الجندر بين الحداثة وما بعد الحداثة

الجندر بين الحداثة وما بعد الحداثة
الرابط المختصر

 

تكشف إعادة بناء أصل وتوظيف مصطلح النوع الاجتماعي(الجندر) في مختلف التخصصات (علم النفس الجنسي، التحليل النفسي، وعلم النفس الاجتماعي، وعلم الاجتماع، الأنثروبولوجيا الثقافية والفلسفة النسوية) عن كيفية نشوء المشترك النظري: الفصل بين الجندر و الجنس.

 

يمكن لنا في الواقع، الحديث عن فصل واضح وحقيقي ومتزايد بين الفئتين، ويُبرر هذا الفصل من خلال تقدم بطيء ولكنه متصاعد للابتعاد عن الحتمية البيولوجية والجوهرية الفلسفية، بالتوازي مع القطيعة التدريجية مع الطبيعة.

 

في البداية فإن الإشارة إلى "الطبيعة تبقى في الخلفية، ثم تصبح غير ذات صلة، ثم تميل إلى أن تُستوعب أكثر وأكثر في المجتمع والثقافة. يتزايد تميز الجندر باعتباره فئة تطويع وتنوع في مقابل ثبات وجمود الجنس، ويمثل الجندر بوصفه منتج التعليم في علم النفس الجنسي (سيكولوجيا الجنس) والتحليل النفسي أو الاجتماعي أو البناء الثقافي في التفكير السوسيولوجي النسوي والفلسفي من أجل تسليط الضوء، بطريقة تدريجية أكثر وضوحا، على عدم الاعتداد بالطبيعة وأهمية البيئة الخارجية (ولكن أيضا التفضيلات الداخلية) في تحديد الهوية الجنسية.

 

تُعزى أسباب هذا الاتجاه من جهة إلى شرح التعقيد الأساسي (في الحالات المستعصية من الغموض الجنسي أوتغيير الجنس)، ومن جهة أخرى لتكوين السيناريوهات الاجتماعية المختلفة للنساء الذين يدّعون أدوار مختلفة عن تلك التي تعتبر تمييزية تقليديا. القطيعة مع الطبيعة بالتالي، تفترض معان مختلفة: أن يجري حل هذه الاشكالية(الغموض الجنسي)، وأيضا التحرر من حالة الإنثى، ولكن، حتى الآن، وبصرف النظر عن الإيجاز العرضي والعلامات الهامشية في سياق إطروحات علوم النفس والجنس وفي بعض النظريات النسوية الراديكالية، فان وجود الطبيعة (وإن كان يرى من زاوية عدم الاعتداد)، والازدواجية الجنسية المتعارضة (وجود الجنسين، الذكور أو الإناث) لم تكن موضع تحد.

 

لذا فان الجندر هو فئة يمكن أن تدرج في أفق مفاهيمي يطلق عليه "الحداثة". والأفق المفاهيمي للحداثة، يمكن أن يفهم بوصفه فكرا يشارك على الأقل في افتراض واحد، حتى في حالة عدم تجانس التفصيلات و التركيز المختلف على بعض العناصر: الثقة في قدرة العقل على تطوير تفسير لإمكانية معرفة الحقيقة الوجودية، المقبولة بوصفها معطى لا يمكن استجواب وجودها.

 

الازدواجية الطبيعية المتمثلة في الذكر والأنثى لا تشكل مشكلة، وإن كان هناك مشكلة فهي بشكل ثانوي فقط. ومع إشارة خاصة إلى التفكير النسوي التحرري، الاشتراكي والرديكالي، فإن أفق الحداثة يتضح أيضا في تقبل أن آليات علاقة المجتمع والسلطة قابلة للمعرفة. ويحدد هذا الأقق النظام الأبوي بوصفه سلطة مجموعة من الذكور على الإناث. هناك نظرة سلبية للسلطة بوصفها الهيمنة بمعنى القهر/ القمع. وتصور الذات ضمن هذا الأفق أيضا بوصفها تمتلك جوهرا يمكن / يجب أن يكون محررا من بطش السلطة، في رأي متفائل يرى إمكانية تغيير المواقف الاجتماعية ويفهم التاريخ بوصفه تقدميا وخطيا.

 

يتضح التحول الفكري في مفاهيمية الجندر في أفق "ما بعد الحداثة". يأخذ أفق "ما بعد الحداثة". إلى أقصى حد ما سبق تطويره جزئيا من الناحية المفاهيمية في أفق الحداثة. الإشارة إلى ما بعد الحداثة تحمل حرفيا معنى العقب بالنسبة للحداثة. ليس بالمعنى الزمني، ولكن بدلا من ذلك، فإنها تشير إلى طريقة مختلفة فيما يتعلق بالثيمات التي طرحتها الحداثة، هذه الطريقة ليست معارضة (مضادة للحداثة) ولا هي أبعد منها (فائقة الحداثة). ويرد الأفق المفاهيمي لما بعد الحداثة بطرق مختلفة، والتي يمكن تلخيصها في بعض العناصر:

انعدام الثقة في القدرة على معرفة حقيقة عالمية أو حتى نسبية حول الإنسان والمجتمع، وإنكار وجود ما هو قابل للمعرفة فيما يتعلق بنظام أو الوجود الأساسي للبشر (anti-foundationalism وantiessentialism)، ورفض كل نهج أصولي وازدراء التفسير النهائي للحقيقة، الذي قاد إلى الاحتفاء بالتعدد أو الاختلافات، واللا ـ المعرفية بوصفها أزمة العقل في مواجهة قبول التشظي المعقد والعرضي للحقيقة. هذه المقدمات الفلسفية تؤدي إلى سلسلة من النتائج المفاهيمية المتمثلة في فكر ما بعد الحداثة: خلخلة الهياكل الفلسفية للفكر الغربي (ما بعد البنيوية)، وتفكيك التفسيرات أو السرديات الكبرى التي تدعي معرفة الحقيقة واختزالها بـ "شبكة مفككة" من العلامات التي تتغير دائما بصورة ديناميكية تجعل المعنى بعيد المنال (اللا -بنائية)، واللا - مركزية. وهذا يعني الدفع إلى الأطراف ما كان يعتقد أنه مركزيا، واللا ـ-تسلسلية لما كان يعتبر أعلى / أدنى، وتمييع الواقع، والتأكيد على السلطة بوصفها سلطة إنتاجية ( وليس "السلطة على" لكن "السلطة لأجل"، وتحديدا الدستور). يأتي ذلك في سياق رؤية متشككة في التاريخ.

 

ليس من الممكن وضع تمييز صارم دون طرح الفروق الدقيقة بالتفصيل، ولكن بالتأكيد فإن الانحراف في النموذج الفكري يمكن أن يكون مقبولاً في سياق تثيم فئة الجندر بين الحداثة وما بعد الحداثة.

 

وكجزء من هذا التحول في النموذج الفكري هناك إشارة إلى أكاديمية "academicisation" للتفكير الجندري تهدف لتوضيح المشاكل الفلسفية الأساسية لمفاهيم مثل الهوية، والذاتية، الحياة الجنسية، والجسدية corporeity وما شابه، وقد تشظت بعض الفئات الموظفة في الحداثة أثناء تحركنا نحو "تفكك الحقيقية"، وأيضا فئة الجندر ذاته. في هذا الاتجاه هناك نوعان من تثييم الجندر: واحدة موجهة نحو الفئات الأخرى (الجندر بوصفه "الفرق الجنسي" بجانب وعلى المستوى ذاته "خلافات" أخرى مثل العرق، والإثنية، والطبقة)، والآخر في اتجاه اتصال دائم أكثر وضوحا بين الهوية الجندرية والميول الجنسية.

 

وفي سياق فكر النسوية الأخيرة وما بعد النسوية فإن توجه ما بعد الحداثة هو انتقاد مركزية فئة الفرق الجنسي في العلاقة مع الاختلافات أخرى، معتبرا أن ''الاختلاف غير موجود بل إن هناك "اختلافات" شطبت من قبل الجموع.

 

ينطوي هذا التثييم على لامركزية الإشارة إلى بعد الجنس/ الجندر في تشكل الهوية. لم يتم مناقشة الجنس / الجندر في هذا السياق (أو فقط بشكل هامشي) مع الإشارة إلى ثنائية الطبيعة / الثقافة، ولكن بدلا من ذلك يفترض أنه غير إشكالي بهدف إظهار عدم أولويته، والتكافؤ بينه وبين العناصر الأخرى، مثل العرق والإثنية.

 

يضاف الجندر إلى الفئات الأخرى، مشكلا تقاطعا مع - ولكن أيضا ارتباكا في مختلف العناصر- تهدف العلاقة بين فئات الجنس، أو العرق، أو الإثنية، أو الطبقة، إلى تسليط الضوء على الحاجة لوضعها على قدم المساواة وتجنب الامتيازات التي تنتج القهر الفردي والمؤسساتي الذي لا مبرر له، وبالتالي عدم المساواة. العرق والحالة والوضع الاجتماعي والجندر ينبغي ألّا تكون سببا لمعاملة الأفراد بشكل مختلف: ويعتبر كل تمايز تمييز. بهذا المعنى، تلغي "الاختلافات" و"الفرق" المفهوم بوصفه فئة تمييزية وتكاثر الاختلافات يهدف إلى صرف الأنظار عن مركزية الفرق، الذي يعد سبب عدم المساواة.

 

ومن هنا كان توجه ما بعد النسوية هو نسوية REI (العرق والإثنية والإمبريالية)، يطعن هذا التوجه الفكري في الحركة النسوية المتعلقة بالنساء ويعيد تبرير حقوقهن: إنها تخاطب السيدات البيض متوسطات الدخل دون الأخذ بعين الاعتبار مشكلة النساء المنتميات إلى الأقليات الإثنية والفقيرات، وكثيرا ما يشار إلى هذا التوجه بأنه "ما بعد الاستعمار"، الذي هو مزيج من الاستعمار وما بعد الحداثة بوصفه ليس مجرد نقد النظام الأبوي، ولكن أيضا الثقافة السائدة للأبيض الأوروبي الغني الذي يفترض أنها عالمية، ولا يقتصر هذا التوجه إلى الإمبراطوريات الاستعمارية بالمعنى الواقعي، ولكن إلى عالم "الرأسمالية العالمية"؛ إنه لا يميز بين "العالم الأول" والعالم الثالث "، في إشارة إلى الإمبراطورية التي تحتضن بالمعنى العالمي كل أشكال عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. هذا النهج يسلط الضوء على بعض العناصر التي تتجاوز الجندر: العنصرية، والتعصب العرقي، والإمبريالية. هذه هي العناصر التي تؤثر على كل من الرجال والنساء، بوصفهم جماعات أو أفرادا مهمشين.

 

تندرج تبريرات بل هوكس في هذا الاتجاه أيضا؛ فهي تعتقد أننا لا نستطيع التحدث عن الجندر دون الرجوع بالإضافة إلى الفرق الجنسي، إلى اختلاف العرق والطبقة، وهدفها هو فضح التمييز على أساس الجنس sexism المتداخل مع العنصرية والطبقية، مدافعة عن الحق في الاختلاف ولكن أيضا عدم الإقصاء والظلم الاجتماعي.

 

وترى هوكس أن البيان النسوي "جميع النساء مضطهدات " يخفي امتيازات ونرجسية المرأة البيضاء المحافظة من الطبقة المتوسطة، وبعضهن ربما، لم يعشن تجربة أصيلة من القهر والمعاناة، ومن وجهة نظرها فإن العلاقات الهرمية للسلطة على أساس العرق والطبقة هي أكثر قمعية من التسلسل الهرمي الجندري، بالإضافة إلى ذلك، فإن النساء السود على وجه التحديد اللواتي اختبرن العبودية والعنصرية والتمييز الجنسي، يمكن أن يوفرن رؤية يمكن البناء عليها لصياغة سياسات نسوية أصيلة. ولا تستجوب هوكس صحة القهر / المعاناة للنسويات البيض فقط، ولكن أيضا صحة سياساتهم، منتقدة النسوية الليبرالية ولكن أيضا النسوية الراديكالية التي تتحدث عن روابط مشتركة بين النساء، معتبرة أنها غير كافية من الناحية النظرية والعملية.

 

وبهذا المعنى، يمكن للمرأة السوداء أن تتقاسم مع بعض الرجال السود اضطهاد العرق والطبقة، ولكن ليس الجندر. التركيز على قضية العرق والطبقة يميل إلى أن يهيمن على أفق ما بعد الحداثة، إن لم يلغ مسألة الجندر برمتها.

 

نسخة ما بعد الاستعمار من النسوية REI هي جزء من نقد ما بعد الحداثة لكل فئة جُعلت متجانسة، مستجوبة كل افتراض عن وجود هوية ثابتة، سواء كانت الجندر أو العرق أو الطبقة. وُجهت الانتقادات ضد أي محاولة لإضفاء الصبغة العالمية، الوحدة، ومعيارية الفكر، بوصفها عجرفة لا مبرر لها، على العكس من ذلك، يسلط هذا المنظور الضوء على التشظيات، والتفصيلات particularisation والدينامية.

 

في سياق نقد الهيمنة الأوروبية في بعض البلدان غير الغربية (بالمعنى الاقتصادي والسياسي، ولكن أيضا بالنسبة للهيمنة الثقافية) وثنائية أن الغرب يعارض كل ما هو "آخر"، هناك انتقادات أدخلت على الفئة ذاتها من الفرق والتي جلبت معها فكرة أن ما هو مختلف قد يكون أقل شأنا.

 

بهذا المعنى، يعتقد أن التنوع أو الآخرية (مبدأ othering) يفترض تفرعا ثنائيا متقابلا بين الهوية أو هوية الجماعات التي يفترض أنها ثابتة ووحدوية بالمعنى الهرمي. يدرك الاختلاف سلبيا، والآخر / المختلف هو على الهامش دائما.

 

يخطط هذا النهج إلى تفكيك الاختلاف والانقسام، بهدف زعزعة استقرار الفكرة المركزية للمعايير العالمية ومَشكلة الشروط والمفاهيم المرتكزة على الهوية، مدركا ومعززا الطابع الجمعي المائع و الهجين الهوية.

 

عبر غاياتري شاكرافورتي سبيفاك عن انتقاده للفكر الغربي الذي طور تصنيفات وفئات مفترضا أنها تمثيلية بالمعنى الشامل، على طريقة الحقيقة الخالصة والإقصائية. إنه يشير صراحة إلى تفكيكية جاك دريدا، معتبرا أن الفكر الغربي يقوم على تكرار للثنائيات المنظمة هرميا (رجل / امرأة، أسود / أبيض، حسن / سيء، ضوء /ظلام)، والتي تستبعد الآخر على أنه أقل شأنا؛ فالتفكيكية ليست عكس الثنائيات للتغلب على الاستبعاد؛ والهدف هو الكشف عن آليات التي تعمل بها من أجل رفضها. وما يتم التأكيد عليه هو العلاقة بين الطابع الثنائي للفكر الغربي والممارسات الإمبريالية والجندر، ورفض أي تصنيف موجه والسعي نحو تحليل تعددي ومتنوع.

 

هناك تركيز على الطبيعة الهجينة للهوية، بحجة أنه لا يوجد تعريف دقيق ممكن للشيء في نهاية المطاف. كل فئة من الهوية مؤقتة وقابلة للتغيير.

 

يعترف سبيفاك بأن نهج التفكيكية، على الرغم من أنه في المقام الأول مشكلة نظرية من الناحية الأكاديمية، قد فشل "في الواقع" في التعبير عن المهمشين، ذلك أنه لم يقم سوى بالتحذير من الامتيازات وافتراض المسؤولية الأخلاقية. التفكيكية، بابعادها الهوية والجوهر، تضعف الممارسة القانونية والسياسية.

 

ويشير سبيفاك إلى مفهوم "الجوهرية الاستراتيجية"، التي يكون فيها مفهوم هوية الجماعة أو الفئات المتجانسة الأخرى يمكن الاحتجاج بها واستخدامها مؤقتا لأغراض تداولية بمفهوم مؤقت واسمي فقط، ولكن مع الإدراك المستمر للقيود والانتقادات المتواصلة لوضعهم الأساسي يتم استرداد الجوهرية، المنتقدة على المستوى النظري، لأجل المنفعة والفاعلية التداولية.

 

إنه منظور انتقائي يسعى إلى تحقيق التوازن بين جوهرية /كونية فكر الحداثة وتفكيكية / تشكيك ما بعد الحداثة.

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

 

**مراجع الدراسة الرئيسية (ضمن مراجع أخرى): كتاب لورا بالازاني (الجندر في الفلسفة والقانون،2012)، ودراسة ليندا هتشيون (التشكك بالسرديات الكبرى: المفاوضات بين ما بعد الحداثة والنسوية).

 

 

أضف تعليقك