى مرحلة تسليم كل ملابسه "المدنية" الى أمانات السجن، والبقاء فقط بالبوكسر والشباح حافيا وشبه عاري...!!

غرفة الادخال: بعد تسليم الأمانات، والدخول حافيا وشبه عاري (بالبوكسر والشباح فقط) الى غرفة الإدخال.. اتساءل هنا: أليس من المنطق ان يكون لكل نزيل افرهول او بدلة زرقاء يرتديها بدلا عن تركه شبه عاري؟!! أليس هذا من حقه؟!! ألا يحسب ذلك من تكلفة السجين التي تدعي إدارة السجون بأنه يكلف الخزينة ما يزيد عن 700 دينار شهريا؟!! والسؤال الأهم: ماذا لو لم تكن تحمل النقود بلحظة توقيفك؟ الجواب: ستظل شبه عاري بالبوكسر والشباح الى ان يحن عليك "اولاد الحلال" من النزلاء!!

بالعودة الى غرفة الإدخال والتي يوجد بها 10 أسرة مزدوجة (ارضي وعلوي) أي بمعنى أنها تتسع منطقيا لعشرين نزيلا، فقد كان بها العدد لحظة دخولي لها 120 نزيلا، يتصارعون مع مستوطنة الصراصير الضخمة التي تسكن المكان!! لقد رأيت أعدادا من الصراصير لم أتخيل بأنني من الممكن ان اراها بذات المكان وبهذه الأعداد اللامتناهية في مكان واحد!! لقد دخل أحدهما الى أذن أحد النزلاء أثناء نومه (نعم ايها المواطنون) لقد حصل هذا حرفيا، مما أثار الرعب في قلوب بقية النزلاء، واصبحوا لا يخلدون للنوم قبل إغلاق آذانهم بمحارم الفاين..!!

لكم أن تتخيلوا الضغط الذي يحدثه 120 شخص بمكان مخصص ل 20 شخصا، وفي بيئة غير صحية تفتقر بشدة للتهوية، وتفتقر أكثر وأكثر لنظافة الوحدات الصحية داخل غرفة الإدخال (ثلاثة حمامات بدون أبواب)!! داخل الغرفة.. لكم أن تتخيلوا 120 سيجارة مشتعلة في نفس الوقت بمكان صغير يفتقر للتهوية!!

سأكتفي بهذا القدر، في هذه الحلقة الاولى من سلسلة مقالات حول "مراكز الإصلاح والتأهيل"، وحول مسائل اخرى لها علاقة بإجراءات التقاضي في البلاد، بما يعزز "سيادة القانون" التي لا انفك عن المطالبة بها، وعسى أن تلقى آذانا صاغية لدى "المركز الوطني لحقوق الإنسان" ولدى المفوض الحكومي لحقوق الانسان، وكل من يعنيه الأمر من صناع القرار، وبخاصة في وزارتي الداخلية والعدل..

 *مقال رأي يعبر عن وجهة نظر الكاتب

أضف تعليقك