لا شك ان جائحة كورونا قد فرضت على التعليم في الأردن حاجة التعلم عن البعد، ورغم اي مبررات قد تكون مقبولة الا ان الجائحة قد فاجات الجميع وكشفت عن ان ما قام به الأردن من سنوات تجاه تعزيز البنى التحتية للتعليم لم تشفع لنه في إمكانية توفير التعليم عن بعد بالشكل المهني والمطلوب.
ومرد ذلك بالطبع يعود لأسباب كثيرة، ولكن ما يهمنا هنا ان نذكر ان العملية التعليمية في الأردن ما زالت في مرحلة التعليم التقليدي اي التلقيني والتي تعتمد على الأستاذ في الجامعة والمعلم في المدرسة بالدرجة الأولى وليس الطالب والمنهج في المصاف الأول.
وانه لا يمكن غفل الجهود الكبيرة التي بذلتها وزارة التربيةوالتعليم ووزارة التعليم العالي في توفير التعليم الإلكتروني عن بعد في زمن الجائحة، الا ان الصعوبات كبيرة جدا بسبب ان المنظومة التعليمية بالأساس لم تكن مهيئة لذلك، وتم التعامل مع الموضوع على انه طارئ وضمن الإمكانيات المتاحة للتكيف مع الأمر الواقع.
لقد اشارت لجنة الحقوق الإقتصادية والإجتملاعية والثقافية في الأمم المتحدة والتي تضع تعليقات ذات قيمة تفسيرية للعهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية جملة ملاحظات على الحق في التعليم ذهبت بها الى دعوة الدول الى تطبيق مفهوم التعلم المرن، والذي ينبغي ان يطبق هدف مبدئي وهو إمكانية الإلتحاق للطلبة والتي تتطلب أيسر وصول للطالب للعملية التعليمية وذلك إما عن طريق الحضور للدراسة في موقع جغرافي ملائم بشكل معقول أو من خلال استخدام التكنولوجيا العصرية.
وايضا ان يكون التعليم مقبولا ثقافيا، بمعنى أن يتلائم ويتكيف مع مختلف الأساليب الإجتماعية والتطورات في المجتمع، ولنتذكر ان المجتمع الأردني اصبح يستخدم وسائل تكنلوجيا المعلومات ووسائل التواصل الإجتماعي بشكل كبير بحيث اصبحت تشكل منظومة ثقافته ومعرفته بشكل او بآخر.
وقد اشارت اللجنة الى ان التعليم الثانوي والعالي ( الجامعي ) يتطلب مناهج دراسية مرنة ونظم توفير متنوعة للاستجابة لاحتياجات الطلاب في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية. وتشجع اللجنة البرامج التعليمية "البديلة" الموازية لأنظمة التعليم الثانوي العادي.
نص العهد الدولي الخاص بالحقوق الإقتصادية والإجتماعية والثقافية الى جعل التعليم العالي متاحا للجميع على قدم المساواة، تبعا للكفاءة، بكافة الوسائل المناسبة. وفيما يتعلق بتفسير اللجنة لعبارة "جعله متاحاً"، وعبارة "كافة الوسائل المناسبة" تعزز النقطة التي مؤداها أنه على الدول الأطراف أن تعتمد مناهج متنوعة ومبتكرة لتوفير التعليم الثانوي في مختلف السياقات الاجتماعية والثقافية.
وبهذا فإذا ما أريد للتعليم العالي أن يستجيب لاحتياجات الطلاب في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية، فلا بد أن يشتمل على مناهج دراسية مرنة ونظم مختلفة لتوفير التعليم، مثل التعليم عن بعد؛ غير أنه في الممارسة العملية يجب أن يتوافـر كل مـن التعليـم الثانوي والتعليم العالي "بأنواع مختلفة".
إن التزامات الدولة هنا في توفير هذا التعليم المرن عن بعد يندرج تحت سياسة التزام الدولة "بأداء" حقوق الإنسان، وهو ما يستلزم ان تعيد الدولة الأردنية النظر في الكثير من سياساتها تجاه التعليم عن بعد، ومن ذللك تذليل كل العقوبات امام الطلبة من التمكن من استخدام تكنلوجيا المعلومات، فما الفائدة المرجوة مثلا من عمل منصات تعلم او تعليم الكتروني ان لم يكن الطالب يمتلك لاب توب ولديه القدرة على دفع فاتورة الإنترنت !، من هنا ينبغي توفير تلك الوسائل مجانا طيلة فترة دراسة الطالب، ولا تقتصر على فترة الطوارئ كوجود جائحة او غيره، بل ينبغي توفيرها دوما.
وايضا اعتماد اسلوب التدريس عن بعد بنسبة قد تصل الى الثلث ولا يمنع نسبة اكبر دون حاجة الطالب للذهاب الى الجامعة مثلا يوميا مما سيوفر من كلف لها علاقة بالمواصلات والإكتظاظ بالصفوف، كما ان ذلك يتطلب تطوير وسائل التعليم من خلال جعل الطالب هو محور العملية التدريسية وليس المعلم او الأستاذ الجامعي وليس قاعة الصف حصرا، بحيث يتم التركيز على تنمية المهارات كالبحوث وعمل المشاريع والمبادرات والزيارات والإجتماعات وتطبيق التحليل الناقد، إن هذه المهارات لا يتم تعليمها على السبورة الصفية بقدر ما يتم تعليمها بإستنهاض همة وجهد وشغف الطالب الذاتي بأن يقوم بتلك المبادرات والمهارات ويعمل على تطويرها وبالتالي الإبتعاد عن الحفظ والتكرار. وهوما يتطلب تنوعا في اساليب التقييم ايضا.
قد يبدو ان ما اطلبه كبير او يكلف الدولة اقتصاديا، ولكن ان نظرنا بعيدا قليلا سنجد أن ذلك غير دقيق، بل ربما على العكس، حيث سينقل كلف المباني وصيانتها الى اجهزة الكترونية، وستوفر من فاتورة الطاقة والمواصلات، بالطبع ان ما ادعو اليه لا يعني الغاء التدريس الصفي وتحويل الطلبة الى التعلم الإلكتروني عن بعد بدلا عنه، بل ان يكون هذا النظام المرن يمشي جنبا الى جنب مع التعلم الصفي.
لقد تطور الأردن عبر عقود في مجال التعليم وأنفقت الدولة مبالغ باهظة ولكن ما زلنا بعيدين عن التعليم الناقد التفاعلي الذي يعزز من شخصية المتعلم نحو ان يمتلك ناصية شغف التعلم وبناء المهارات اكثر مما نحتاجه الى التعلم بالحفظ دون مهارة، إن الكثيرين من الخريجين من جامعاتنا محشويين بالمعلومات دون مهاراة، أنه تعليم بنكي كما يصفه باولو فيريري او تعليم ميكانيكي كما يصفه الفيلسوف فيخته، لا يؤدي الى الإبداع او ان يصبح العلم له هدف او فيه روح ولا ينمي روح الحرية والإستقلال.
آن الآون ان نعيد النظر بالعملية التعليمية سواء في المدرسة او الجامعة ليصبح دور الدولة هو في تنفيذ التزام ادائها للتعليم، اي توصيله الى غايته وتحقيق الهدف المرجو منه، وهو ما يستلزم اعادة النظر بحالة حصر التعليم بين جدران الصف والإعتماد على الأستاذ كمحور للعملية التعليمية واستبداله ليكون الطالب هو المحور والفضاء الأكتروني وسيلة تساعد على الإبتكار والتواصل الى جانب التعليم الصفي، وبذا نصل الى ان يصبح كل فرد له فرصة الوصول الى الحق في التعليم فعلا من خلال التعليم المرن، وهوما يتطلب وضع خطة عملية ومدروسة لتحقيق الغرض في التعليم المدرسي والجامعي.