التعديل الدستوري القادم
"الإسلام دين الدولة"، عبارةٌ تتصدر دساتير معظم الدول العربية والإسلامية مُشَكِّلَةً هويةً دستوريةً وعنواناً لمشروعية كل ما يدنوها من قوانين وأنظمة وتعليمات. تستمد هذه العبارة "قدسيتها" من نظرة السواد الأعظم من أفراد المجتمع إليها بوصفها تعبيراً عن هويتهم الدينية الجمعية التي تَرجَح على الهوية الوطنية المدنية الجامعة. في الوقت نفسه، ينادي العديد من الفاعلين في عملية الإصلاح بضرورة التوجه نحو الدولة المدنية مغفلين أو متغافلين عن العائق الدستوري الذي يشكّله هذا الحكم على الصعيدين النظري والعملي.
خاضت الأوساط السياسية في مصر وما تزال جدلاً مطوّلاً حول النص الدستوري الذي لا يجعل الإسلام دين الدولة فحسب بل يجعل مبادئ الشريعة المصدر الأساس للتشريع، لم ينجُ بطبيعة الحال المطالبون بإلغاء هذا النص من الاتهام بالكفر والارتهان لأجندات أجنبية.. وما شاكل ذلك من توصيفات مقولبة حسب الطلب والسياق، قد يكون الوضع السياسي الذي أعقب تنحية الأخوان عن سُدّة الحكم في مصر؛ قد ساهم في طغيان البواعث السياسية والمخاوف الأيديولوجية على تلكم المطالبات على حساب الدوافع والاعتبارات المحايدة الهادفة لإرساء دعائم دولة مدنية حقّة المواطنة عنوانها والديمقراطية والتنوع ملتها ودينها.
في الأردن تبدو أجواء التعديلات الدستورية المتعاقبة منذ عقد الخمسينيات وحتى يومنا هذا وبصفة خاصة تعديلات 2011 أقل تأثّراً بالنوازع السياسية أو الهواجس الأيديولوجية، مع ذلك، فإن تأمل مضامين تلكم التعديلات ينبئ عن عدم عمقها ومجانبتها تناول الأحكام ذات الأثر الحقيقي في إحداث تحول جذري في هوية الدولة وترسيخ مفهوم المواطنة بمعناها المدني المحض. المتحدثون عن إمكانية الوصول لدولة مدنية في بلدنا مع بقاء المادة (2) من الدستور على حالها؛ إما أنهم يرون الدولة المدنية من زاوية مختلفة تخرجها عن فحواها وسياقها وهم لا يشعرون، وإما أنهم ساسةٌ يمسكون بالعصا من منتصفها محاولين التماهي مع مطالبات الإصلاح التي تجتاح المنطقة واسترضاء التيارات السياسية والنخبوية لضمان موطئ قدم في ما هو قادم.
"الإسلام دين الدولة" ليست مجرد عبارة تتصدر الدستور وتعكس الهوية الدينية لأنظمة الدولة ومرجعياتها الفكرية والتشريعية وحسب، وإنما هي حكم له نتائج وأثر علىمستوى القوانين الناظمة لحقوق المواطنين وما يتفرع عنها من مراكز قانونية وممارسات عملية على الأرض، هذا ما تترجمه نصوص أهم القوانين التي تنظم حقوق الأفراد وواجباتهم؛ ومن بينها وعلى رأسها قانون التربية والتعليم الذي يحكم مسارات إنتاج الهوية الثقافية وتعزيز المواطنة لدى النشأ الجديد، هذا القانون في مادته (3) و (4) يحتوي على "خطبة عصماء" مطوّلة تَعتبر الالتزام بجماع مبادئ ومضامين ومفاهيم الدين.. قوام فلسفة وأهداف التربية والتعليم في الأردن وكأننا بصدد نظام داخلي لجمعية دينية أصولية قوة تبصّرها لا تتجاوز عتبة بوابتها الخارجية.تجد تلك النصوص ذات الصبغة الدينية في هذا القانون المحوري أصلها وأصوليتها في المادة الثانية من الدستور التي تعطي إشارات في كل اتجاه ولكل جهة في الدولة بأنها في حلٍّ متى شاءت من تبني فلسفة ورؤية محايدة كنهها التنوع وعمادها المواطنة المجرّدة عن التعصب الديني.
في الاتجاه نفسه، تنص المادة (2) من القانون المدني الأردني على أنه: "1- تسري نصوص هذا القانون على المسائل التي تتناولها هذه النصوص بالفاظها ومعانيها ولا مساغ للاجتهاد في مورد النص. 2- فاذا لم تجد المحكمة نصا في هذا القانون حكمت بأحكام الفقه الاسلامي الاكثر موافقة لنصوص هذا القانون ، فان لم توجد فبمقتضى مبادىء الشريعة الاسلامية". بينما تنص المادة (3) من القانون عينه على أنه: "يرجع في فهم النص وتفسيره وتأويله ودلالته الى قواعد أصول الفقه الاسلامي". يحيل إذن القانون المدني الذي يعد عصب المنظومة التشريعية إلى الفقه ومبادئ الشريعة الإسلامية ليس فقط تنظيماً واستكمالاً للفراغ التشريعي المحتمل بل أيضاً مرجعاً لتفسير نصوص القانون وإعمالها وفقاً لمقتضيات الفهم الديني المتضَمَن في علم أصول الفقه.
هذه الإحالة في القانون المدني ونظيراتها في قانون الأحوال الشخصية تجد هي الأخرى سندها في المادة الثانية من الدستور التي تقرر أنّ "الإسلام دين الدولة"، لينعكس هذا الحكم الدستوري من خلال هذان القانونان؛ ضوابطَ قانونيةيتحدد عندها مصير الشخص من حيث ممارسته لحقوقه وحرياته من عدمها، كما هو الحال في النصوص الناظمة للحق في الترشح والاقتراع والتي تحرم الشخص من ممارسة هذا الحق إذا كان "مجنونا" أو محجورا عليه ل"سفه أو غفلة"، فإذا ما تبين أن موجبات "الحجر" أورداها القانون المدني وقانون الأحوال الشخصية وعرّفها وفسّرهاالأخير استناداً إلى كتب الفقه الإسلامي القديمة حيث لا طب نفسي ولا علم نفس ولا منهج كُلّاني في تعريف الإعاقات والأمراض النفسية، تجلّى مدى الأثرالذي تلعبه تلك النصوص التي تستمد مشروعيتها من المادة الثانية من الدستور في حرمان المواطنين من ممارسة أهم حقوقهم السياسية.
لا يبدو الأمر مختلفاً في مجال العمل الحزبي حيث من المستساغ أن يتبنى حزب معين أيديولوجية دينية مستمدة من "دين الدولة" مع تطعيمها بغطاء مدني لا يتعدى تلبية متطلبات الوفاء بالشروط الإجرائية التي سرعان ما يزول أثرها الشكلي ليظهر الوجه الحقيقي للحزب الديني الذي سوف يرفع شعارات تتسق مع نص المادة (2) من الدستور ليكتسب شعبيةً دون كبير عناء،فالشعار الأشهر "الإسلام هو الحل" يجد صداه في المادة (2) من الدستور ومخالفته قد تودي بالمرء في غياهب جبّ التكفير والتغريب والعمالة وغيرها من المضادات الفكرية ذاتية الإطلاق والانطلاق التي يتضمنها هذا الشعار الإقصائي الاستئصالي.
ثمة ممارسات تشريعية وعملية تتناقض تماماً والأثر المترتب على كون "الإسلام دين الدولة"، الأمر الذي يؤكد رمزية هذا الحكم الدستوري وارتباطه بالجذر الديني للهوية ومفاهيم الانتماء المغلوطة التي تتنازع مع الهوية المدنية الجامعة التي قوامها المواطنة المجردة عن الدين أو العرق أو اللغة. من أمثلة التناقض هذه؛ وجود تشريعات ناظمة لترخيص شركات الخمور وتصنيعها وتصديرها واستيرادها، وكذلك وجود نصوص قانونية تضفي صفة المشروعية على الفوائد وأخرى تعالج ترخيص البنوك وإدارتها وعملها والإشراف عليها على الرغم من كونها من وجهة نظر "جمهور العلماء" بنوك "ربوية"، هذا فضلاً عن الاختلاط في الجامعات والمدارس الخاصة وبيع أوراق الياناصيب... هذه الممارسات جميعها لليست مما فيه خلاف قوي بين "العلماء" على "حرمتها"، مع ذلك فإن تلك الممارسات قائمة وسارية على الرغم من وجود نص المادة (2) من الدستور، فهل يأتي يوم تطعن فيه الأحزاب الدينية أو حتى الحكومة التي قد تشكلها تلك الأحزاب –في حال وصلنا لحكومة برلمانية- بدستورية حزمة القوانين التي "تخالف" أحكامها مبادئ الشريعة الإسلامية؟ وهل سيكون المجال رحباً أمام تلك الأحزاب للدفع باتجاه إعلان الدولة تحفظات على العديد من النصوص التي تتضمنها اتفاقيات حقوق الإنسان الأساسية بدعوى مخالفتها ل"دين الدولة"؟
نحن أمام نص دستوري يرى عموم أفراد المجتمع فيه تعبيراً عن "هويتهم" وتأكيداً على "انتمائهم الديني" مع عدم إدراك هذا العموم لحقيقة الأثر المعيق لهذا النص على تحقيق مطالباتهم بالإصلاح والتغيير والتحول نحو الدولة المدنية والحياة الديمقراطية بمعناها الكامل وأثرها الشامل، لذلك فإن مناقشة هذه المسألة بوضوح وتجرّد وتِبيانها للناس؛ يعد واجباً وطنياً ينبغي على النخب وقادة الرأي الاضطلاع به بعيداً عن المخاوف وحسابات المصالح قصيرة المدى.
إنّ الدساتير يجب أن تكفل للأفراد حرية التدين وللدولة التحرر من الدين، لذلك فإن تعديل المادة الثانية من الدستور يعد من وجهة نظري أولويةً إصلاحيةً يجب أن تتصدر جدول أعمال أول تعديل دستوري قادم ليغدو الانتماء للوطن عنوان الهوية ومبادئ المساواة والتنوع أساس المشروعية، أو ليجاهر المرجفون ويعلنوا بوضوح أنهم يريدونها دولةً دينيةً حتى وإن كانوا هم أنفسهم غير عابئين بالدين.