"الجهاديون الأردنيون وانهيار دولة داعش"..دراسة ميدانية ترصد ازدياد ظاهرة "الأحداث" الجهاديين
أشهر مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية كتاباً جديداً بعنوان "الجهاديون الأردنيون وانهيار دولة داعش: ديناميكيات التطرف والإرهاب وسياسات المكافحة"، وذلك في كلية الأمير الحسين للشؤون الدولية وبحضور نخبة من الأكاديميين والسياسيين والمهتمين والدارسين.
وأشار مؤلفا الكتاب د. محمد أبو رمان ود. زيد عيادات إلى أنّه يمثل دراسة ميدانية لدراسة حالة ما يسمى التيار الجهادي الأردني، بعد انهيار دولة داعش، وتضمنت دراسة مفصلة وتفصيلية لمئات الحالات من الجهاديين، إذ وصل عدد الحالات التي تناولها الكتاب ما يقارب 330 حالة، تضاف إلى ما يقارب 800 حالة تضمنها كتاب المركز السابق بعنوان "سيسيولوجيا التطرف والإرهاب في الأردن"، ليمتلك اليوم مركز الدراسات الاستراتيجية قاعدة بيانات عن الجهاديين الأردنيين تشمل ما يقارب بيانات عن 1100، وربما تمثل قاعدة البيانات العلمية والبحثية الأوسع في العالم العربي، وهي نتيجة جهد استمر لأعوام طويلة قام به باحثو مركز الدراسات في هذا المجال.
تمثّلت مهمة الكتاب في إجراء زيارة بحثية- معرفية جديدة لحقل "الجهادية الأردنية" Revisiting، بهدف استنطاق وتحليل أوضاع هذا التيار خلال الأعوام الأخيرة الماضية، بخاصة منذ انهيار دولة داعش في العراق وسوريا، ومناقشة مدى تأثير ذلك على أيديولوجيا التيار الجهادي، من جهة، والبنية التنظيمية من جهةٍ ثانية، وسمات التيار من جهةٍ ثالثة، وأنشطته الحركية من جهةٍ رابعة.
تم تقسيم الدراسة على هذا الأساس المنهجي؛ إلى مقدمة تاريخية، وتحليل استراتيجي لحالة تنظيم داعش إقليمياً، ثم أوضاع الأردنيين المقاتلين في الخارج، وأبرز أسمائهم ومعلوماتهم، ومراجعة لتأثير صعود داعش على المشهد "الجهادي الأردني"، ليناقش الفصل التالي تأثير انهيار دولة داعش على الصعيدين الأيديولوجي والحركة، ولاحقاً قدم الكتاب تحليلاً كمياً إحصائياً للحالات الدراسية التي وصل إليها وسماتها المجتمعية والاقتصادية والثقافية.
ووصل الكتاب، وفقاً للمؤلفين إلى نتائج علمية ورقمية ومؤشرات لها دلالات مهمة في رصد الظاهرة الجهادية في الأردن وأبعادها وتحولاتها وسماتها وسبل مكافة التطرف، ومن أبرز الخلاصات والنتائج..
1. على الصعيد الأيديولوجي
استمرت الخلافات الأيديولوجية الأردنية، بعد انهيار تنظيم "داعش"، فما يزال هنالك تيار داعشي، وإن كان يفتقر إلى منظّرين معروفين في الأردن، وتشير شهادات عديدة أن هنالك مراجع فقهية وفكرية للتيار في الأردن من القيادات الشبابية.
الخلافات الجديدة التي انفجرت في أوساط الجهاديين الأردنيين هي بين منظريه الرئيسيين؛ أبو محمد المقدسي، الذي أيد تنظيم "حراس الدين" وبقي على ولائه لتنظيم القاعدة وأبو قتادة الفلسطيني الذي انحاز لهيئة تحرير الشام ولما يسمى "الخط الثالث" في الجهادية العالمية، الذي يحاول أن يقدم نموذجاً محلياً يتراجع عن مبدأ "عولمة الجهاد" الذي فرضته إيديولوجية القاعدة، ويتخلص من أحمال الأخيرة، مركزاً على الديناميكيات المحلية الداخلية في الصراعات، ومحاولات تجنب الدخول في مواجهات مع القوى العالمية، وهو الاتجاه الذي يسعى بعض أتباعه إلى إطلاق مصطلح "الجهادية المعتدلة" عليه، وتعتبر حركة طالبان بنسختها الجديدة نموذجاً عليه، كما تحاول "هيئة تحرير الشام" تقديم نفسها كنموذج آخر جديد.
2. على الصعيد التنظيمي،
أغلبية الجيل الجديد من الجهاديين الأردنيين هم أقرب إلى إيديولوجية "داعش" بصورة ملموسة وواضحة، وكما يعترف قادة التيار الجهادي التقليدي، لكن الداعشيين يعانون اليوم من ظروف صعبة ويتعرضون لضغوط شديدة، والأهم من ذلك أنّ طبيعة تنظيم "داعش" انعكست عليهم والمقصود هنا تحديداً أنّنا لا نتحدث عن طبقة واحدة من الأتباع، بل طبقات متعددة، تبدأ من المتعاطفين أو المتأثرين وهم أيضاً طبقات عدة مروراً بالمتفقين فكرياً، ثم المنخرطين أيديولوجياً، ولاحقاً المتوغلين في هذا التيار، وهم النواة الصلبة، ولذلك فإن تأثير ما حدث من هزيمة عسكرية وانهيار لدولة "داعش" في العراق وسوريا لم يكن على درجة واحدة من التأثير على جميع الداعشيين، فمنهم من قرر الانسحاب من المشهد ومنهم من التزم الصمت، ومنهم من توارى عن الأنظار، ومنهم من هو مصرّ على مواقفه الأيديولوجية، لكن التيار بصورة عامة يرزح تحت الحصار والضغط، فجزء منه ما يزال في الخارج، وجزء آخر منه قُتل، وثالث مسجون على خلفية قضايا الإرهاب، ورابع يقع تحت الرقابة الأمنية المشددة، مما يجعله في حالة ركود وهدوء وترقب وانتظار.
3. على الصعيد الحركي؛
لم تحدث عمليات نوعية شبيهة بتلك التي حدثت في مرحلة صعود "داعش"،بخاصة عمليات الكرك وإربد واغتيال ناهض حتر وعملية مخابرات البقعة وعملية الركبان وغيرها، باستثناء حادثة طعن لسياح أجانب في جرش والأهم هي عملية السلط 2018 وقبلها عملية الفحيص، لكن اللافت في عملية السلط أمران؛ الأول أنها استخدمت تكتيكاً غير مسبوق، يتمثل بتفخيخ عمارة سكنية وتفجيرها، والثاني سرعة الانتقال والتحول الإيديولوجي لمن قاموا بالعملية، وعدم وجود سجلات عنهم سابقاً لدى الأجهزة الأمنية.
غالبية قضايا محكمة أمن الدولة تمثّلت في العمليات الفردية، وليس التنظيمات المسلحة، والنسبة الكبرى من القضايا تمثّلت في مجال "الترويج والدعاية"، فمن بين 280 شخص كانت تهمة 61.2% فردية، وأغلب هذه القضايا الفردية تتعلق بالترويج، وحتى من بين قضايا المجموعات والتنظيمات الـ38.4% هنالك جزء كبير متعلق بالترويج لإيديولوجية "داعش".
كان واضحاً أنّ هنالك نسبة ممن خرجوا من السجون ممن ليست لديهم خبرة كبيرة وصلات تنظيمية مع "داعش"، وقضاياهم ترتبط بالترويج والدعاية قرروا عدم العودة إلى تأييد داعش، لكن هنالك الخبرة المرتبطة بالتيار الجهادي التي تؤكد أنّ نسبة كبيرة ممن يدخلون السجون في هذه القضايا يعودون إلى السجون أو يستمرون بالطريق، لذلك فإنّ حالة الركود والسكون الحالية لا تعدو أن تكون مؤقتة ولا تعكس بالضرورة عمق وانتشار الظاهرة.
4. على صعيد سمات التيار الجهادي؛
تعزز النمط العائلي بصورة واضحة خلال فترة الدراسة الحالية، إذ نجد أنّ نسبة كبيرة جداً من القضايا يشكل عامل العائلة حضوراً، سواء من الأشقاء أو الشقيقات الجهاديين، أو حتى الأبناء والأباء الجهاديين وهكذا، وما تزال النسائية الجهادية حاضرة وإن كان عدد النساء المنخرطات محدوداً، لكننا نلحظ للمرة الأولى قضايا إرهابية فيها نساء، وهنالك نساء أخريات حكمن بتهمة الترويج، لكن الظاهرة التي تبدو في ارتفاع مطرد سريع مقلق وأكثر وضوحاً هي ظاهرة الأحداث الجهاديين، إذ أن هنالك الكثير من القضايا تتضمن أحداثاً، ومنها تنظيم اتهم فيه أستاذ مدرسة مع تلاميذه، وتنظيم آخر أطلقنا عليه تنظيم الأحداث، لأن المحكومين الأربعة كانوا معاً في بيت الأحداث المختص بالمتورطين في القضايا الإرهابية.
على صعيد المهنة والعمل كان ملاحظاً استمرار حضور المعلمين وأئمة المساجد وإن كان ذلك بتراجع طفيف عن الفترة السابقة، وهنالك نسبة من المهندسين والمتعلمين كبيرة، وفي الوقت نفسه نجد حضوراً ملحوظاً أكثر لأشخاص يعملون في القطاع الخاص ولأصحاب الأعمال الحرّة، واللافت في الموضوع أنّ معدل البطالة ضمن المحكومين بقضايا داعش قليل إذ يبلغ 7.6%، مقارنةُ بالمرحلة السابقة التي كانت نسبة البطالة فيها أكبر.
التوزيع الجغرافي أظهر تحولات جديرة بالانتباه والمراجعة؛ فهنالك انتشار أكبر في منطقة عمان الشرقية، مقارنةً بمدينة الزرقاء التي كانت تمثّل سابقاً المنطقة الأكثر حضوراً (بخاصة الرصيفة)، فكانت حصة من يسكون في عمان 32%، وحصة الزرقاء 27.7%، تليها البلقاء ثم إربد، فالكرك فالمفرق فمعان، أما باقي المناطق فالحضور فيها محدود، ومقارنةً بالكتاب السابق (المرحلة الزمنية 2011-2016) فإنّ هنالك تراجعاً في حضور إربد وارتفاعاً في حضور المفرق، واستمراراً في حضور البلقاء والكرك، لكن الملاحظ أيضاً من خلال الخبرة البحثية الميدانية أنّ هنالك انتشاراً أكثر في المخيمات، بخاصة في عمان الشرقية والبقعة والزرقاء مقارنةً بالمرحلة السابقة التي برز فيها حضور التيار في مخيم إربد، وعند العودة إلى الأصول الاجتماعية نجد أنّ النسبة الكبرى هي من الأصول الفلسطينية (65.5%) مقارنة بالأصول الشرق أردنية.
أما على صعيد الأعمار فمن الواضح أنّ سن الشباب هو الأكثر حضوراً بخاصة بين الفئة العمرية بين 23-30 عاماً وتكاد تصل النسبة إلى النصف، بينما نسبة من هم دون الـ23 تصل إلى الثلث، مع وجود محدود للأعمار الأكبر سناً، فإذا ربطنا الأمور ببعضها فإنّ غالبية التيار هي من فئة الشباب ما بين 18-30 عاماً من الجامعيين أو طلاب الجامعات، بمعنى أنّنا أمام جيل من الشباب المتعلمين المهنيين، إذا أخذنا بعين الاعتبار محدودية نسبة البطالة، وقد لاحظنا أنّ هنالك تواجد ملحوظ للمهندسين ولتخصصات أخرى، حتى من رجال الأعمال، وحضور ملحوظ للقطاع الخاص والعاملين فيه.
5. على صعيد الأهداف الإرهابية؛
برز الجيش والأمن والمخابرات العامة كأهداف رئيسية للتنظيمات – ضمن ملفات محكمة أمن الدولة- بما يصل إلى 45% من الأهداف، يلي ذلك المصالح الغربية (ديبلوماسيين، عسكريين.. ) بمقدار الربع، ثم ما يتعلق بأهداف إسرائيلية بما يصل إلى 17.5%، وهنا من الضروري الإشارة إلى أن الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلة من نقل للسفارة الأميركية والمواجهات وقضية القدس خلقت مناخاً مأزوماً ووجدنا العديد من العمليات ترتبط بذلك، سواء في محاولات استهداف السفارة الإسرائيلية أو عبور الحدود أو السباحة لإيلات أو القيام بعمليات هناك، ونسبة كبيرة من هؤلاء ليست لديهم خلفية داعشية، أي أنّ ما حركهم هي الأحداث والعواطف، وأحد هؤلاء ج.أ وهو يساري محسوب على حزب يساري علماني، كان يريد تنفيذ عمليات ضد إسرائيل، من خلال تأسيس لواء أطلق عليه "الألوية العربية المسلحة".
6. النادي الاجتماعي للجهاديين؛
لعلّ أحد أهم المصطلحات في الكتاب، هو مصطلح "النادي الاجتماعي" للجهاديين، ففهم طبيعة العلاقات والبيئة المحيطة بالجهاديين يساعد كثيراً في فهم ديناميكيات العمل وكيفية تصميم وبناء استراتيجيات وسياسات مكافحة التطرف والإرهاب، ومن الواضح من خلال هذا الكتاب والدراسة السابقة أنّ أهم ديناميكية في عملية التجنيد هي عامل القرابة والصداقة والجوار الجغرافي، فكثير من القضايا كما أشرنا سابقاً مرتبطة بأشقاء وشقيقات وعائلات وأصدقاء وزملاء في العمل والمسجد والحيّ، أمّا دور شبكات التواصل الاجتماعي فهي أشبه بالميسر Facilitator ، أي التي تقرب المسافات الجغرافية والزمنية وتسهّل التواصل، لكنها لم تغن أبداً عن دور النادي الاجتماعي الواقعي في عملية التجنيد، ودلالة ذلك أغلبية قضايا محكمة أمن الدولة، وهو الأمر الذي يساعد على فهم الديناميكيات وبالتالي بناء المقاربات البديلة من خلال اقتحام هذا المجتمع أو النادي والتأثير فيه، كما سنذكر لاحقاً عند الحديث عن استراتيجيات وسياسات مكافحة التطرف والإرهاب.
7. على صعيد مكافحة التطرف والإرهاب؛
نجح الأردن أمنياً في منع العديد من العمليات الإرهابية والمتطرفة وتمكن من مواجهة تنظيمي "داعش" و"القاعدة" في الداخل والخارج، وشدد من تشريعات مكافحة الإرهاب والتطرف، وقام بوضع خطة وطنية لمكافحة التطرف العنيف، كما أنّه عدّل في السياسات الدينية ومن الخطاب الديني بما يتناسب مع قيم الإسلام الوسطي وركز على الحقل الديني وإعادة هيكلته، لكن ذلك لا يعني بالضرورة نجاحاً في مكافحة التطرف والإرهاب، بل إن بعض هذه الخطوات أتت بنتائج عكسية خطيرة، من بينها مثلاً عقوبة المروجين لداعش والتطرف، إذ أدت بالزج بالمئات في السجون وتدعيشهم داخل السجن، ومن بينها العزل الانفرادي في السجون، في الموقر 2، ما يؤدي إلى نتائج نفسية قاسية واختلال في التوازن، وفي أحيان كثيرة التفكير في الانتقام من الدولة.
لكن الاختلال والخلل الكبير في سياسات مكافحة التطرف والإرهاب يتلخص في غياب الشفافية وانعدام المعلومات والنظر إلى الموضوع من منظور أمني أكثر منه منظور وقائي مجتمعي وإنساني، لذلك هنالك مشكلة كبيرة فيما سميناه في الكتاب بـ"دائرة التطرف"، بمعنى أن الحكومة لا تسمح للشخص الذي يدخل هذه الدائرة بالخروج منها وإعادة صياغة حياته من جديد، ولا تراعي جانب العمر، بخاصة للشباب الصغار، ولا تحاول اقتحام النادي الاجتماعي واختراق عائلات الجهاديين اجتماعياً، لذلك سمحت السياسات الحكومية للجهاديين وعائلاتهم بوضع سياج أو جدار سميك بينهم وبين الآخرين والتحصّن داخله أو الانعزال عن المجتمع، لأنّهم يشعرون بالغربة والإقصاء، وهي سياسات من الضرروي مراجعتها وإعادة النظر فيها.
أوصى الكتاب بضرورة التمييز بين الأعمار والمستويات في الانخراط في التيار، ووضع بروتوكولات واضحة لمرحلة ما قبل السجن، ومتى يتم إرسالهم للقضاء، ومراجعة مرحلة السجون وما بعد السجون، والمطلوب أن لا نعزز توغل الأشخاص بهذا التيار بل وضع إشارات خروج في كل مرحلة من المراحل، لكن أهم ما نوصي به في هذا الكتاب هو مبدأ الشفافية والشراكة والتشبيك بين المؤسسات واستدخال المجتمع المدني وإدماجه بصورة فعالة وقوية في سياسات مكافحة التطرف والإرهاب في مراحلها المختلفة.