التفويض بالقتل

التفويض بالقتل
الرابط المختصر

 

بنى فقهاء المسلمين قاعدة (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) بوصفه من الثوابت الشرعية؛ على حديث أبي سعيد الخدري الذي رواه مسلم ونصه "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان". وقد فصّل الشراح كثيراً في مسألة التغيير الواجب باليد وباللسان من حيث موازنتها مع درأ المفاسد وسد الذرائع على نحو يضيق المقام عن تفصيله ها هنا.

 

غاية الأمر أنّ هذا الحديث الذي تشب وتشيب عليه أجيال، يتعاطى معه السواد الأعظم من أبناء وبنات هذه الأمة باعتباره تفويضاً إلاهياً بتغيير كل ما يخالف المعتقد والدين من وجهة نظر المكلف والمخاطب بهذا النص. اللافت للنظر في هذا الحديث أنه يصف التغاضي عن "المنكر" ب"ضعف الإيمان"، وضعف الإيمان بطبيعة الحال نقيصة لا يرغب أحد أن يوسم بها.

 

لقد هزّت حادثة أورلاندو الأخيرة في الولايات المتحدة الأمريكية المجتمعات التي ترسخت عندها قيم التنوع وقبول الآخر ما لم يفتأت هذا الآخر على حرية الآخرين، في المقابل، تفجرت مواقع التواصل الاجتماعي وبعض الكتابات بعبارات التبريك والتأييد لما قام به المهاجم الإرهابي ضد بني وطنه الذين أقسم والده وهو من بعده على حمايتهم والمحافظة على ما ترسخ في ضميرهم الجمعي من قيم ومبادئ انعقدت عليها إراداتهم الحرة في عقد اجتماعي لم يدر في خلد أحد أعضائه أن يأتي أحد لينقضه أو يترجم تحفظه على أي من بنوده لرصاصات تمزق آواصر العيش المشترك الذي شكل يوماً ما حلم كل مضطهد وفار من وجه الاستبداد كما هو الحال بالنسبة لأسرة القاتل المأجور، نعم، إنه قاتل مأجور أدى ما عليه عاجلاً مقابل ثمن آجل يراود خياله المسكون بنساء وولدان وأنهار وثمار يتمتع بها وهو متكئ على أريكة نسجت من أشلاء بني وطنه الذين احتضنوه وهم يهوون في نار "ما لها من قرار"!

 

خرج والد القاتل المأجور ليصرح بأن ما قام به ولده "لا يمثل الإسلام الصحيح"! عبارة باتت بمثابة من يتفل على يساره ثلاثة مرات بعد كل كابوس، فلا هي أضاعت الكابوس الذي وقع ولا هي منعت تكراره.

 

حديث "من راآ منكم منكرا" على ظاهره وكما يفهمه العديد من الناس؛ يعني ببساطة تفويض من يؤمن به باحتراف نوع من "البلطجة" المأجورة بالثناء في الدنيا والخلود والبقاء في دار النعيم في الآخرة، دون أن يجدي نفعاً ترويض هذا النص من جانب البعض بإعطاء تفسيرات التفافية حول تعريف المنكر وآليات تغييره وضرورة ترك ذلك في "بعض الحالات"، لاحظ، "بعض الحالات" لولي الأمر، فإذا سألت وليتك ما تسأل: "ومن ولي الأمر"، سيأتيك الجواب من المنبع ذاته الذي نهل منه إرهابي أورلاندو: "إنه الحاكم بأمر الله المنفذ لشريعته".

 

اختار سفاح أورلاندو أقصر الطرق وأوضحها لترجمة معتقده فغير "المنكر" بيده لأن لسانه لا يستطيع أن يغرد خارج السرب الذي طار أبوه من قبله لينضم إليه هرباً من قطيع الوحوش الذي كان يعيش بينهم، ثم إن هذا القاتل يأبى كما يأبى كثيرون أن يرضى ب"أضعف الإيمان" فينكر "المنكر" بقلبه، لذلك لم يبقَ أمامه إلا يده التي تشتاق أناملها لمداعبة صنف من النساء لم يرَ مثلهنّ ولم يخطرن على قلبه وترنو مقلتيه للتلذذ بولدان غير مثليين.

 

على أهالي الضحايا في أورلاندو أن يفرحوا ويحمدوا الله أن غريمهم لم يتمكن من تغيير "المنكر" وفقاً لحرفية الآلية المنصوص عليها شرعاً، إذ أن قتل المثليين جنسياً لا خلاف عليه بين جمهور العلماء، حيث تمحور خلافهم الصفسطائي فقط حول تكييفه، فمنهم من رأى فيه حداً قائماً بذاته، وهذا الرأي الراجح لدى المذاهب الفقهية باستثناء أبي حنيفة الذي يرى القتل ولكن تعزيراً وليس حدا، ثم أن قلةً من العلماء أنزلوا على حد المثلية الجنسية حد الزنى، بحيث يرجم المحصن ويجلد غير المحصن، وهذا رأي مرجوح. أما عن طرق القتل، فإنها فاقت في وحشيتها سادية "كاليغولا" إمبراطور روما الثالث، ففي قول وممارسة منسوبتان لعلي بن أبي طالب -لا ندري صحتهما- أنه رجم المثليين ثم أحرقهم، أما ابن عباس، فقد روى عنه أصحاب السنن (أبو داوود وابن ماجة وغيرهما) وجوب قتل المثليين، ثم أخذ عنه ابن القيم والدواعش حكمه بأن المثلي (اللوطي) يلقى به من شاهق (أعلى بناء في المدينة) ثم يتلقاه المؤمنون بالحجارة إمعاناً في تعذيبه، وجاء حكمه هذا باجتهاد فردي شخصي قياساً على فهمه لما حل بقوم لوط -وفقاً للرويات الدينية- حيث قلبت بهم الأرض، فأبى ابن عباس إلا أن يتردى المثليون من أعلى إلى أسفل على يده ويد أتباعه حينما عجزوا عن قلب الأرض من تحت أقدامهم!

 

لماذا كل هذا التوحش؟ هل غضب الله على قوم لوط لفعلهم الموصوف بأنه "فاحشة" أم لأنهم كفروا كما كفر غيرهم؟ هل هذا القياس يعني أن من يُخسِر أو يُطفِّف في الميزان يجب أن يعاقب بعقاب قوم شعيب الموصوف في القرآن؟ هل المراد القتل أم التعذيب والتنكيل؟ ثم لماذا القتل ولماذا التعذيب والتنكيل؟ كيف يُنصِّب شخص من نفسه قيّماً على البشر فيريدهم أن يعيشوا كما يعيش ويروا ما يراه؟ ألم يكن ذنب فرعون أنه قال لقومه: "إنما إريكم ما أرى"؟ كيف يغدو المسلك المذموم محموداً لمجرد أن شخصاً ما آمن بأن مرضاة الرب تكمن في تمزيق عباده أشلاءً وإجبار من نجا منهم من آلة القتل والتعذيب على السير في الطريق ذاته الذي اختاره جلادهم ولو كان مظلما؟

 

من قتلوا فرج فودة إنما ظنّوا أنهم يغيّرون بيدهم "المنكر" ومن يقتلون الأبرياء من المفكرين ورجال الشرطة والجيش وكل مدافع عن الحرية والعدالة والمساواة.. يفعلون عين الشيء. على كل منصف من علماء هذه الأمة قبل عامتها، أن يخرجوا ويقولا أن التفويض بالقتل يناقض أصل الحاية وطبيعتها وقيمها ولو كان أصله في كتب الصحاح، ولو كان أيضاً ضد من يرى فيهم البعض بأنهم "خروج عن الفطرة والطبيعة".

 

* خبير دولي في التحليل القانوني وصياغة التشريعات وحقوق الإنسان.