التفكيكية: نقض النزعة الإنسانية ومفهوم الذات

التفكيكية: نقض النزعة الإنسانية ومفهوم الذات
الرابط المختصر

يتفق دريدا مع هايدغر في رفض "التراث الميتافيزيقي الغربي للحضور. إذ أعطت الميتافيزيقيا دائما امتيازا للحضور سواء على شكل حضور زماني أو على شكل تمثلات presentations)) حدسية. وهذه التمثلات، بحسب تعبير هايدغر، هي أنطوـ لاهوتية طالما افترضت أن الوجود لا يسوغ إلا إذا كان مرتكزا على وجود متعال. ويشكك دريدا مثل هايدغر بامتياز الحضور المطلق هذا، كما يوجه نقده، مثل نيتشه وفرويد إلى أية فلسفة (مثل فلسفة هيغل أو فلسفة هوسرل، والمنهجية العلمية عند سوسير أو ليفي شتراوس أيضاً)، مؤكدا يقين الوعي المشدد على ذاته". وبذلك يعود دريدا إلى نيتشه لبناء الأسس الفلسفية لنظريته التي سينطلق منها لتقويض الأساس الميتافيزيقي للتراث الفسلفي الغربي بوصفه تراثا قائما على الميتافيزيقيا ومتمركزا على ذاته.

 

يرى دريدا أن أرسطو وضع الفلسفة في المرتبة الثانية بعد عالم الطبيعة المادي، غير أن الفلسفة بوصفها ميتافيزيقيا هي تأمل فلسفي في العالم الطبيعي وليس انفصالا عنه. إن لفظة (ميتا) تعني (بعد) حيث أن الفلسفة تبدأ بالتساؤل، والتساؤل يجب أن يكون حول شيئا ما. لذلك فإن عالم الطبيعة وليس ما وراء الطبيعة يجب أن يكون هو محور اهتمام البحث الفلسفي. وقد صبت التفكيكية جهدها الفلسفي على اللغة، فللغة مكانة بارزة في فكر دريدا وعمل من خلالها ومن فوقها ومن حولها على الكشف عن تناقضات الفلسفة الغربية منذ بداياتها الإغريقية الكلاسيكية.

 

شن دريدا في كتابه الشهير (النحوية De La Grammatologiae) الصادر عام 1967، هجوما على كل من دي سوسير وهوسرل ومقولاتهم المتعلقة باللغة. يؤكد دريدا أنهما يسلمان بشكل مسبق بفلسفة الحضور، ولذلك فإن تصوراتهما عن اللغة ترتبط بالتركيز على الكلام، فالكلام يتطلب حضور الذات أمام الذات للتواصل، ويشكل حضور الذات المتكلمة نفي لاحتمالات الغموض أو سوء الفهم و"يبدو أن التغلب على خطر الخواء من المعنى يتم عندما يكون الإدراك الحسي والملفوظ متزامنين"؛ فدريدا ينقل الكتابة من الهامش إلى المركز ويقصي الكلام من مركزيته في تاريخ الفكر الغربي. وبغياب الذات المتكلمة يمكن نقض مفهوم الوحدة والتماسك والوضوح، لتتحول النصوص من خلال عملية الكتابة إلى نصوص مفتوحة بلا نهايات محددة لها تعوم الدوال وتتحرر من الربط القسري الميتافيزيقي بمدلولات محددة وثابتة. وبذلك يتجاوز دريدا فينومينولوجيا هوسرل أو، بعبارة أخرى، يدفع بها إلى حدودها القصوى.

 

قدمت الفينومينولوجيا نفسها بوصفها فلسفة نقدية تقوم على البحث في اشتراطات المعرفة النظرية ونقد التحيزات والانحرافات التي قد تنتج عن المعرفة القبلية والأحكام المسبقة. لقد تبنى هوسرل منهج العلوم الطبيعية، والتي شهدت نموا كبيراً وازدهارا في القرن التاسع عشر، في مقارباته الفلسفية للعلاقة بين الإدراك والوعي من جهة، وبين الموضوع كما هو معطى من جهة أخرى. ويعد تأكيد هوسرل على (الماهية) وإدخالها بقوة إلى دائرة الجدال الفلسفي، والذي كان منغلقا على مثالية عقلية متعالية، من أبرز إسهاماته النظرية. " ذلك أنه ومن خلال التأويلات القصدية، لابد وأن نصل في نهاية المطاف إلى التعرف على ماهو (ماهوي) في ظاهرة معينة، والعودة إلى الأشياء ذاتها يعني من بين ما يعني معرفة كيفية الفكاك من النفوذ المشوه للنظريات والتأويلات أحادية الجانب للظواهر بقصد الرجوع إلى الأهم، أي إلى ذلك الذي يبقى عالقا عبر كل التأويلات". ولمفهوم  (القصدية) أهمية كبيرة في فلسفة هوسرل، فهو من الأدوات الإجرائية التي صاغها لتوضيح طبيعة عمل الوعي في اشتغالاته المعرفية. فلا وجود للوعي المثالي في الفينومينولوجيا، إن كل وعي هو وعي بشيء ما. ويتوجه الوعي بنوع من القصدية نحو الموضوع ليحتويه ويكشف عن حقيقته الماهوية ليتعرف عليه كما هو معطى وليضيء ظلال الدلالات التي تحيط به. ولايمكن أن تنجح هذه الدينامية الحركية للوعي باتجاه الموضوع إلا إذا ارتبطت وبصورة واعية بمفهوم آخر مهم في الفينومينولوجيا وهو ما يعرف (بالاختزال الفينومينولوجي). فالاختزال الفينومينولوجي هو عملية إسقاط كل مايتعلق بالمعرفة القبلية و (تعليق) الخبرة ومعطيات الوعي المرتبطة بمرحلة ما قبل الإدراك الحسي الفينومينولوجي. وبالتالي تصبح المعرفة مرتبطة ارتباطا شرطيا بالماهية وليس بطبيعة الوعي. "ولذلك فالبنية التي تنتظم المسألة المعرفية بنية تضايفية تهتم بالعلاقات بين أطراف ثلاثة: المعرفة، المعنى المعرفي، وموضوع المعرفة، وهي ليست ممكنة فينومينولوجيا إلا بحسب المتانة الماهوية لهذه البنية، فإن الموضوع بعامة والموضوع من حيث هومعروف ((erkennbar) مستقران على هيئة الماهية (Essenz)، أي إنها على هيئة قبلية (A priori) بفضل ذلك التضايف وهو ما يحدد سائر وجوه الموضوع وصوره الوجودية والمنطقية والميتافيزيقية".

 

ورغم القطيعة الظاهرة مع التراث الفلسفي النقدي المثالي، من خلال التأكيد على (المتانة الماهوية) للموضوع وإخراج الوعي من حالة التأملية المثالية المتعالية حيث يصبح الوعي فيها هو المصدر الوحيد للدلالة والمعرفة، إلا أن تأثير ديكارت على عقل هوسرل الفلسفي لايمكن التغاضي عنه. حيث أن هناك مفاهيم رئيسة في الفينومينولوجياتعد إعادة صياغة لمقولات ديكارتيه بامتياز، مثل (التعليق) و (الامتناع عن الحكم). لقد انعطف هوسرل في مرحلته الثانية نحو ذاتية الوعي الإنساني، وبذلك يكون قد أقترب من فلسفة الشك الديكارتية ومنهجها العلمي الصارم في البحث عن اليقين المطلق. فـ(كوجيتو) ديكارت يبدأ بالشك بوصفه يقينا مطلقا ومن ثم مساءلة المفاهيم والمواضيع المعطاة مساءلة فلسفية علمية صارمة. وما يثبت تهافته وهشاشته بعد تلك المساءلة يتم طرده واستبعاده من محيط الوعي الإنساني العلمي الحديث على أنه محض خرافة وأوهام. يستثني ديكارت (الذات) من تلك المساءلة الصارمة ويبدأ بها كوجود قبلي أساسي ومفارق لايصل إليها الشك. إن مقولة " أنا أفكر، إذن أنا موجود" تبدأ بالأنا بوصفها وجودا خارج حدود المساءلة، ثم بافتراض وعي أو عقل تمتلكه تلك الأنا يكون ذو قدرة قصدية على القيام بفعل التفكير. فالأنا هنا لا تنوجد من خلال فعل التفكير، بل إنها موجودة أصلا ولكنها تنكشف وتتمظهر بفعل التفكير. وفعل التعليق الهوسرلي يمكن الوعي من القيام بنشاط تأويلي وتجريدي للموضوع الذي تم تعليقه دون التأمل بالطبيعة التاريخية والسياقية للذات التي تقوم بفعل التعليق، وهذا ما عارضه غدامير كما سبق الإشارة إلى ذلك.

 

وبذلك يكون حضور الذات المتعالية حضورا حاسما في عملية الفهم والإدراك وتشكل المعرفة العلمية. ولا تكتسب الماهيات أهميتها من وجودها المفارق في العالم، بل من حزمة الدلالات التي تثيرها صورتها في الوعي والإدراك. ومن هنا جاء التقارب بين الفينومينولوجيا وبين مدرسة الجشطالت النفسية، فالإدراك يعتمد على (صورة) الموضوع كما تنعكس على مرآة الوعي. وهكذا يصبح المعنى معطى ذاتي ينبثق من الوعي. ولكن الوعي لايمكنه إدراك ذاته من دون وسيط، أي انه بحاجه إلى تأمل مفارق وإسقاط أضواءه الكاشفة على موضوع خارجي كي يتمكن من تحقيق الإدراك.

 

و مثلما نقض دريدا الأسس الافتراضية المسبقة التي بنى عليها هايدغر مقولاته الهرمينوطيقية، عمد إلى تفكيك الافتراضات الميتافيزيقية المتعلقة بالحضور الكلي للذات وللوعي والدور الحاسم الذي يلعبه هذا الحضور في تحديد المعنى وتثبيت الدلالات.

 

و مما سبق يتضح الجهد الفلسفي الكبير الذي قام به دريدا في سياق ما بعد البنيوية وإسهاماته البارزة في تأسيس، رغم كره دريدا الشديد لهذه المفردة، مرجعيات فلسفية متماسكة وقوية لجميع الجهود البحثية الفلسفية والفكرية والاجتماعية والسياسية والأدبية والفنية، التي شكلت بمجموعها تلك الحركة الأكاديمية الشاملة والتي تعرف بما بعد البنيوية. وكان من أبرز النتائج التي توصل إليها دريدا كمحصلة لبحثه الفلسفي التفكيكي: نقض النزعة الإنسانية ومفهوم الذات بوصفها حضورا فاعلا في الثقافة والحضارة بشكل عام. لقد أعلنت ما بعد البنيوية وما بعد الحداثة موت الإنسان بعد أن هيمن، بوصفه مفهوما مركزيا، على مجمل التراث الفكري والفلسفي الغربي منذ الفلسفة الكلاسيكية وعصر النهضة، وبلغ أوجه في مرحلة الحداثة. كان لموت الإنسان، بوصفه ذاتا فاعلة تمتلك سيطرتها الذاتية على فعاليات الوعي والإدراك وإنتاج المعنى وتداوله، أثره الكبير على مختلف مجالات المعرفة.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك