التعليم المهني في الأردن بين الواقع والمأمول
ركزت المسارات الإصلاحية التي أطلقها جلالة الملك عبدالله الثاني؛ على تمكين الشباب والمرأة في سوق العمل ورفع مستوى مشاركتهم الاقتصادية، لقد تضمنت رؤية التحديث الاقتصادي محاور عديدة تتعلق بتطوير سوق الأعمال وتدريب وتأهيل الشباب والمرأة وتوفير فرص العمل لهم، وكشفت الإحصاءات الرسمية والتقارير الدولية انخفاض ملحوظا في مستوى المشاركة الاقتصادية للمرأة، الى جانب تفشي البطالة لدى القطاع الشبابي، وتعمل العديد من المؤسسات الوطنية على تدريب وتأهيل الشباب وإدماجهم في سوق العمل، لكن ثمة تحديات تواجه هذا الأمر، إذ ان سوق العمل لا يستقطب الا اعدادا ضئيلة لأسباب عدة من ضمنها، الاشباع الحاصل في التخصصات المطروحة، وإحلال العمالة الوافدة بأعداد كبيرة في كافة الأعمال سواء تلك التي تحتاج الى مهارات فنية عالية او تلك التي تتطلب مهارات بسيطة، إلى جانب عدم وضوح الرؤية تجاه متطلبات السوق واحتياجاته.
إن الوصول الى حالة مرضية لتلك المسألة تتطلب إعادة النظر في فلسفة التدريب المهني والتقني في الأردن، ومدى مواكبته للثورة التكنولوجية، إذ أن المنتج الرقمي في تسارع ويأتي كل يوم بجديد، وهذا الجديد يدخل السوق ويحل محل القديم، فهناك الذكاء الاصطناعي والمصنع الرقمي والروبوت والتكنولوجيا الرقمية بكافة انماطها، وأمام هذا التدفق ينبغي أن تكون فلسفة التدريب والتعليم المهني في الاردن ذات قدرة على التكيف والمرونة وتستشرف متطلبات السوق وتتلاءم معها، حيث أن العديد من المهن ستكون في طور الانقراض خلال السنوات المقبلة، وهذا التكيف المرن مع واقع السوق المتغير يستلزم إعادة النظر في تعامل الحكومة مع منطق السوق، هل نتعامل مع سوق حرة لها شروطها ومتطلباتها، هل تهدف مراكز التدريب المهني الى بناء الفرد المؤهل بمهارات فنية عالية ومتعددة والقادر على التكيف مع التغيرات الحاصلة في السوق؟
انطلاقا مما سبق فإن من الضروري بناء منظومة تقنية مهنية فنية ذات جودة عالية، وتأهيل المتدربين بالمهارات الفنية والتقنية العالية وبناء قدراتهم بما يتوافق مع الثورة التكنولوجية ومتغيراتها، وتحسين التشريعات التي تسهل تشغيل الشباب والفتيات، وتمكنهم من تأسيس مشاريعهم الخاصة، فلا بد لنا وقبل كل شيء من أن نهيئ البيئة التدريبية وفق تلك المعايير، الى جانب تنظيم البيئة الحقوقية والمهنية للطلبة المتدربين.
إن ضعف البنية التقنية في مراكز التدريب المهني والمؤسسات التي تعنى بالتدريب والتأهيل لا يمكن أن يحقق الأهداف المنشودة، كما أن محدودية التخصصات المطروحة خصوصا في محافظات الاطراف وتكرارها لا يمنح الملتحقين الجدد بأية فرص جديدة في سوق العمل، إذ ان العمالة الوافدة قد استوعبت غالبية الفرص في تلك المجالات، لذا ينبغي التوجه لاستحداث تخصصات جديدة من شأنها أن تلبي حاجات سوق العمل وأن تسمح بإنشاء مشاريع صغيرة خصوصا لفئة النساء، فهناك فرص واعدة في مجال التصنيع الزراعي وصناعة المنسوجات والصناعات الثقافية المختلفة والخدمات السياحية والرعائية والخدمات اللوجستية، والأعمال الانشائية وفنون العمارة، وصيانة الحواسيب والهواتف الذكية والسيارات الكهربائية، والتصنيع الالكتروني، وتقنيات التصوير والميديا، والصناعات الخفيفة وبعض المستلزمات المنزلية واشغال الصيانة المنزلية، واعداد المستخدمين المدنيين، وبعض الخدمات التي تتوفر في المجال الرياضي والعلاجي، كما ينبغي ادراج المساقات المتعلقة بإنشاء المشاريع الصغيرة وادارتها، .
إن توحيد ودمج جميع مجالات التدريب التقني والمهني ضمن مرجعية واحدة مسألة ضرورية، فهناك العديد من الجهات التي تعمل على تقديم خدمات التدريب والتأهيل والتشغيل والمهن مثل وزارة العمل والشركة الوطنية للتشغيل والتدريب ومؤسسة التدريب المهني، ومراكز تدريب الطاقة الشمسية وغيرها من المؤسسات الحكومية والخاصة، الى جانب المؤسسات الاكاديمية، وهذا التعدد في المرجعيات قد يولد تحديات جديدة ويسهم في الهدر المالي وتشتيت الجهود وتضارب الأهداف.
إن توجيه المنح الدولية نحو دعم وتعزيز المشاغل المهنية مهم للغاية من أجل الوصول الى بنية تقنية ذات جودة، كما أن تهيئة البيئة التدريبية والتصنيعية تحتاج الى مهارات إدارية وفنية عالية وشروط سلامة عامة ذات جودة عالية، ويستلزم ذلك بناء نظام جودة بمعايير عالمية، أيضا بناء شراكات استراتيجية وطنية ودولية في مجال التدريب المهني، من شأن هذه الشركات ان تطور الخبرات القائمة وترفدها بالتجارب العالمية في هذا المجال.
إنه من الضروري تدعيم الشهادات والرخص والخبرات التي يحصل عليها خريجو المراكز التدريبية بحيث تؤهلهم للعمل في المجالات المهنية، مع أهمية خلق حوافز جديدة للمبدعين والمنتجين سواء بالمكافآت التي تكون على شكل منح صغيرة موجهة لإنشاء مشاريعهم الصغيرة، أو تسمح لهم باستكمال مساراتهم التعليمية والمهنية.
ينبغي أيضا التعامل بشيء من المسؤولية تجاه الفرص التدريبية والتخصصات المطروحة للفتيات متجاوزين الأدوار والمهن التقليدية، بحيث يتم مراعاة النوع الاجتماعي، فالتخصصات محدودة جدا ومشبعة، لا نلحظ توجها نحو التخصصات الريادية للمرأة، عدم توفر بيئات مشجعة للفتيات، ضعف البنية التكنولوجية التي يمكن ان تساعد المرأة في توظيف امكانياتها وتسهيل وصولها الى الفرص والموارد بكل يسر وسهولة، كما يجب بناء منصات الكترونية تقدم الخدمات اللازمة للراغبين بالالتحاق في التدريب المهني وللخريجين الباحثين عن فرص العمل.
وأخيرا فإن الوصول إلى تعليم مهني تقني متقدم، يحتاج الى بناء الرأسمال الثقافي لفئات الشباب من كلا الجنسين وفق متطلبات الثورة التكنولوجية والاقتصاد المعرفي، ودعم وتعزيز البنية التقنية والإدارية والفنية وفق نظام جودة ذي معايير عالمية، وتقديم معرفة مهنية وتقنية قادرة على التكيف وتمتاز بالمرونة، الى جانب تحسين التشريعات المتعلقة بالتعليم المهني والتقني وبيئات الأعمال، مع أهمية إعادة النظر بفلسفة التعليم المهني بما يواكب الثورة التكنولوجية الحديثة.