الانتقال السياسي في الأردن بين الأمل والإحباط
أنهت أحزاب سياسية رئيسية عديدة في الأردن عملية تصويب الأوضاع (وفقاً لقانون الأحزاب الجديد 2022، الذي يضع شروطاً في العضوية؛ عدداً، وفي الانتشار الجغرافي، والتركيبة الجندرية والعمرية)، وتسير أحزاب أخرى في الطريق نفسه، وإن كان المتوقع ألا يتجاوز عدد الأحزاب التي ستنجح في اجتياز عملية التصويب وعقد المؤتمر التأسيسي 20 حزباً.
على الرغم من هذه الخطوات المهمة على طريق بناء المشهد الحزبي الجديد، هنالك شكوك وهواجس ودعاوى من اتجاه عريض من السياسيين، سواء الرسميون أو حتى من المعارضين، يشكك في مدى إمكانية نجاح تطور الأحزاب، والوصول إلى حكومات حزبية بعد عقد (كما هو مقرّر في قانون الانتخاب الجديد). ولعلّ هنالك حجج وجيهة وواقعية وراء هذا الاتجاه؛ منها ما يتعلّق بأحزاب عديدة جديدة، أعادت، عملياً، تدوير النخبة السياسية نفسها، ولم تتح فرصة حقيقية لجيل الشباب للقيادة، ومنها ما اعتُبر رعاية رسمية لبعض الأحزاب السياسية (مع الخشية من استنساخ تجربة الأحزاب المغربية التي أطلق عليها أحزاب المخزن)، ومنها ما يتعلّق بعدم وجود انفراج أو انفتاح في البيئة السياسية يعطي طمأنية ومؤشّرات ورسائل إيجابية للمواطنين بأنّ هنالك مساراً استراتيجياً لا رجعة عنه.
على الجهة المقابلة، هنالك اتجاه يرى في ما يحدث حالياً تطوّراً نوعياً وجديداً غير مسبوق، على المشهد السياسي والحزبي في الأردن، فهنالك قاعدة صلبة من التشريعات والقوانين التي يصعب، إن لم يستحِل الرجوع عنها، وهنالك خطابٌ سياسيٌّ واضح مستمرّ من الملك يضع رأس المال والرصيد السياسي بأكمله وراء التجربة الحزبية الجديدة وتحديث المنظومة السياسية، ما يجعل الرجوع عن المسار الحالي بمثابة سياسةٍ خطيرة، فضلاً عن تغييرات عديدة أحدثت وبرامج تدريبية ومناهج تربوية في المدارس والعملية التعليمية ونظام للنشاط الحزبي في الجامعات.
مؤشّرات ووعود وخطوات ومسافات تمّ قطعها، وفرص مهمة من المفترض استثمارها
بين التفاؤل والتشاؤم، هنالك مسافة مهمة من التحليل والقراءة والأفكار التي من الضروري أن تؤخد بالاعتبار، وفي مقدمة ذلك، أنّه لا توجد هنالك وصفة أو نظرية جاهزة يمكن الارتكاز إليها أو دليل (Play Book) يسترشد به في خطوات بناء العملية الحزبية، فالتجربة الأردنية الراهنة مختلفة عن تجارب أخرى في دول عديدة، وإن كانت هنالك مؤشّرات ومقارنات مهمة ومفيدة في حقل الأحزاب السياسية. ومن الضروري أن نتذكر هنا أن الديمقراطية والأحزاب ليست قرارات ولا مجرد سياسات، على أهمية ذلك، وإنما هي عمليات تتفاعل من خلالها مكوّنات وأطراف عديدة وتتطور وتمر بمراحل مختلفة ومتنوعة. وعلى الرغم من أنّ هنالك خطاباً ملكياً حاسماً، جرى التأكيد عليه مرّات عديدة، في ما يتعلق بالمضي في هذا الطريق، وهو الأمر الذي تلتزم به مؤسّسات القرار جميعاً، لكن هذا لا يلغي أنّ هنالك اتجاهات واجتهادات ومخاوف وآراء لا تزال قائمة واختلافات في عملية التطبيق، ما يجعل المسألة أكثر تعقيداً.
في ضوء ذلك كلّه؛ يمكن القول إنّه لا توجد ضمانات حول النتائج النهائية بصورة مطلقة وكاملة، لكن هنالك مؤشّرات ووعود وخطوات ومسافات تمّ قطعها، وفرص مهمة من المفترض استثمارها، طالما أنّه لا يوجد هنالك بديل لذلك، وطالما، أيضاً، أنّ هنالك نتائج مباشرة مهمة تحققت فيما تم إنجازه، ومن ذلك تكسير الحواجز الثقافية والنفسية بين نسبة كبيرة من جيل الشباب والعمل السياسي وتشجيع الناس على الانخراط في العمل الحزبي وولوج شرائح لم يسبق لها ذلك، وتوسّع ثقافة العمل السياسي والحزبي بالتدريج بلا خوف ولا قلق، كما كانت الحال سابقاً.
كلما مضينا في الطريق أكثر تكسّرت حواجز، وازدادت قناعة نسبة كبيرة من الأردنيين المتخوّفين والمشكّكين بأنّ الطريق معبّد، وأنّ المسارات مفتوحةٌ للانضمام إلى العمل السياسي والحزبي، لكن هذا أيضاً مرتبط بمؤشّرات وبمدى قدرة الأحزاب على تغيير الصورة النمطية عنها، والوصول إلى تطوير قدراتها وخطابها السياسي، والانطلاق نحو الشارع والمجتمع والأحياء، بخاصة المناطق الشعبية والمحافظات النائية.
أنهت الأحزاب السياسية المرحلة الأولى؛ التي تتمثل بتصويب الأوضاع، ما أفرز الأحزاب القوية القادرة على المنافسة من الأحزاب التي كانت أشبه بالدكاكين، ونخّل عدد الأحزاب. أما المرحلة التالية، وهي على درجة عالية من الأهمية، فتتمثل في بناء قدرات الأحزاب، لتكون قادرة على الاشتباك مع الشارع بصورة أفضل. وفي هذا السياق، هنالك مجالات رئيسية من الضروري التركيز عليها؛ بناء الأجنحة أو الشبكات الشبابية الفاعلة للأحزاب في الجامعات والنقابات والمحافظات والفروع المختلفة، تعزيز الشبكات أو المنظمات النسوية المرتبطة بالأحزاب، الانتقال بالنشاط الإعلامي للأحزاب إلى مرحلة متقدّمة أكثر احترافاً واعتماداً على نظريات الاتصال السياسي الجديدة، بخاصة مع وسائل الاتصال الاجتماعي، والتحوّل في نظريات الدعاية والتسويق وصناعة المحتوى الرقمي، والاهتمام أكثر في الفروع والعمل العام المتكامل مع العمل الحزبي، وأخيراً بناء البرامج الحزبية الواقعية التي تكون قادرةً على بناء حملات انتخابية نوعية جديدة مختلفة عن الطرق التقليدية.
هذه التحدّيات الحقيقية أمام الأحزاب في المرحلة المقبلة، وصولاً إلى الانتخابات النيابية في العام المقبل، التي ستكون مؤشّراً على مستوى تطور العملية الحزبية في البلاد، بخاصة أن هنالك نسبة تصل إلى 30% مخصّصة للقوائم الحزبية الوطنية النسبية المغلقة، كما للأحزاب الحقّ في المشاركة في القوائم النسبية على مستوى المحافظات.
تبقى هنالك مشكلتان كبيرتان تواجهان نجاح العمل الحزبي؛ تتمثل الأولى في استمرار شعور جيل الشباب أنّهم مهمّشون، وأن الجيل الأكبر والنخبة السياسية الحالية تعيد إنتاج نفسها من خلال العملية الحزبية، وتعيد توزيع المواقع القيادية في الأحزاب فيما بينها، وهو خطأ فادحٌ وقعت فيه أحزاب عديدة مهمة، ما يضعف إحدى أبرز مهمات التحديث السياسي، وتتمثل في إدماج جيل الشباب وإنتاج قيادات شبابية سياسية حزبية تمثل طبقة سياسية جديدة في البلاد. أما المشكلة الثانية فتتمثل في عدم وجود انفتاح ملحوظ وواضح مصاحب وحاضن للعملية الحزبية، ما يعزّز من حجج التيار المتخوّف والمشكك في المشروع برمته.
ثمّة مؤشّراتٌ ومعطياتٌ متضاربةٌ ومرحلةٌ ضبابيةٌ ومتحرّكة. ولكن إذا كان التحديث السياسي خياراً استراتيجياً، كما أكد الملك مراراً وتكراراً، ولا رجعة عنه، فمن الضروري أن يتعاون الجميع من السياسيين المعارضين والمؤيدين على تذليل العقيات أمام التجربة وتسهيل عملية الانتقال السياسي المنشود وتأمينها.