البيوطيقا والنسوية 3

البيوطيقا والنسوية 3
الرابط المختصر

الجزء الثالث من  

 

لا يوجد منهج نسوي واحد لمقاربة البيوطيقا، وحتى نتجنب التبسيط المبالغ به، فإننا سنميز بين ثلاثة مناهج مختلفة الأول، وهو النسوية الليبرالية المهتمة بمعالجة أوجه عدم المساواة بين الجنسين. وفيما يتعلق بالرعاية الصحية، فإن التوجه نحو المساواة يعني التركيز على الطرق التي تعالج بها النساء بطريقة مختلفة عن الرجال. واحدة من أهم الأمثلة على النسوية الليبرالية هو مقال جوديث جارفيس تومبسون الكلاسيكي عن الإجهاض.

 

تتلخص فكرة تومسون في عقد قياس غريب بين الحمل غير المرغوب فيه وأن يجد أحدهم أن جسده ضروري لدعم حياة عازف كمان شهير، فهل الحالة الأولى هي تجربة تختبرها النساء فقط في حين أن الأخيرة (افتراضية) هي حالة محايدة جندريا. وإذا كان لنا أن نتفق على أنه، حسب تومسون، من غير المعقول أن نتوقع من شخص ما أن يمنح جسده لعازف كمان لمدة تسعة أشهر، فإنه يجب علينا أن نكون قادرين على الاتفاق على أنه من غير المعقول أن تمر امرأة بدرجة مشابهة من التضحية فيما يتعلق بالحمل غير المرغوب فيه. مثال آخر على عدم المساواة، هو الاستبعاد التقليدي للنساء من التجارب البحثية، ويرجع ذلك إلى الملف الهرموني المتذبذب للنساء، وإمكانية الحمل. ويعني الاستبعاد المنهجي للنساء من التجارب السريرية أنه قد لا تكون الأدوية آمنة أو فاعلة عندما تؤخذ من قبل المرضى الإناث

 

تعتني الحركة النسوية الليبرالية بتسليط الضوء ومتابعة مجموعة متنوعة من السياقات المشابهة من عدم المساواة.

يهتم النهج الثاني من النسوية في المقام الأول بالظلم، وكيف أن الممارسات تساهم في (عن غير قصد ربما) أو تفاقم، النظم القائمة من القهر. كانت بداية النسويات من هذا النهج هي انتقاد التكنولوجيات الإنجابية، بحجة أن العلماء (الذكور) والأطباء يجرون تجاربهم أساسا على أجساد النساء ويستغلون رغبة المرأة في إنجاب الأطفال لإقناعها بتجريب علاجات خطيرة وغير مختبرة سابقا.

 

والآن وبعد أن أصبح التخصيب في المختبر علاجا روتينيا، أصبح النقد النسوي له أكثر تحفظا، إلا أن هذا النوع من التحليل النسوي لا يزال واضحا فيما يتعلق بأبحاث الخلايا الجذعية. إذ تنتقد بعض النسويات بحوث الخلايا الجذعية الجنينية البشرية على أساس أنها تعتمد على إمدادات وفيرة من البويضات، والتي لا يمكن الحصول عليها إلا بإخضاع النساء لعملية تنشيط المبيض ثم جمع البويضات وهي عملية غير مريحة ولا تخلو من مخاطر ومحاذير. مثال آخر على التحليل النسوي القائم على القمع هو معارضة تأجير الأرحام المدفوع الثمن على أساس أن الطلب من امرأة أن تحمل طفلا مقابل المال هو عملية استغلالية بطبيعتها، وتشبه الدعارة. يمثل النهج النسوي الثالث التحدي الأكثر مباشرة للبيوطيقا نفسها. وهو ما قد نسميه "أخلاقيات الرعاية" والذي جاء نتيجة لعدم رضا بعض النسويات عن الأخلاقيات الطبية التقليدية.

 

فأولا، وظفت الأخلاق الطبية لتعنى بالعلاقة بين الطبيب والمريض، وكانت مهنة الطب، حتى وقت قريب نسبيا، مثقلة بالهيمنة الذكورية. وكان تمثيل النساء من ناحية أخرى، غير متناسب مع المرضى. ولكن قدرتهن الإنجابية، ودورهن الرئيسي في تقديم الرعاية بالنسبة للأطفال والمسنين، وزيادة العمر المتوقع لهن اجتمعت لجعل النساء أكثر مستخدمي الخدمات الطبية مقارنة بالرجال. والنساء أيضا أكثر عرضة للتوظيف في مجال الخدمات الصحية ومقدمي الرعاية، إما ممرضات (دورهن، وحتى وقت قريب إلى حد ما، كان محددا بتنفيذ أوامر الأطباء) أو لتقديم مساعدة ثانوية.

 

وعندما يركز الأخلاقيون على المعضلات التي تواجه الأطباء، فإنهم يتجاهلون القضايا الأخلاقية التي لا تقل أهمية والتي تواجهها الممرضات ومقدمات الرعاية الصحية والمرضى. وفي أواخر التسعينيات، على سبيل المثال، وثقت الأنثروبولوجية راينا راب المعضلات الأخلاقية التي تواجهها الحوامل في ما يتعلق بقرار استخدام تقنيات جديدة لاختبارات ما قبل الولادة، مثل تقنية بزل السلي amniocentesis (سحب عينة من سائل السلي للفحص). وكانت المريضات، كما تقول راب، رائدات في هذا المجال. . . . . . . أجبرن على الحكم على جودة أجنتهن، واتخاذ قرارات ملموسة حول معايير الدخول إلى المجتمع البشري.

 

ثانيا، بالاعتماد على العمل المؤثر والمثير للجدل للأخصائية النفسية كارول جيليجان، جادل أصحاب النظريات النسوية أن التفكير الأخلاقي المجرد، والتأكيد على القيم الفردية مثل الاستقلالية الذاتية، هي قيم ذكورية التوجه على نحو مميز. ووجود النساء، وفقا لهذا التحليل، يتميز باتصالات مع الآخرين، وخاصة من خلال الحمل وتربية الأطفال، وهذا ما يجعلهن يثمن العلاقات أكثر من الاستقلالية الفردية. تقول جليجان:

"تنطوي سيكولوجية المرأة التي دائما ما وصفت بأنها متميزة فيما يتعلق بالتوجه نحو العلاقات والترابط صيغة أكثر سياقية في الحكموفهم أخلاقي مختلف. ونظرا للاختلافات في المفاهيم عن النفس والأخلاق عند المرأة، فان النساء يقدمن للحياة وجهة نظر مختلفة ويرتبن الخبرة الإنسانية وفق أولويات مختلفة" .

 

وهناك نقطة ثالثة متصلة تتعلق بالمبدأ السائد في الأخلاقيات الطبية، وهي تحديدا استقلالية المريض، والافتراضات المسبقة، وعدم التبعية والاتكالية. وعادة فان عدد قليل من المرضى قادرون على التجاوب مع هذه المعايير الصارمة. فالمرض يتميز غالبا بالتبعية ويخلق الضعف. وفي كل الأحوال، فإن نموذج التفكير الأخلاقي الذي يمنح الامتيازات للفرد العاقل المتوجه ذاتيا يعتمد على فهم جزئي وغير دقيق على معنى أن تكون إنسانا. فجميعنا نعتمد اعتمادا كليا على الآخرين في بداية حياتنا، ويقضي معظمنا بعض الوقت وهو غير قادر على العمل بشكل مستقل قبل أن يموت.

 

وقد أدت هذه الانتقادات الثلاثة للبيوطيقا التقليدية إلى الاهتمام بتطوير أخلاقيات الرعاية، والتي تتناول الاتكالية والتبعية بوصفها أمرا مفروغا منه وتطلب منا أن نتعامل مع الآخرين بالتعاطف والرحمة. ولكن ماذا يعني هذا في الممارسة؟ واحد من الفروقات الهامة بين أخلاقيات الرعاية الطبية والأخلاقيات الطبية التقليدية هو ألا ينظر إلى المريض بوصفه متناهيا في الصغر وعائم بحرية، بحيث تكون قرارات المصلحة الذاتية معزولة عن علاقاته مع الآخرين، وخصوصا مع أولئك الذين يتكل عليهم أو الذين يقدمون له الرعاية .

 

وربما سيكون من المفيد أن ننظر إلى أخلاقيات الرعاية الطبية بوصفها تكملة لا غنى عنها بدلا من رؤيتها بوصفها بديلا لمعايير مثل العدالة والنزاهة، وتماما مثل نهج المحافظة الذي ناقشناه سابقا، فإن أخلاقيات الرعاية نادرا ما تملي علينا حل معضلة صعبة، مثل أي مريض ينبغي أن يحصل على سرير واحد فقط متوفر في العناية المركزة. بدلا من ذلك، فإنها مفيدة للتذكير بأن المرضى ليسوا في واقع الأمر أفراد مستقلون، منعزلون، قادرون على اخذ القرارات العقلانية التي توافق المصلحة الذاتية، وأن مصالحهم لا يمكن، وربما لا ينبغي، النظر فيها بمعزل عن مصالح من يقدمون لهم الرعاية.

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني

أضف تعليقك