التعقيدية: التوفيقية الجديدة بين العلوم والانسانيات

التعقيدية: التوفيقية الجديدة  بين العلوم والانسانيات
الرابط المختصر

تعود شعبية الصداع المزمن بين الإنسانيات والعلوم التي تزايدت في القرن العشرين إلى محاضرة العالم الفيزيائي والروائي الانجليزي تشارلز بيرسي سنو (ثقافتان) والتي ألقاها ضمن محاضرات ريدي في كامبريدج عام 1959 وأعلن فيها أن عدم التواصل بين ثقافتي المجتمع الحديث ـ العلوم والإنسانيات ـ هي السبب الرئيسي في إعاقة التقدم نحو حلول جذرية لمشكلات العالم. وبوصفه عالما وروائيا كان سنو هو الأجدر والأقدر على طرح هذه الفكرة. ويقتبس  فيلييب غالانتر ـــــــــــ الذي يجتهد منذ العام 2007 في وضع توفيقية جديدة تناسب ما بعد الالفية أطلق عليها مصطلح التعقيدية (complexism) من المحاضرة قول سنو:

 

"الأدباء والعلماء، وخصوصا علماء الفيزياء، يقفون على طرفي نقيض، وبينهما بحر من عدم التفاهم المتبادل، بل والعدائية والكراهية سيما بين الشباب منهم، ولكن الأهم هو عدم التفاهم المشترك.

 

يرى الأدباء أن العلماء متفائلون بسذاجة وغير مهتمين بحالة الإنسان، ويرى العلماء بالمقابل أن الأدباء يفتقرون إلى البصيرة النافذة ولا يبالون بإخوانهم في الإنسانية، بل أنهم بالمعنى العميق غير مثقفين وهمهم الوحيد هو قصر الفكر والفن على لحظة وجودية".

 

ويعلق غالانتر قائلا أن جزءاً من نقد سنو يتنبأ بالصراع القادم بين الحداثة العقلانية فلسفيا (العلوم) واللاعقلانية ما بعد الحداثية (الإنسانيات).

 

قدمت ما بعد الحداثية، والتفكيكية، وما بعد البنيوية، والنظرية النقدية، ومثيلاتها مصطلحات وأفكار متداخلة، مائعة، ومراوغة، ولكن المتمسكين بهذه المصلحات يقولون أن ذلك أمر لا بد منه، وأنه ليس كثيرا على موقف التشكيك والنشاط الذي أساسه زعزعة استقرار مقترحات طالما بدت كونية وواضحة لا لبس فيها. أما الاستقطاب بين ما بعد الحداثية الإنسانية والحداثة العلمية فيلخصه غالانتر في المتقابلات التالية:

 

الحداثة: مطلقة، تقدمية خطية، محكمة، متسلسلة هرميا، السلطة، الحقيقة والمؤلف، في حين أن ما بعد الحداثة: نسبية، دائرية، عشوائية، تحطم التسلسل الهرمي، التنافس مقابل السلطة، اللاحقيقة، النص مقابل المؤلف وأخيرا أنها ضد الشكلانية.

 

 

يشرح غالانتر الثيمات السابقة في سياق الحداثة وما بعد الحداثة بالتفصيل ممهدا لفكرته عن التعقيدية التي أرادها جسرا لردم الهوة العميقة بين القطبين الذين تنافرا لفترة طويلة أزعجت البشرية برمتها وينقل عن ديفيد ستوف قوله: "جاءت الحداثة تطبيقا لقيم التنوير، ولذلك توجهت مع العلم نحو المطلق واثقة بأن قوانين الطبيعة حقيقية ثابتة ومعروفة، وذلك بالتحديد ما شككت به (إنسانيات) ما بعد الحداثة، ويمكننا أن نتقصى ذلك التشكيك مبكراً في كتابات الفيلسوف الاسكتلندي ديفيد هيوم. ولذلك عرضت النظريات المتنافسة بوصفها نظريات لا يمكن التحقق منها تاركة الفروق والاختلاف على قدم المساواة بلا هيمنة لأحدها أو تأكيد لصحته".

 

تقدمت العلوم الحداثية تقدما حقيقا في الفهم حين استعاضت عن النظريات القديمة بنظريات جديدة حملت قدرة أكبر على التفسير والتنبؤ. أما إنسانيات ما بعد الحداثة فقد اعترفت بالتعددية في النظريات وباستمرارية التداول عن طريق تغيير الخطابات. وفي حين بحثت الحداثة عن نقطة ثابتة في الاستقرار المفاهيمي، جاءت ما بعد الحداثة لتحتفي بالعشوائية في عالم الأثر المتغير. وقد مالت الثقافة العلمية الحداثية إلى التسلسل الهرمي الذي يعد علم التصنيف، وطريقة الأبحاث الاختزالية أمثلة جيدة عليه. أما ثقافة ما بعد الحداثة فقد سعت إلى تقويض التسلسل الهرمي، الأمر الذي بدا واضحا في الفن على سبيل المثال في محاولات المساواة بين الفن الرفيع والفن الشعبي، واعتماد التهكم والسخرية أسلوبا فنيا وأدبيا، وخلق خلطات عبر ثقافية تعسفية. وفي حين وفرت ثقافة العلوم الحداثية أماكن للتنافس المفاهيمي، إلا أنها احتفت بالسلطة ففي ممارسات الخبراء أو في النظريات الشمولية التي قدمتها، أما ما بعد الحداثة ـفي ثقافتها الإنسانية_ فقد احتضنت تنافسات لا حد لها من خلال استراتيجيات التفكيك وما بعد البنيوية. وقد قاد ذلك في نهاية المطاف إلى حالتين متناقضتين ففي حين كانت الحداثة متفائلة جداً بشأن وجود حقيقة ثابتة أصبحت بفضل العلم قاب قوسين أو أدنى، روجت ما بعد الحداثة لحالة من التشاؤم منشؤها أن لا حقيقة واحدة أو ثابتة على الإطلاق، بل يمكننا أن نتوافر على حقائق عديدة كلها صالحة ولا فرق بينها من حيث المصداقية والدقة. وقد تطرفت ما بعد الحداثة إلى حد اختزال مشروع التنوير العلمي برمته إلى مجرد بناء اجتماعي ليس أفضل أو أكثر موثوقية من أساطير الثقافات الأخرى المعاصرة أو الماضية، وليس من المستغرب بعد ذلك أن يكون الفن والأدب الحداثي وما بعد الحداثي قطبان متنافران في أحسن الأحوال. ففي الفن الحداثي كان المؤلف (الكاتب)، والرسام, والملحن... الخ هو مركز الاهتمام أما فيما بعد الحداثة فقد ركزت الاهتمامات ما بعد البنيوية على النص (الكتاب)، واللوحة، والموسيقى... الخ والطريقة التي تقود إلى قراءات متعددة بل ومتناقضة للنص من خلال التفكيك. وفي حين كانت صولات فناني الحداثة البطولية تسعى إلى تقديم مستوى فني جمالي رفيع إلى أبعد حد ممكن، تحرر فنانو ما بعد الحداثة من تلك القيود بامتياز، بل أنهم انتهكوا الأساليب الشكلية الرفيعة ووضعوها بين أقواس للسخرية والتهكم من أصالتها وجدتها. لقد أُغرق طلاب الفن في ما بعد الحداثة دون أن يتعرفوا صراحة على اشتقاقاتها وتطوراتها أو حتى دون أن يحظوا ببدائل فلسفية. وعند هذه النقطة تحديدا فإن ما بعد الحداثية قد أصبحت بالنسبة لهؤلاء الشباب حكمة متلقاة غير مدروسة وصندوق مفاهيمي يمكنهم من ممارسة الهروب ولو قليلا. فلا عجب إذا أن يتخذ طلاب الفن استنتاجات كتاب ما بعد الحداثة بوصفها بديهيات ومسلمات جعلوا منها شعارات مثل:

العلم ليس اكتشافا موضوعيا. انه مجرد بناء اجتماعي. (ليوتار)

ليس للغة معنى ثابت. هناك فقط آثار ولعبة كلمات. (دريدا)

لقد مات المؤلف، والقارئ هو مفسر النص. (بارت)

لا حقيقة. وكل ما هناك هو مجرد خطاب، وسلطة سياسية. (فوكو)

 

بلغ الانقسام بين الآداب والعلوم الإنسانية ذروته مع ما أطلق عليه (حروب العلوم) في التسعينيات التي سعت إلى مَشّْكلة العلوم بوصفها معقل الحداثة الأخير، لدرجة أن دراسات العلوم قد ألحقت بالدراسات الإنسانية تحقيقا لرؤية ليوتار بأن العلوم بناء اجتماعي ليس إلا.

 

واشتد وطيس المناقشات عندما نشرت مجلة (النص الاجتماعي) وهي مجلة أكاديمية عصرية مقالا للعالم الفيزيائي ألان سوكال. كان المقال محاكاة ساخرة فارغة المضمون لنظرية ما بعد الحداثة النقدية. وهدفت إلى كشف عدم دقة الدراسات العلمية ما بعد الحداثية.

 

تشكل النظرية النقدية وما بعد الحداثية والتفكيكية وما بعد البنيوية السياق الذي يتضمن النقد والنظرية الفنية المعاصرة. وإذا ما أعتقد المرء أن صعود وسائل الإعلام الجديدة والفن المعتمد على التكنولوجيا سيساعد الفنانين في العثور على ملجأ يحميهم من تشكيك ما بعد الحداثة، فإنه سيكون مخطئا تماما، لأن جذور التعليق المعاصر على الفن المعتمد على التكنولوجيا موجودة في النقد ما بعد الحداثي. فنجد مثلا أن مارغو فوجي في كتابه (تيارات ما بعد الحداثة: الفن والفنانين في عصر الوسائط الالكترونية) يكرر المزاعم الشعبية التي تقول بأن تكنولوجيا الإعلام المعاصر هي التجلي المادي لما بعد الحداثة النظرية.أما جورج اندو فقد وضح في كتابه (التشعبي: التقارب بين النظرية النقدية المعاصرة والتكنولوجيا) أننا ومن خلال الحاسوب نحصل على تقارب حقيقي ووظيفي بين التكنولوجيا والنظرية النقدية، ذلك أن البنية التقنية الخاصة بالحاسوب توضح نظريات بنيامين، وفوكو، وبارت الذين أشاروا جميعا إلى ما أسماه بارت (موت المؤلف). لقد حصلت الوفاة بشكل غير أساسي وتفاعلي عبر نظام تشغيل الحاسوب. يعطينا ستيفن ويلسون تأكيدا آخر في مسحه الموسوعي الذي ضمنه في كتابه (فنون المعلومات:تقاطعات الفن والعلم والتكنولوجيا). وفي حين أنه يبدي التزاما فيما يتعلق بالاحتفاء بما بعد الحداثية من حيث كونها سياقا لاستكشاف العلوم بالفن، إلا أنه ـ في الوقت ذاته ـ لا يدع مجالا للشك في تأثيرها الواسع على هذا المجال، وكان صريحا حين تحدث عن توظيفه للنظرية النقدية بوصفها مبدأ تنظيمياً في كتابه. وفي السنوات الأخيرة كانت النظرية النقدية مصدر استفزاز فكري بشأن التفاعل بين الفن، والإعلام، والعلوم، والتكنولوجيا. ولكن اندفاع النظرية النقدية نحو تفكيك البحث العلمي والابتكار التكنولوجي بوصفها مظاهر لما وراء القص، لم يترك مجالا لظهور اختراعات أصيلة أو لابتكار احتمالات جديدة. وبينما هيمنت هذه النظرية على الفنون إلا أنها لم تلق قبولا مماثلا في عالم العلوم والتكنولوجيا. ويمكن القول أن عالم الفن قد أنتقل من ثقافة الحداثة التي كان فيها شريكا للعلوم إلى ثقافة ما بعد الحداثة ليشارك الإنسانيات عالمها. ووجد الفنانون الذين احتضنوا قيم التنوير والعلوم أنفسهم أقليه، يتم تجاهلها أحيانا بوصفها من مخلفات الحداثة المنبوذة. تلك مشكلة ولكنها أيضاً فرصة. فالفنانون التوليديون وخصوصا أولئك الذين يوظفون أنظمة توليدية معقدة يقفون بثبات وكفاية عالية ليساهموا في بناء جسر جديد بين العلوم والإنسانيات.

 

وتحت عنوان التعقيدية: نموذج فكري جديد للفنون والإنسانيات يقول غالانتر:"كانت الفنون شريكا كاملاً في الحداثة، ولازالت كذلك في مجال العلوم. ولكنها الآن مرتبطة في المقام الأول بالأطروحات المناقضة للحداثة: ثقافة الإنسانيات في ما بعد الحداثة. ومع ذلك، وعلى الرغم من أن الحداثة وما بعد الحداثة على النحو المبين أعلاه تبدوان متناقضتين حد الخصام، إلا أن الفن التوليدي المرتكز على التعقيد يمكن أن يقترح توفيقية أو توليفة تستوعبهما معا ـ كما يقول غالانتر ـ وهذه التوفيقية هي التي أطلق عليها التعقيدية. يرى غالانتر أن تعقيديته تسقط رؤية وموقف العلوم المعقدة من العالم على فضاءات الفنون والإنسانيات. وهي بذلك تقدم توفيقية تستوعب الاهتمامات والنشاطات والمواقف الحداثية وما بعد الحداثية في بوتقة واحدة، يعد الفن التوليدي مظهرها الأبرز" .

 

يحدد غالانتر في التحديات الابستمولوجية التي قدمتها علوم ورياضيات القرن العشرين فيقول:" مع انتقال القرن العشرين من الفيزياء الكلاسيكية إلى الفيزياء الحديثة، استعاض العالم عن كون لابلاس المنظم الدقيق بالكون الاختصاصي الذي تحكمه ميكانيكا الكم، ولا يقينية هايزنبرغ، ونظرية الفوضى. وفي الوقت نفسه استسلم برنامج هيلبرت الموجه لصياغة كل الرياضيات للحدود المثبتة في المنطق والرياضيات التي كشفت عنها نظرية عدم الاكتمال لكورت جوديل التي توسعت بدورها على يد ألونزو تشرشوآ لأن تورينغ ونظريتهما في التحسيب، فضلا عن أعمال شايكن ذات الصلة. أساءت ما بعد الحداثة تفسير هذه الأفكار المثقلة بالمعرفة في إطار محاولاتها لتقويض ثبات المؤسسات الحداثية التي أنتجت تلك الأفكار في المقام الأول. ولكن غالانتر يعتقد أن التعقيدية ستمنح تصحيحا يُسَيْقن اللا-يقينية العلمية وعدم الاكتمال الرياضي.

 

ويتطلب ذلك تقديم شروحات مفهومة للجمهور وخصوصا لطلاب الإنسانيات، الأمر الذي يوجب البحث عن سياق ثقافي مفيد ودقيق للتحديات الابستمولوجية التي قدمتها علوم ورياضيات القرن العشرين، ويرى غالانتر أن الاستيعاب الدقيق لتلك الأفكار القوية في الثقافة العامة سيكون موضوعا جيدا لفناني التعقيدية ربما لسنوات طويلة قادمة".

 

التعقيدية: التوفيقية الجديدة:

 

لا يريد غالانتر أن يخوض في دقائق الفلسفة الهيغلية، ولكنه يختصر الكثير حين يقول أن أفضل فهم للمصالحة التي تعقدها التعقيدية بين الحداثة وما بعد الحداثة هو المرحلة الأخيرة من عملية الأطروحة، نقيض الأطروحة، التركيب. وبوصفها نموذجا فكريا (باراديم) للفنون والإنسانيات فإن التعقيدية تعتمد على العلوم المعاصرة، ولكنها تمارس بوصفها شكلا من الدراسات الثقافية النوعية، يشرح غالانتر خطوة بخطوة توفيقيته التعقيدية والتي يقول أنها بمجملها تقترح نموذجا فكريا، إن محاولة تركيبية مثل التعقيدية يتوقع لها أن تستغرق سنوات طوال لتتطور ولكنه سيضع مقارباتها الأولى التي يعرضها كما يلي:

الحداثة: مطلقة، تقدمية خطية، محكمة، متسلسلة هرميا، السلطة، الحقيقة والمؤلف. في حين أن ما بعد الحداثة: نسبية، دائرية، عشوائية، تحطم التسلسل الهرمي، التنافس مقابل السلطة، اللاحقيقة، النص مقابل المؤلف وأخيرا أنها ضد الشكلانية. ثم وفي اطار التوفيقية الجديدة تصبح بعد ما بعد الحداثة: مقسمة، متطورة تطورا متلازما متزامنا، تعزز الفوضى، والشبكات التواصلية، والتغذية الراجعة، والحقيقة الاحصائية المعروفة بعد اكتمالها، والشبكة التوليدية أو النص الرقمي ، وأن الشكل بوصفه عملية ليس ميزة أو خاصية.

 

 

عكست الحداثة في بحثها عن المطلق والثابت والمتعالي سواء في العلوم أو الفنون ـ على أيدي فنانين من أمثال مارك روثكو وجاكسون بولوك ـ قيم التنوير. أما موقف ما بعد الحداثة فهو نبذ المطلق، والاحتفاء بوجهات النظر المتعددة، أو حتى المتناقضة، التي توظف عشوائياً. أما التعقيدية فإنها تصالح المطلق مع النسبي عندما تنظر إلى العالم بوصفه عملية واسعة موزعة ولكنها مترابطة.

 

وبذلك تفترض التعقيدية أن العمليات ليست ثابتة ولا عشوائية، ولكنها عبارة عن نظام تغذية راجعة معقد يقود غالبا إلى فوضى حتمية. وفي الثقافة الأوسع فإن التعقيدية ممكن أن تغذي فكرة أن العالم ميكانيكي ولكنه غير قابل للتنبؤ.

 

وفي حين افترضت الحداثة تقدما خطياً ونبذت ما بعد الحداثة فكرة التقدم لصالح الأحداث الطارئة في دورانية دائمة، فإن التعقيدية تتطلع لنشوء الحلول المتزامنة والمتلازمة التي تضمن تقدما حقيقيا في سياق نسبي, حتى لو بقي النجاح هدفا متحركا بدلا من كونه نهاية ثابتة.

 

تفترض الحداثة تسلسلا هرميا تقصدت ما بعد الحداثة أن تحطمه. والتعقيدية لا تمسح العلاقات، ولكنها أيضا لا تفترض الهرمية. إنها تؤكد النماذج التواصلية والشبكات. وهي بهذا تخلق أنظمة من العملاء المتناظرين بدلا من الرؤساء والمرؤوسين. وفي حين تطلعت الحداثية إلى الحقيقة المطلقة التي أنكرتها ما بعد الحداثة واستبعدت أي احتمال لحقيقة نهائية وثابتة، نجد أن التعقيدية قد اعترفت بحدود المعرفة الإنسانية، ولكنها أخذت على محمل الجد الحقائق العلمية الإحصائية التي يمكن تحقيقها. وبالنتيجة فإن التعقيدية ترى أن الحداثة وما بعد الحداثة قد ارتكبتا أخطاء متشابهة وان متناقضة. فقد تحركت الحداثة نحو بساطة مفهومة عندما خلقت أنظمة كريستالية مبنية ببراعة وترتيب فائق. وتحركت ما بعد الحداثة بتبسيط مماثل عندما حطمت الأنظمة الكريستالية، واقتلعت التراكيب تاركة وراءها سحابة من ضباب أو غبار. وبذلك ارتكبت الثقافتان خطأ الاختزال الذي قاد إلى التبسيط المبالغ حين تجاهلت الحداثة الفوضى لفهم النظام وتجاهلت ما بعد الحداثة النظام لتفسير الفوضى. ولكن التعقيدية ترحب بالنظام والفوضى معا وهي بذلك تتناول خبرتنا بكل تعقيداتها دون تطرف مخل أو اختزالية بائسة.

 

اختار غالانتر أن يفرد للنص وعلاقاته بالحداثة وما بعدها ثم بالتعقيدية مساحة أكبر. ويقول:"عند النظر في التواصل الاجتماعي نجد أن الحداثة قد جعلت المؤلف بطلا في معركة عالية المخاطر ليخلق ما سيصبح لاحقا تحفة إبداعية لا تتغير بمرور الزمن. أما القارئ فإنه يدخل المشهد بوصفه المنتفع المحظوظ المستقبلي من عبقرية المؤلف وجهده. والمؤلف هنا يمكن أن يكون كاتبا أو ملحنا أو رساما أو معماريا أو... الخ، والنص تبعا لذلك من الممكن أن يكون لوحة أو موسيقى أو بناية أو قصيدة أو.... الخ. أما ما بعد الحداثة فقد استجوبت الدور المميز للمؤلف وثباتية اللغة نفسها. فالمؤلف ميت بالنسبة لبارت. وهذا يعني أن النص نفسه هو موضوع الاهتمام المركزي. أما دريدا، في صياغته للتفكيكية، فقد دعم فصل البنيوية عن ما بعد البنيوية حين أنكر فكرة أن اللغة تطابق الأصل عدا عن التمثيلات العقلية المطلقة, تاركة عالم النومينون  وحيدا. وبذلك أصبحت اللغة عند دريدا ـ وفي أحسن أحوالها ـ نظاما غير ثابت من الأثر والاختلاف. وبقطع النظر عن قصد المؤلف, فإن النصوص (بما فيها وسائل الإعلام والفن) تكشف على الدوام معان متعددة محتملة بل ومتناقضة أيضاً. والقارئ هو من يخلق المعنى. ولا يكون ذلك إلا بالقراءة الوثيقة المكثفة التي أطلق عليها التفكيكية. والتعقيدية التوفيقية التركيبية كما يراها غالانتر لا تميز المؤلف ولا القارئ ولا حتى النص نفسه ولكنها تنظر إليهم جميعا بوصفهم أجزاء من نظام. وأن استبعاد أيا منهم يعني أن النظام لن يعمل بالكفاية المطلوبة. ويلخص غالانتر المشهد ببراعة فيقول أن أبسط وحدات التواصل الاجتماعي تتطلب بالضرورة مؤلفا وقارئا ونصا. وعادة ما يكون الأفراد قراءاً حينا ومؤلفين أحيانا أُخر. والصورة الأخيرة التي يرسمها غالانتر الفنان هي مجموعة كبيرة من الأفراد يتصرفون بوصفهم قراءاً ومؤلفين في شبكات التغذية المرتدة  المعقدة".

 

والتحدي الذي يواجهه أولئك الذين يعملون في حقل العلوم الإنسانية هو التوصل لفهم الآثار الثقافية التي تتضمنها شبكات الاتصالات. وقد بدأت بالفعل بعض الجهود في هذا الاتجاه مثل الدراسات التي تبحث في تأثير الإنترنت، والحوسبة الاجتماعية، وغيرها. ولكن المؤسف هو أن معظم تلك التحليلات يعود إلى النموذج الفكري ما بعد الحداثي، ولذلك فإنه يرتكب ذات الأخطاء الاختزالية التي تحدث عنها غالانتر في إطار مقارناته بين الحداثة وما بعدها. ولذلك فما زلنا بحاجة لبحوث ـ يقول غالانتر ـ توظف مفاهيم العلوم المعقدة مثل الشبكات العديمة المعيار (scale-free networks) وعندها ستسفر هذه البحوث عن مزيد من التبصر في الآثار الثقافية ليس فقط للإنترنت، ولكن لجميع الاتصالات الإنسانية التي ستدرس حينها من وجهة نظر التعقيدية.

 

وفيما يتعلق بالشكلانية والديناميزمية فإن التعقيدية تمتلك تضمينات تثويرية للفن. فمثلا كان الفن الحديث يهتم بالشكلانية، بمعنى أنه عند دراسة الأشكال ذات الدلالة ـ سواء بوساطة التمثيل أو التجريدـ كانت الشكلية موضع الاحتفاء بالذات بوصفها معيار التقدم المميز الذي يشي بموهبة الفنان. أما ما بعد الحداثة فقد نبذت الشكلانية وعدتها سعياً وثنياً نحو جمال بلا معنى يمنح ادعاءات زائفة للسلطة والامتيازات. ولكن بالنسبة للتعقيدية فإنها تعيد تأهيل الشكلانية, ولكن ليس من ناحية الامتيازات. فالشكلانية التعقيدية هي عملية عامة يكون فيها الشكل ملكية مفهومة ابتدعتها العمليات التوليدية التحتية. وبذلك لا تعد التعقيدية شكل ثابت بلا معنى، بل هي بمثابة رمز وتجسيد للنظم التي ظهرت منها. كما أن توظيف نظام توليدي في الأستوديوذو فائدة كبيرة. إذ يمكن بواسطته خلق أعمال فنية كان من الصعب تصميمها/ أو انجازها بأية طريقة أخرى. ولكن بقدر ما أن ذلك مفيد ومثير إلا أن الأعمال التوليدية الناتجة التي تعرض لنا تلك الأنظمة التي تعمل بدقة متناهية في صورة جمالية بالغة هي التي تعبر بحق ثورية التعقيدية. ويعرض الفن التوليدي في أنقى صوره الأنظمة المعقدة. وهو بذلك يمتلك القدرة على توصيل ديناميكية الأنظمة المعقدة بطريقة عميقة ومباشرة. ولا يجب أن نفهم أن التعقيدية هي مجرد إعادة تأهيل للشكلانية، بل أنها تعيد تقديم الفكرة الأساسية الفنية عن الديناميكية، وهذا هو الأهم. والديناميزمية كما قدمها المستقبليون (the Futurists)) تحتفي بجماليات الحركة (سباق السيارات، القاطرات... الخ)، بدلا من عرض الأجسام كما لو أنها مجمدة في الزمن. الديناميزمية في الفن التعقيدي هي تقدير عميق لجمال الديناميكيا التي تكشفها التعقيدية بصورة أكثر وضوحا وبهاء. فالشكلانية بهذا المعنى أسم والديناميزية فعل. وبتركيزها على الأنظمة التوليدية المعقدة, فإن الفن التعقيدي يشجع الفنانين على الحركة من الأجسام الفنية إلى العمليات الفنية، بمعنى من الأسماء إلى الأفعال. ليس الفن التوليدي مخلوقا طارئا صنعته علوم القرن الواحد والعشرين التي خاضت أمواج التعقيد بمهارة فائقة، ولكنه كان جنينا في رحم القرن التاسع عشر حين كان الفنانون التوليديون يوظفون أنظمة غاية في البساطة. وحين ولد طفلا في القرن العشرين وظف فنانوه أنظمة عالية التشويش ولكنه شب عن الطوق في القرن الحالي حين بدأنا نرى انفجارات الفن التوليدي التي توظف أنظمة معقدة ومرتبة ومشوشة في آن. وبذلك فإن الفن التعقيدي والتعقيدية بوصفها (ذات علاقة) بنظرية الفن تكمل الطيف إلى أقصاه وتدفع تاريخ الفن التوليدي إلى الإمام. وبعرضه في صورته الأنقى بدلا من عرضه بوصفه وسيلة لنهايات أخرى، فإن الفن التوليدي المرتكز على العلوم التعقيدية يأخذ التعقيدية محتوى وطريقة عمل في وقت واحد. وبذلك فإن الفن التوليدي يعرض مصالحة بين العلوم والإنسانيات من خلال توفير خبرة عميقة عن التوزيع، والنشوء، والتطور المتلازم المتزامن، والتغذية الراجعة، والفوضى، والاتصالية. هذه المفاهيم هي علامات النموذج الفكري الذي تخطه التعقيدية.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

 

أضف تعليقك