البيوطيقا الدينية

البيوطيقا الدينية
الرابط المختصر

الجزء الأول من

 

دائما ما كان هناك علاقة مثيرة بين الدين والممارسات الطبية. ففي الماضي، ساد الاعتقاد بأن أصل المرض روحي. ونتيجة لذلك، سعى الناس إلى الاستشفاء بالصلاة بدلا من طلب الدواء والعلاج. وكان هناك من يعتقد أن طلب الشفاء بالدواء هو معصية بحق الإله. وبالرغم من أن الرفض الشامل للعلاج الطبي على أساس ديني قد تراجع كثيرا، فإنه لا زال هناك الكثير من الناس الذين يتوجسون خيفة من القدرة غير المنضبطة للطب الحديث على إنشاء وتدمير الحياة، وتستند مخاوفهم عادة إلى خلفية دينية.

 

وضمن المجتمع العلماني والثقافات المتعددة، يميل الدين إلى أن يصبح قضية اعتقاد شخصي وخاص. ونتيجة لذلك فإن تصريحات الزعماء الدينيين بخصوص البيوطيقا ستصبح ذات أهمية مركزية لأتباع أي مذهب ديني، وسوف تحدد لهم كيفية مقاربة معضلاتهم الطبية الشخصية, ولكن لا زال من غير الواضح كيف ستساهم في تشكيل آراؤهم السياسة العامة.

 

يعبر دانيال كالاهن في المقتطف التالي عن أسفه لعلمنة البيوطيقا ويقترح أنه- وبسبب أن كل الأديان تمتلك تاريخا طويلا وغنيا من الصراع مع الأسئلة ذات الأهمية المركزية للقانون والأخلاق الطبية، مثل معنى الحياة والموت - فان وجهات النظر الدينية قد تكون مصدرا مفيدا بشكل خاص في مجال البيوطيقا العلماني الحديث نسبيا. يقول:

"النتيجة النهائية لهذه الفلسفة الضيقة واختفاء أو تغيير طبيعة الدين في الخطاب العام هو تهديد ثلاثي التضعيف. فإنه يتركنا، أولا، معتمدين بشدة على القانون بوصفه مصدر الأخلاق الفاعل. وبذلك تصبح لغة المحاكم والتشريعات هي وسائلنا المشتركة للخطاب. ويترك ذلك عددا كبيرا منا متخوفا من القانون (كما هو حال عدد من الأطباء) أو معتمدا على القانون في تحديد صواب فعل ما, الأمر الذي لا يحدث إلا نادرا، لأن القانون يخبرنا بما هو ممنوع أو مقبول وليس بما هو صحيح أو جدير بالثناء. ويتركنا، ثانيا، محرومين من الحكمة والمعرفة التي تراكمت عبر العصور والتي هي ثمرة تقاليد دينية عريقة التأسيس. لست مضطرا لأن أكون يهوديا حتى أعثر على المكاسب أو أفهم ما تركه المعلمون الأوائل في محاولاتهم لفهم المشكلات الأخلاقية عبر القرون. كما أن اليهودي لن يشعر بعدم الجدوى حين يكتشف ما قاله الباباوات أو الكهنة البروتستانت عن الأخلاقيات. كما انه يجعلنا، ثالثا، مضطرين إلى التظاهر بأننا لسنا مخلوقات ضمن تجمعات أخلاقية على نحو خاص في مجتمع انبطاحي ناقص نحتفي به لإظهار جمعيتنا. غير إن تلك الجمعية تصبح شكلا من أشكال القهرية، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، عندما يتوجب علينا أن نصمت أمام العامة بخصوص ما يتعلق بحياتنا الخاصة ومعتقداتنا وأن نتخذ شكلا أطلق عليه جيفري ستوت "الإسبرانتو الاخلاقي". وقواعد تلك اللغة (الإسبرانتو) هي أنها تنكر التماسك والاعوجاج قي المجتمع الحقيقي، وتتحاشى الكشف والتخمين بشأن الأهداف والمعاني، كما أنها تقدس خطاب الغرباء الحذرين (من اليمين خصوصا) بوصفه الصيغة المفضلة للعلاقات اليومية".

 

توجد اختلافات واضحة بين الأديان وداخلها. فضمن المسيحية على سبيل المثال، تختلف وجهات النظر حول الحالة الأخلاقية للجنين ـ وبالتالي تقبل الإجهاض والبحوث على الأجنة ـ ومع ذلك، فإن هناك عدد من أوجه التشابه يمكن تحديدها في المقاربات الدينية المختلفة للبيوطيقا.

 

فأولا، تميل البيوطيقا الدينية إلى تأكيد الصواب أو الخطأ المتأصل في مسار عمل محدد وتكون أقل تأثرا بالحجج البراغماتية أو المترابطة منطقيا. ففيما يتعلق بالقتل الرحيم، على سبيل المثال، فان تركيز الجانب الديني يكون على شرعية أو عدم شرعة إنهاء حياة شخص آخر، بدلا من التركيز على الصعوبات العملية التي تحكم سلوك الأطباء.

 

وثانيا، تشترك جميع الأديان في قضيتين أخلاقيتين رئيسيتين: (أ) حب الجار (تقريبا كل دين، على سبيل المثال، يحتوي على نسخة من القاعدة الذهبية: (عامل الناس كما تحب أن يعاملوك)، و(ب) الشعور بالرهبة والاحترام ل "خلق الله"، وعلى الأخص لحياة الإنسان، من خلال ما يمكن أن نسميه "مبدأ الحرمة".

في الاقتباس التالي، يصف هازل مارك ويل وباري براون كيفية أن الاعتقاد بحرمة الحياة ألهم الكاثوليكية الرومانية الردود على مجموعة واسعة من الأسئلة المتعلقة بأخلاقيات العلوم الحيوية. يقول:

"هناك تقليد طويل من التفكير في أخلاقيات العلوم الحيوية في العقيدة الكاثوليكية الرومانية، وهو تقليد يمتد من كتابات أوغسطين عن الانتحار في أوائل العصور الوسطى إلى التعليمات البابوية الأخيرة بخصوص قضايا الموت الرحيم وتكنولوجيا الإنجاب. تضم البيوطيقا في الكاثوليكية الرومانية مجموعة معقدة من المواقف التي تعود أصولها إلى الكتب المقدسة التي خطها أطباء الكنيسة، وإلى الدوريات الباباوية وتأملات اللاهوتيين الكاثوليكيين والفلاسفة. ويعد الاعتقاد بقدسية الحياة جوهري بالنسبة للكاثوليكية: قيمة حياة الإنسان، بوصفه خلق الله الذي منحه الثقة، أبعد من تقييم الإنسان والسلطة. فالله هو من يحتفظ بالسيادة عليها. ومن هذا المنظور، فإننا مجرد مشرفين على أجسادنا، ولسنا من نملكها كما أننا مسئولون أمام الله عن هذه الحياة التي أعطيت لنا" .

 

وبتطبيقها على الطب، تميل المنظورات الدينية إلى أن تكون أقل فردية من البيوطيقا العلمانية وأن تنطلق من أساس أن الحياة هدية، ليس من حقنا تحطيمها أو العبث بها: وهكذا فإن التركيز على استقلالية قرار المريض يصبح أقل أهمية.

 

وثالثًا، تطرح فكرة أن الحياة هبة من الله سؤالا عن كيف يجب على الإنسان أن يتدخل في النظام الطبيعي، أما الإجابات على هذا السؤال فهي متنوعة بطريقة دراماتيكية ـ من فكرة أن الطب الحديث يعارض إرادة الله، إلى فكرة أكثر تقدمية، وأصبحت اليوم أكثر شيوعا، تقول إن سعي الإنسان نحو المعرفة والتقدم الطبي، هو بحد ذاته من خلق الله وإرادته.

 

يشرح بول بودهام هذا التحول عن المنظور المسيحي بقوله: "توفر البيوطيقا أكبر عدد من الحالات التي يقبلها المسيحيون اليوم تقريبا بالإجماع بوصفها الممارسات الجيدة التي اعتبرها أسلافهم في الإيمان من الشر. إذ لقرون عديدة نُهي المسيحيون عن تناول الدواء، لأنه يعادل ممارسة الشعوذة. وكانت ممارسة الجراحة، ودراسة علم التشريح وتشريح الجثث للبحوث الطبية في وقت من الأوقات محرمة بشدة. وفي وقت لاحق لاقت ممارسات التلقيح والتطعيم معارضة لاهوتية حادة. وبالفعل في عام 1829 أعلن البابا لاوون الثاني عشر أن كل من قرر التطعيم لم يعد ابنا لله، لان الجدري كان حكم الله، والتطعيم تحديا لحكم السماء. ولأسباب مشابهة استنكروا استخدام الكينين لمكافحة الملاريا. وقد كان ينظر إلى إدخال التخدير واستخدام الكلوروفورم في الولادة تحد لحكم الكتاب المقدس، لأنه-وبسبب ميراثهن الضخم خطيئة حواء الأولى- يجب على النساء جميعا أن يواجهن عقوبة "الألم عند إنجاب الأطفال". بالتالي هُوجم استخدام الكلوروفورم في الولادة بشدة في المنابر العامة في جميع أنحاء بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية. كان أساس الاعتراض على كل الممارسات الطبية المذكورة أعلاه هو الاعتقاد بأن من واجب البشر أن يمعنوا في الصبر على قضاء الله وقدره. واعتبرت كل الابتكارات الطبية والعلمية في البداية نقص في الإيمان والثقة بالله. واتهم الأطباء "بلعب دور الله"، وعدم الاستعداد لقبول إرادة الله حيث أنه وحده من يعلم ما هو المناسب لشخص معين، كما اتهموا بالعبث بالأسرار المقدسة والمناطق الخاصة بالله وحده. ولكن تدريجيا، قامت جميع الكنائس المسيحية السائدة بتعديل تعاليمها، وتحولت الانتقادات السابقة للابتكارات العلمية والطبية إلى أن تكون قناة لمحبة الله وأداة لحسن إرادته. ويرى المسيحيون اليوم في الأطباء وسائل لتحقيق إرادة الله في استعادة صحة الأشخاص الذين حطمهم المرض".

 

كان لليهودية باع طويل من تقاليد تقبل التدخل الطبي. وترجمت قناعة أن الجسد ملك لله إلى واجب العناية به. لم يقتصر الأمر على مجرد الوقاية من المرض - من قبيل النظافة الشخصية واختيار الطعام - بل تعداه، كما يقول سيمون غليك، إلى أن طلب العلاج فرض ضمن الشريعة اليهودية على الأطباء ومرضاهم. يقول غليك:

"اتفاقا مع إعطاء أولوية عالية للحياة، فإن التقاليد اليهودية، على عكس القانون الأنجلوسكسوني، توجب على الطبيب الاستجابة لنداء أي المريض للمساعدة. . . .ومثلما أن الطبيب ملزم بتقديم الرعاية، فإن البحث عن الرعاية الطبية من قبل المريض إلزامي. وسبب هذا الالتزام هو أن المرء، في تقاليدنا اليهودية، لا يمتلك حياته أو جسده. الإنسان هو مجرد راع للحيازة الإلهية الذي كان له شرف تلقيها. وشروط هذه الرعاية ليست اختيارية، ولكنها تحدد بأوامر الله.

 

نحن لا نسمح بالانتحار ونوجب على المرء اتخاذ جميع الخطوات المعقولة للحفاظ على الحياة والصحة. وعندما تتعارض المنفعة مع الاستقلالية، فإن الأولوية تكون للمنفعة في الشريعة اليهودية، وهو رأي يعارض بوضوح الآراء الغربية الحديثة. وفي حين أن انتهاك استقلالية المريض من أجل مصلحته غير قابل للتنفيذ في مجتمعاتنا التعددية الحديثة، فإنه يحتفظ بقدسية كاملة في التقاليد اليهودية، عندما يحدد بطريقة لا لبس فيها. في مداولات بشأن جواز فعل معين، فان كونه "طبيعي" أو "غير طبيعي" ذي أهمية بالغة. ففي تقاليدنا، يعد العالم منتجا غير مكتمل بصورة متعمدة، موضوعا في ذمة الإنسان - الذي هو كائن ناقص ومحدود القدرة - ومن المتوقع منه، بل من الواجب عليه، أن يشارك في انجاز. . . عمل الخالق. . وهكذا فإن معالجة المرضى. . . ليست مقبولة لاهوتيا فحسب، ولكنها تكليف وإلزام. ساهم هذا الحرص على تعديل الطبيعة، جنبا إلى جنب مع وضع قيمة كبيرة لحياة الإنسان، في إعلاء مكانة مهنة الاستشفاء والعلاج في التقاليد اليهودية".

 

ومن جهتهم فإن علماء الدين المسلمين يوافقون على أن التدخل التكنولوجي في الطبيعة، طالما أن الغرض منه هو تحسين رفاه الإنسان، لا يتعارض مع الحظر المفروض على تغيير خلق الله. وفي الواقع، فان المسلمين يعتقدون أن البحوث العلمية محمية من قبل الشريعة، وأن الدواء هو واجب ديني في كل مجتمع. أما الطب الوقائي فهو عمل محمود ومرغوب في أحكام الشريعة التي تحث على النظافة وضبط النفس. وينص قانون الأخلاقيات الطبية الإسلامي، على سبيل المثال، على أن:

"الوقاية الطبيعية من بعض الأمراض الطبيعية تكمن في إحياء القيم الدينية مثل العفة، والنقاء، وضبط النفس، والامتناع عن الضرر المقصود أو غير المقصود للنفس أو الآخرين. ونشر هذه القيم يشكل جوهر الطب الوقائي، وبالتالي تقع ضمن الولاية القضائية والالتزام بالنسبة لمهنة الطب" .

 

ورابعا، تميل البيوطيقا الدينية إلى اعتماد نهج معياري للمعضلات الأخلاقية. ففي حين أن البيوطيقا العلمانية تقبل فكرة أنه لا يوجد جواب واحد صحيح لأي مسألة أخلاقية مثيرة للجدل، وتركز بدلا من ذلك على تدبير إجراء مقبول يمكن من خلاله التوصل إلى موقف وسط، إلا أن منطق الشخص الملتزم بالتعليمات الدينية يكون غالبا حاسما وحادا باتجاه موقف نابع من عقيدته الدينية.

 

وخامسا، فإن المنظور الديني للمعضلات الأخلاقية يميل إلى احتواء تأويلات السلطة الماضية، وعادة ما يكون مقيدا بدرجة أو بأخرى بالتعليمات أو النصوص الكتابية أو اللفظية التابعة لتراث معين

 

 

* باحثة ومترجمة فلسطينية حاصلة على ماجستير تكنولوجيا حيوية، ماجستير تربية وعلم نفس، بكالوريوس صيدلة، صدر لها مجموعة أبحاث أبرزها:

1- أفق يتباعد: من الحداثة إلى بعد ما بعد الحداثة، دار نينوى للنشر والتوزيع. دمشق 2014.

2- الإنسان في ما بعد الحداثة، دار يوتوبيا، بغداد، 2014

3- نهايات ما بعد الحداثة: إرهاصات عهد جديد، مكتبة ودار عدنان للنشر 2013.

4- فصل في موسوعة: الفلسفة الغربية المعاصرة: صناعة العقل الغربي من مركزية الحداثة إلى التشفير المزدوج- الجزء الثاني.

أضف تعليقك