التغلب على العوائق التي تواجهها النساء في مكان العمل

عندما كانت تبحثُ سوزان -تلك الخريجةُ الجديدة من تخصص الهندسة المدنية- عن فرصةٍ للازدهار وخوضِ غِمار التجربة والعمل، كانت على استعدادٍ للتنازل عن بعض مطالبها المشروعة، حالها كَحالِ أغلب حديثي التخرج؛ ما جعلها تدخل درباً شائكاً سعياً في النهاية لِنيلِ عملٍ يليقُ -على الأقل- بشهادتها وتحصيلها العلمي. 

في هذا المقال نسلّطُ الضوء على رحلة سوزان ونساءٍ أخريات أثناء محاولتهن الحصول على عملٍ لائق.

كانت سوزان تعمل في مشروعٍ شبه حكومي لبناء مبنى جديدٍ وترميم مبنى قديم، إذْ صدرت مناقصة هذا المشروع على الصعيد الوطني بعد أن طُلب من المقاول الفائز توظيف ما لا يقل عن ثلاثة خريجين جدد، ما دفع المقاول لِتوظيفها مع مهندسين اثنين من الذكور، إلى جانب فريق عملٍ يضم اثني عشر عاملاً في موقع البناء.

تقول سوزان: "أبلغني المقاول براتبي في أول يومٍ من العمل، ولكن كان بالطبع أقل من الحد الأدنى للأجور!

وأكملت، أنها كخريجة جديدة كان عليها التعلّم والتطور ومحاولة اكتساب الخبرة بأي ثمن، لهذا لم تقم بالاعتراضِ أو الامتعاض، أو حتى إحداث أي جعجعةٍ لا نتيجةَ بعدها. "بعد عدة أشهر، علمتُ أنّ راتبي لا يتم دفعه من قِبَل المقاول، بل من الجهة الرسمية التي أصدرت المُناقصة، كما أنه كان يعطيني نصف المبلغ المخصص لراتبي بينما يحتفظ بالنصف الآخر لنفسه!

بعد أن قمت بالقليل من البحث، اكتشفتُ أنه يدفع لِعُمال البناء (الذكور) راتباً مجزياً أعلى من الراتب الذي يعطِني إياه، مما جعل غضبي يتأجج، ليس فقط لأنه كان يسرق أموالي لأشهر، لكن لِكونه أيضاً كان يظنني حمقاء لأنني لستُ رجلاً". 

سوزان لم تكن المرأة الوحيدة التي شاركتنا قصتها، فقد بدأت يارا العمل في شركةٍ ناشئةٍ صغيرة مباشرة بعد التخرج في عام 2021، وبقيت تعمل هناك لمدة عامين. تقول يارا:"لقد كانا عامين رائعين، فقد تعلمت الكثير، وكنتُ جزءاً من بيئة عملٍ صحية، بل وكان لدي مدراء داعمين. بقيت الأمور كذلك، حتى جاء اليوم الذي قدمت به استقالتي، حين اكتشفت أنهم فقط قاموا بتوريد مبلغ الضمان الاجتماعي الخاص بي  في الأشهر الستة الأولى وبعد ذلك توقفوا عن هذا الإجراء، على الرغم من أنهم كانوا يقومون بخصم المبلغ من راتبي".

وعلى النقيض من سوزان ويارا، اللاتي كُنّ يخطينَ أولى خطواتهن في سوق العمل، فإن إيناس ذات الخمسة والثلاثين عاماً، كافحت للعثور على عملٍ لإعالة أسرتها المكونة من طفلين وأمٍ مسنة، بعد وفاة زوجها. بدأت إيناس بالعمل كمُدخلةَ بيانات، بالإضافة الى الأعمال السكرتارية، ولكن سرعان ما وجدت نفسها في موقفٍ تُضطَر فيه إلى تحمل التحرش المتكرر من رئيسها.  وفقاً لإيناس، تراوح التحرش من النكات غير اللائقة والتلميحات والتعليقات إلى اللمس الجسدي. وأوضحت أنها لا تملك ترف الاستقالة أو حتى تقديم الشكاوى، لأن عملها هو الشيء الوحيد الذي يمنع عائلتها من أن تكون بلا مأوى أو أن يُتركوا جياعاً. كما أشارت إلى الوصمة المجتمعية حيث كانت عاملاً رئيسياً دفعها لالتزام الصمت. 

القصص التي تلقيناها لا حصرَ لها، والشهاداتُ صادمة، فهي تكشف حقيقةً لا مفر منها، وهي أن النساء -وخاصة النساء الحوامل- هُنّ عرضةٌ لسوء المعاملة في أماكن عملهنّ، وأنهنّ يخضعنَ لمختلف أنواع الانتهاكات مثل اختبارات الحمل القسرية، إلى جانب طرح أسئلة تمس الخصوصية أثناء المقابلات حول نية الزواج أو إنجاب الأطفال، والإنهاء المبكر للعقود محددة المدة، بالإضافة الى حرمانهنّ من الإجازة لحضور المواعيد الطبية خلال فترة الحمل. 

"التمييز واضحٌ للغاية بالنسبة للمعلمات العاملات في القطاع الخاص، فإنهاء العقود قبل العطلة الصيفية يُعد ممارسةً شائعة بشكلٍ واضح، إذ لا تدفع المدارس رواتب عن تلك الفترة، بالافتراض أنهم سيعيدون توظيفهنّ في بداية العام الدراسي الجديد"، هذا ما قالته إيمي داوود، مؤسسة "الحركة النسوية الأردنية". وتابعت: "من المحزن أن كل الروايات عن الأمومة التي نحفظها عندما نكون صغاراً، نكتشف لاحقاً، ويوماً بعد يوم، أنها ليست أكثر من سرديةٍ واهية، وأن الأمومة في واقعنا أصبحت خطيئةً نُعاقَب عليها،  بدءاً من قانون الأحوال الشخصية إلى مكان العمل. ولا تنتهي التضحيات التي تُجبر النساء على تقديمها دون تعويض مقابل دورهن في الأمومة". 

في العام الماضي، أصبحت معاملة المعلمات في القطاع الخاص حديث الساعة، بعد أن أرسلت مدرسةٌ خاصة مذكرةً رسميةً إلى هيئة التدريس الإناث تحثهنّ على استخدام وسائل تنظيم الأسرة وتحديد موعد ولادتهنّ خلال العطلة الصيفية السنوية التي تستمر ثلاثة أشهر؛ منذ ذلك الحين، تقدمت العديد من المعلمات لمشاركة قصصهنّ.

بالنسبة لرنا، كان حلم حياتها أن تصبح أماً، على الرغم من تعرضها لعدة حالات إجهاض، مما دفعها لبدء رحلة التلقيح الاصطناعي عبر تقنية أطفال أنابيب. ولكن، هذا القرار وما يتبعهُ من راحةٍ ضرورية عقب بدء الإجراء طبياً، جعلها في مواجهة مع إدارة المدرسة، إذْ استخدموا ذريعة أن أداءها أصبح دون المستوى، ما دفعها للاستقالة بهدوءٍ.

كيف يمكن للمرأة أن تجتاز تجربة العمل بثقة؟ 

ألقينا نظرةً فاحصةً على قانون العمل الأردني، لتوضيح الوضع من منظور قانوني، وذلك بِمُساعدةٍ من الخبيرة القانونية ليندا كلش، مديرة مركز تمكين للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان؛ ويتناول القانون مسائل شائكة مثل المطالبة بالمساواة في الأجور، إذْ تُنص المادة 53 على أن "يُعاقب صاحب العمل أو من ينوب عنه بغرامةٍ لا تقل عن خمسة وعشرين ديناراً ولا تزيد عن مائة دينار عن كل حالةٍ يدفع فيها إلى عاملٍ أجراً يقل عن الحد الأدنى المقرر للأجور، وذلك بالإضافة الى الحكم للعامل بفرق الأجر وتضاعف العقوبة كلما تكررت المخالفة".

كما تمنع المادة 27/أ/1 صاحب العمل إنهاء خدمات المرأة العاملة الحامل ابتداءً من الشهر السادس من حملها أو خلال فترة الأمومة. وقالت كلش "في حال تم فصل المرأة الحامل من الشهر السادس أو خلال فترة الأمومة، يمكنها التقدم بشكوى إلى وزارة العمل للنظر في الأمر".

وأضافت "في حالات التحرش في مكان العمل، يتيح القانون للعمّال ترك الوظيفة مع الاحتفاظ بكامل حقوقهم العمالية. وحسب المادة 29/6 من قانون العمل: في حال تعرض العامل لأي اعتداءٍ من صاحب العمل بالضرب أو بممارسة أي شكل من أشكال الاعتداء أو التحرش الجنسي، يُعاقب صاحب العمل بغرامةٍ لا تقل عن ٢٠٠٠ دينار ولا تزيد على ٥٠٠٠ دينار". 

تشعر يارا بالندم لعدم قراءتها وفهمها لقانون العمل من قبل وتقول: "عندما بدأت مسيرتي المهنية لم يكن لدي خبرة سابقة، ولم أدرك النطاق الكامل لحقوقي، مما جعلني أتعرض للاستغلال عدة مراتٍ دون علمي. أنصح جميع الطلاب والطالبات بالقراءة عن قانون العمل الأردني وحقوقنا المنصوص عليها فيه". كما توصي يارا جميع العاملين والعاملات بإنشاء حسابٍ على موقع مؤسسة الضمان الاجتماعي، لمراقبة اقتطاعات الرواتب الشهرية.

إن الذي يقوّض حقوق العمّال ليس الافتقار إلى النصوص القانونية، فـ"الإشكالية تكمُن في الإحجام عن التقدم بشكوى، ويمكن إرجاع ذلك إلى عدة أسباب، منها الخوف من فقدان فرصة العمل في ظل أوضاع البطالة السائدة، وكذلك الخوف من الوصمة أو التسبب في مشاكل أكبر. وعليه يجب توعية العمّال بحقوقهم وواجباتهم وكيفية تقديم الشكوى إذا تعرضوا لأي انتهاكٍ عمّالي، وكذلك توعية أصحاب العمل بما يترتب عليهم بموجب القانون في حال انتهكوا حقوق العمال.

ما مدى إلزامية تطبيق التشريعات المتعلقة بحقوق المرأة في العمل؟ 

هناك العديد من المعاهدات الدولية التي صادق الأردن عليها، مما يجعلها مُلزمةً رسمياً للدولة وتغطي جوانب مختلفة من حقوق المرأة في العمل، يمثّل ذلك اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) إلى جانب 26 اتفاقيةً من اتفاقيات منظمة العمل الدولية، بما في ذلك سبعٌ من الاتفاقيات الأساسية الثمانية. تغطي اتفاقيات منظمة العمل الدولية نطاقاً واسعاً لتأمين مكان عملٍ لائقٍ للمرأة، مثلما تضمنته الاتفاقية رقم 100 بشأن المساواة في الأجور والاتفاقية رقم 190 بشأن العنف والتحرش، وما إلى ذلك.

ويمثل القانون الأردني والمعاهدات الدولية إطاراً تكميلياً، إلا أن التنفيذ لا يكون كافياً في معظم الأحيان. يجب معالجة الوضع على أرض الواقع كما هو، فهناك حاجةٌ مُلحة للتصدي لانسحاب المرأة من سوق العمل وضمان تمكينها اقتصادياً واستقلالها مالياً؛ هذه هي الطريقة الوحيدة لتجنب الخسائر الفادحة التي يتكبدها الاقتصاد نتيجةً لتهميش فئةٍ كبيرة من القوى العاملة القادرة على إحداث فرق كبير في تنمية البلاد. 

 

الحكومة والنقابات وأرباب العمل 

لنقابات العمّال دورٌ كبير في الضغط على أرباب العمل لطرح سياساتٍ داخلية تُعزز بيئة عملٍ صحيةٍ ومنصفةٍ وآمنة؛ ويجب أن تكون النقابات قادرة على تشكيل وتنظيم والتفاوض نيابة عن العمال مع تمثيل مصلحتهم العليا. 

علاوةً على ذلك، يتوجب على الحكومة أيضاً بِدورها الرئيسي والرسمي إرساء الأسس، إذْ تصمم السياسات لحماية المرأة من الانتهاكات، وتطبّقها. وخلال مناقشة الاستعراض الدوري الشامل لحقوق الإنسان في نسخته الرابعة، تلقت الحكومة الأردنية حوالي 300 توصية، من بينها: مواصلة الجهود الرامية إلى توعية المرأة العاملة بحقوقها في سوق العمل، وإعادة النظر في التشريعات لتعزيز توفير بيئة عملٍ آمنة وصحيّةٍ في مكان العمل.

ختاماً، ومع كل ذلك، فإن الكلمة الأخيرة تعود إلى صاحب العمل ورغباتهِ التي لا بد أن تنبثق عن واجباته في تأمين مكان عملٍ صحيٍ للجميع. فالمساواة بين الجنسين وتوفير بيئة عملٍ آمنة مفهومين قابلين للتبادل، إذْ إن تحقيق بيئة عمل صحيّةٍ وآمنة تحفّز الموظفين على الإنتاج، وبالتالي ضمان تحقيق ازدهارٍ اقتصاديٍ وطنيٍ شامل لكلا الجنسين، مما يعزز رفاهية الشعب. 

 

إخلاء المسؤولية: تم تغيير جميع الأسماء وتفاصيل الهوية لحماية خصوصية الأفراد. 

أضف تعليقك