الجنس من "المنولوج" إلى "الديالوج"

الجنس من "المنولوج" إلى "الديالوج"
الرابط المختصر

الدين، السياسة، الجنس. إنه مثلث "التابوه" وأداة القمع الأكبر في تراثنا وموروثنا. ترتبط أضلاع هذا المثلث في ما بينها بعلاقة عضوية وغائية ديناميكية تحدث أثرها التراتبي من حيث بروز أحد تلك الأضلاع إلى الواجهة وتراجع الآخر وفقاً للسياق وطبيعة الخصم المراد قمعه سواءً كان شخصا أو تياراً فكرياً أو سياسياً  معينا.

 

في معظم الأحيان يؤدي هذا الثالوث وظيفته القمعية من خلال البحث عن ممارسة أو رأي يجري تأويله على أنه ناقض من نواقض الدين أو دعوة "للانحلال" أو "إشاعة الفاحشة" لينتهي الأمر بالفريسة المستهدفة بإحدى التهمتين: الكفر أو الزندقة.

 

هكذا كانت فلسفة عمل "ديوان الزندقة" الذي أنشأه الخليفة العباسي المهدي الذي وظفه ومن خَلَفه أسوأ توظيف للتنكيل بالخصوم على اختلاف مللهم ونحلهم. أصبح اليوم لديوان الزندقة سدنة مخلصون في كل فضاء فعلي أو افتراضي، يتحسسون المساحات الضيقة بين السطور علّهم يجدون ما يقيم أود تأويل يصلح أن يكون إشارة محتملة لإمكانية وجود شبهة تمرد تدعو لمراجعة طريقة فهم إحدى مسائل الدين أو التعاطي بشكل مختلف مع عادة أو تقليد اجتماعي معين.

 

الحديث عن الجنس وفيه؛ يبدو من أكثر الأمور التي تثير شهوة استئصال الآخر لدى سدنة "ديوان الزندقة" الذين يحتل الجنس ولا ريب في حيات معظمهم مساحةً كبيرةً. لا يمكن الحديث عن مجتمع سوي فيه يخاف الفرد من جسده وقد يحيى ويموت دون أن يتعرف عليه ويكتشف مكامنه وأسراره.

 

إن متلازمة الإباحية والثقافة الجنسية في ذهن سدنة "ديوان الزندقة" تنم عن جهل كبير أو ربما خلل على المستوى المفاهيمي والعملاني لهذه المسألة الحياتية التي تلعب دوراً رئيسياً في تكوين الشخصية. يقول فرويد: "إن سلوك االشخص في التعامل مع المسائل الجنسية يشكل نموذجا لأدائه وردود أفعاله في ما يخص تعاطيه مع سائر أمور الحياة"، وقد لا يتفق البعض مع هذه المقولة ويرى فيها غلوا في جعل الجنس اللاعب الرئيس في تكوين الشخصية وقولبة سلوكياتها وردود أفعالها في الحياة، ولكن ما من شك أن الجنس يعد واحداً من العوامل الرئيسية التي تؤثر وبعمق في تكوين الشخصية بل ربما في تحديد هويتها الأيديولوجية.

 

يؤكد هذه الوجهة من النظر  ارتباط الزهد والورع في تراثنا الديني والأدبي –الشعري منه على وجه الخصوص- بعزوف الرجال والنساء عن الرغبة الجنسية. يقابل ذلك ما يشغله الجنس من مكانة في ذات التراث الديني من حيث كونه من مبررات وجود الإنسان واستخلافه في الأرض، هذا فضلاً عن كونه يمثل قمة الجزاء في الجنة للمؤمنين الذين لن يتمتع الواحد منهم  ب70 من الحور العين فحسب بل إن شهوة الواحد منهم ستعادل شهوة وقوة 33 رجلا.

 

لن نخوض هنا في تساءل البعض عن عدم المساواة الظاهر بين المرأة  والرجل في ما يخص هذا النعيم الجنسي المقيم الذي يسعى البعض "للاستشهاد" في سبيل التمتع به، مكتفين بمحاولة تلمس إمكانية استقراء ما يبدو وكأنه متناقضات في هذا المقام. الجنس غريزة ورغبة ومن المكونات الرئيسية للشخصية والهوية وهو من أعلى درجات الجزاء في الجنة للرجال وللنساء وإن كان بدرجة أقل، وفي الوقت نفسه فإن الحديث عنه وفيه؛ يشكل ناقضاً من نواقض الحياء والعفة وربما الإيمان حسب السياق.

 

لقد آثرت مجتمعاتنا الذكورية الهروب من مواجهة مشكلة الكبت الجنسي الذي تكابده إلى تحميل وزر ذلك الكبت لجسد المرأة فجعلت منه "عورةً" ينبغي عليها تغييبه عن أنظار الرجال، فكأنها حملت وزرين في آن واحد، فهي مطالبة أكثر من الرجل بقتل حاجتها الفطرية لمعرفة جسدها والتعرف عليه، وهي من بعد المسؤولة عن ترويض "الوحش" الجنسي الكامن بين ضلوع الرجال والمحافظة على هدوئه ووداعته من خلال مواراة كل ما يمكن أن يستثيره ولو كانت ضحكةً أو أغنيةً أو حتى ترنيمةً في صلاة، أما الرجال فكل ما هو مطلوب منهم غض البصر والسمع عمّا هو مغضوض أصلاً.

 

 

يستمر ولوغنا في مستنقعات الفهم الخاطئ واللا أخلاقي في مجال الحياة الجنسية إلى حد لم تبلغه أمم قبلنا بحيث يكون أول سؤال يُطرح مع كل جريمة اغتصاب "ماذا كانت تلبس المغتصبة؟" في إشارة واضحة لتحميلها المسؤولية عن جرم اغتصابها إن كانت قد خالفت في مظهرها واجب ستر جسدها "العورة".

 

لو تأملنا ملياً هذا التوجه لوجدناه إقراراً من الرجال بهمجيتهم وعدم آدميتهم لأن التحليل البسيط للموقف يقول: "كل أنثى لا تستر كامل جسدها هي مشروع مغتصبة"! إن هذه التناقضات والمغالطات القيمية والسلوكية في حياتنا الجنسية مردها تأطير الجنس في منظومة الحرام والزندقة والخروج على العادات والتقاليد.

 

يبدو من غير المستغرب في ضوء هذه العبثية في التعاطي مع الحياة الجنسية  أن يمتد خطر انفلات الغريزة المكبوتة على غير هدى لتطال في هيجان تحررها من عقالها المفتعل؛ الأطفال الصغار الذين أصبحوا لقمةً سائغةً للتحرش والاعتداءات الجنسية لما يتوافر فيهم من عناصر تشجع على ارتكاب هذه الجرائم ضدهم وعلى رأسها عدم معرفتهم بكنه الجنس ومن ثمة جهلهم بكيفية حماية أنفسهم ذاتيا من تداعيات التفريغ العشوائي عنه من جانب المنحرفين من البالغين ذكوراً كانوا أو إناثا.

 

كيف يمكن أن نحمي طفلاً من التحرش الجنسي ونحن لا نقوى على إجابة أبسط سؤال يسأله: "كيف جئت لهذه الدنيا؟ لماذا أستيقظ فأجد عضوي التناسلي قد تغير حجمه؟ لماذا هذا الرجل يقبّل هذه المرأة أو العكس؟ لماذا يتزوج الرجل مرأة ولا يتزوج رجل مثله؟".

 

إذا لم يجابه أحدنا بمثل هذه الأسئلة فهذا لا يعني أن ليس هناك من يسأل، فعدم تجربتنا للشيء لا يعني أنه غير موجود. كثير من الفتيات يصبن بأنواع من الاكتئاب والاضطرابات النفسية والخوف حينما يصلن سن البلوغ وتداهمهن الدورة الشهرية التي لم يخبرهن عنها أحد ولا حتى والداتهن، والسبب دائماً "عيب... لا يجوز أن نفتّح ناظري البنت على أمور كهذه...".

 

حينما تقرأ إحصائيات تقول أن ما يقارب 3 عمليات استئصال أرحام على الأقل يتم إجراؤها لفتيات من ذوات الإعاقة الذهنية سنوياً في الأردن وأن السبب في ذلك هو خشية الأهل من ظهور علامات الحمل عليهن في حال تعرضهن للاغتصاب؛ تدرك مدى الجرم الذي يرتكبه المجتمع في حق نفسه بتهيئة الضحية سلفاً للجاني كي يرتكب جريمته المحتملة بهدوء وبأقل العواقب، لا يكاد يصدَّق كيف آثر هؤلاء انتزاع جزءً من أجساد فلذات أكبادهن عوضاً عن تعليمهن وتدريبهن وتثقيفهن جنسياً لحماية أنفسهن، ولكن أنّى لهم القيام بذلك وهم أنفسهم نشأوا وسيموتون جاهلين بأجسادهم وغريزتهم التي كانت سبباً في وجودهم ووجود أعقابهم!

 

ليس مستغرباً في ضوء التعتيم بل الترهيب الذي يكتنف الحياة الجنسية لجوء الشباب إلى مصادر "معرفية" تسوّق الجنس في أطر تجارية غير أخلاقية؛ في هيئة أفلام وصور وأشعار ومقالات إباحية تتناول موضوع الجنس من نهاياته ليشاهدها جمهور لا يعرف عنه حتى بداياته.

 

إذا كانت الوقاية خير من العلاج فإن أبسط قواعد الوقاية هي تعريف الناس بالمرض أو الخطر الذي يتهددهم، لذلك بات تدريس التربية الجنسية في إطار علمي محترم من الضروريات التي ينبغي التعاطي معها بجدية وشجاعة لنمنح الناس حقهم في التعرف على مكنونات أجسادهم ولنحميهم من أفعال التحرش الجنسي التي قد يتعرضون لها.

 

الجنس شأنه شأن غيره من المجهول من الأمور، عدو ما دمنا لا نعلم عنه شيءً لأن الإنسان وكما قال المفكرون  عدو ما يجهل. لقد تجاوز غيرنا هذه المرحلة بمراحل حتى وصلوا إلى أعمال فنية من مثل "فاجاينا منولوج" وهي المسرحية الأمريكية التي تمت لبننتها في العمل المثير للجدل منذ سنوات تحت عنوان "حكي نسوان" والذي قوبل بكثير من الاستحسان والاستياء في آن، وكل حسب زاويته ونظرته للأمور، اللافت للنظر في هذا العمل بنسختيه الإنجليزية والعربية أنه ولأول مرة يقول المُقال ويحكي المحكي وهذا سر نجاحه وأثره الصادم على كل من شاهده. لقد آن الأوان لإخراج الجنس من عتمة المنولوج إلى نور الديالوج.