الجنرال بترايوس في واد والأردن والعراقيون هنا في واد آخر
يفاخر قائد القوات الأمريكية في العراق الجنرال ديفيد بترايوس بأنه هندس عودة الهدوء النسبي إلى العراق منذ تعيينه في هذا المنصب قبل أكثر من عام.
ربما يكون ذلك حقا مشروعا للجنرال الذي زار أخيرا عدة عواصم بجوار العراق بما فيها عمان وبيروت. هذه المرة بصفته القائد المقبل للقيادة المركزية للقوات الأمريكية, وبالتالي سيكون مسؤولا عن النشاطات العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (القيادة الأمريكية الوسطى).
في جولته. دخل الجنرال في تفاصيل ما تحقق في العراق. مدعوما بوثائق.
على أن تقييمه الإيجابي لم يحفّز العراقيين اللاجئين للأردن منذ سقوط نظام صدام حسين قبل خمس سنوات على بدء التفكير بالعودة إلى بلادهم أو حتى انتهاز فرصة نادرة وفرّها عرض حكومي أردني بإعفائهم من كامل الغرامات المترتبة عليهم جراء مخالفة شروط الإقامة. ذلك طبعا على أمل تشجيع عودتهم بعد أن قدمت حكومة نوري المالكي سلة حوافز لعودة النازحين والمهجرين. بما فيها مخصصات مالية تغطي تكاليف رحلة العودة.
كذلك فشل بترايوس في انتزاع إقرار علني من مستضيفيه الأردنيين من رسميين وغيرهم بأن الاستقرار السياسي والأمني في العراق بات قاب قوسين.
فما يسمعه ما بين 500000 و750000 عراقي في الأردن من الساسة الأمريكيين والعراقيين لا يتطابق فعليا مع ما يرونه على أرض الواقع وما يشاهدونه عبر شاشات التلفزة أو ما يسمعونه يوميا من أقاربهم الموجودين في العراق. تلتقي هذه المشاعر مع مساحات واسعة من التوجس والقلق السائد داخل الأوساط الرسمية على مستقبل العراق. حيث باتت أمريكا وإيران تتحكمان بتفاصيل المشهد الداخلي المرتبك سياسيا وأمنيا.
الخطاب الرسمي الأمريكي والعراقي يتكلم باستمرار عن هدوء متنام منذ وصول 30000 جندي أمريكي إضافي ضمن خطة إشكالية أقرها الرئيس الأمريكي جورج بوش عام 2007 لتعزيز قدرات قوات الاحتلال ومساعدة المالكي على بسط سلطته من خلال ضرب تنظيم القاعدة وجيش المهدي وغيره من المليشيات الدموية المدعومة إيرانيا. مذ ذاك. أعيدت أخيرا القوات الإضافية التي استدعيت على عجل خلال العام الماضي. وتعتزم واشنطن بدء سحب عدد آخر من قواتها ال¯ 147000 المتمركزة هناك منذ خمس سنوات.
كما أن مؤشرات العنف انخفضت بين 40 و 80 بالمئة عن ما كانت عليه قبل استراتيجية زيادة العسكر. بحسب التقرير الفصلي الصادر قبل شهرين لقياس "الأمن والاستقرار" في العراق. والذي يستخدمه الجنرال بترايوس باستمرار للتدليل على حجم الإنجازات المتحققة.
يشير التقرير إلى أن العمليات العسكرية المشتركة "قلّصت" قدرة تنظيم القاعدة على ضرب وإرهاب المدنيين العزل. كما استطاع المالكي ضرب المليشيات الشيعية المدارة من قبل إيران بما فيها "جيش المهدي" التابع للزعيم مقتدى الصدر والقوات الخاصة في محيط البصرة ومدينة الصدر (الثورة سابقا) حول بغداد. آخر العمليات العسكرية المتواصلة "زحف الأسود" استهدفت "تطهير" مناطق شمال بابل وما يعرف ب¯ "مثلث الموت" من عناصر القاعدة. بينما أعلن مكتب الصدر في المحافظة تعاونه مع قوات الأمن بعد يوم من إعلان زعيمه وقف كل نشاطات مليشياته المسلحة, كما ساهم إحياء بعض القطاعات الاقتصادية وجهود المصالحة المحلية في تعزيز شعور ببدء عودة الأمن والاستقرار.
لكن العراق ما زال يواجه جبلا من المشاكل التي قد تطيح بالاستقرار المتحقق مرحليا بسبب استمرار الاقتتال الطائفي ومعارك ترسيم حدود النفوذ السياسي بين المجتمعات السنية والشيعية, تزايد التوتر العربي-الكردي, وتعمق الفساد السياسي والإداري والمالي وتحدي تنظيم انتخابات محلية في موعدها المحدد بعد شهرين.
ولا أحد يعرف بعد إذا كانت شوكة التيار الصدري قد انكسرت فعليا أم أن ما تحقق يقع ضمن قرار الجماعة بالتهدئة المؤقتة عبر ممارسة سبات الشتاء قبل استحقاق الانتخابات وتعظيم النفوذ والمكاسب السياسية?
في احاديثهم الخاصة يعتبر غالبية المسؤولين الأردنيين أن المقاييس التي يستعملها الجنرال بترايوس لقياس نجاعة الإجراءات الأمنية وإمكانيات تعزيز الاستقرار مضخمة لأنها قائمة على معطيات عسكرية غير دقيقة وغير قابلة للاستدامة فصلت على ما يبدو لرفع معنويات حكام واشنطن.
صحيح انه تم توجيه ضربات موجعة لتنظيم القاعدة في العراق, لكن شوكة نفوذ القاعدة لم تنكسر بصورة نهائية. بحسب رأيهم. فما زال التنظيم قادرا على تجنيد متطوعين جدد وتمرير الأوامر في الداخل وبين الداخل والمؤسسة الأم الموجودة في أفغانستان خطوط الاتصال والإمداد لم تتوقف في وقت طلب من العناصر العراقية وغير العراقية إعادة التشكيل والهروب من مناطق التطهير العسكري إلى أخرى أكثر أمانا داخل العراق بانتظار صدور أوامر جديدة بانت قبل أسابيع عندما عادت وتيرة العمليات الانتحارية للارتفاع في بغداد والشمال. في المقابل انتقل عدد كبير من عناصر القاعدة غير العراقية إلى فلسطين ولبنان وشمال أفريقيا وهذا ما تفسره سلسلة التفجيرات الانتحارية الأخيرة التي ضربت الجزائر والمغرب مثلا.
مساهمة الخطة الأمريكية-العراقية في تخفيض نسب العنف الطائفي تظل حبلى بالمغالطات بحسب ما يرى ساسة يتابعون الملف العراقي. برأيهم فإن السبب وراء هبوط مستويات العنف يعود بالأساس إلى أوامر صدرت عن مقتدى الصدر الصيف الماضي تحظر الاقتتال الطائفي, كذلك لم تعد هناك مناطق مختلطة في العاصمة مثلا بعد هروب المكونات الدينية من حي إلى آخر وقيام الأمريكيين ببناء جدران اسمنتية عازلة فيما بعد لفصل المتناحرين. ولا تزال إيران تدعم الصدر وتحركّه وفقا لأجندتها.
إلى ذلك فشلت حكومة المالكي سياسيا حتى الآن في تعزيز المصالحة الوطنية من خلال إيجاد أرضية تفاهم مشتركة بين جميع الأطراف حتى التي تدعي المقاومة المسلحة أو التي تؤمن بمنهجية الحوار والتحول والتوافق السياسي. وتستبعد الأوساط الرسمية العربية والأجنبية عقد الانتخابات المحلية في موعدها المحدد مطلع تشرين الأول على أساس قانون جديد لمجالس المحافظات بعد انتهاء الفصل التشريعي الحالي من دون تصويت بسبب خلافات حول اتفاق لصالح اقتراح الأمم المتحدة المتعلق بقضية الانتخابات في محافظة كركوك.
على الأرجح ستتأجل الانتخابات إلى العام المقبل.
الأردن الرسمي والشعبي يراقب ما يدور على حدوده الشرقية بمزيج من الأمل والقلق والتوجس, وتبدي الدولة استعدادا غير مسبوق لمنح حكومة المالكي الشرعية السياسية من خلال تسمية سفير والإبقاء على خيار زيارة ملكية لبغداد تتم عندما تتوفر الضمانات الأمنية المطلوبة.
فعمان. حليفة واشنطن معنية بإعطاء المالكي فرصة أخرى لبداية العام المقبل على أمل إخراج معادلة العلاقات مع العراق من البعد الأمني الضيق إلى الفضاء الأوسع ومن خلال تنمية علاقات ثنائية بنيوية بمحرك اقتصادي لا تهتز بسبب خلافات سياسية ناتجة عن مواقف متناقضة, وفي نفس الوقت تريد المملكة تنفيس الأجواء الاقتصادية الداخلية المحتقنة من خلال الاستمرار في محاولة شراء نفط بأسعار تفضيلية.
استراتيجيا. يظل الأردن معنيا بتعزيز مسيرة الأمن والاستقرار في ساحته الخلفية وبعودة العراق للعب دول فاعل في عمقه العربي المنهار, وذلك للأسباب التالية:
- منع تصدير مقاتلين من تنظيم القاعدة أو من الجماعات الشيعية المتطرفة إلى الأردن.
- وقف تمدد النفوذ الإيراني في العراق والإقليم.
- ضمان عودة العراقيين الذين باتوا يضغطون على البنية التحتية والخدمات في بلد يواجه عجزا متناميا في ميزانيته. كما يؤثر وجودهم على المعادلة الديمغرافية الحساسة أصلا.
- تحريك الوضع الاقتصادي الداخلي من خلال الاستفادة من عمليات واسعة لإعادة الأعمار.
كل ذلك يتوقف على أمل حدوث معجزة في العراق؟
*العرب اليوم