رغم تراكم الخبرات الأردنية وتفوّقها، ودورها في عشرات المؤسّسات الإعلامية العريقة في الإقليم، وحتى خارجه، سواء من خلال المساهمة في تأسيسها أو إنتاج المحتوى، أو شَغل أدوار أساسية في هياكلها الإدارية وضمان استدامتها، إضافةً إلى تنوّع المنصّات الإعلامية في المملكة، وخصوصاً في السنوات الماضية، في مختلف أنواع الإعلاميْن، التقليدي والرقمي... رغم ذلك، تعاني الرسالة الإعلامية الأردنية اليوم (بشكل غير مسبوق) من الضعف والتشتّت والتناقض أحياناً. ففي أحيانِ كثيرة، يتحرّك الإعلام المحلّي بردّة فعل في أثناء الأزمة، وينتظر أن يتبيّن الخيط الأبيض من الأسود لصدور بيان أو تصريح يُتداوَل في المجموعات، ليبدأ النشر والتعليق، ويقتصر دوره (للأسف!) على "إطفاء الحرائق"، بدلاً من صياغة رواية استباقية للحدث وتستمرّ بعده، أو تطوير رسائلَ مستقلّة عن الأزمات، مقنعة ومباشرة، تزخر بالمعلومات والتفاصيل الحقيقية التي تعزّز صورة الأردن ومواقفه على المدى الطويل.
أحد أبرز التحدّيات تعدّد المرجعيات الإعلامية التابعة لدوائر صنع القرار، بشكل كامل أو جزئي، إضافةً إلى أقسام الإعلام الأمني بأنواعه. هذا التعدّد يجعل الرسالة الإعلامية عرضةً للازدواجية والتضارب، فضلاً عن تأخّر صدورها أو غموضها أحياناً، ما يضعف فاعلية التواصل مع المؤسّسات الإعلامية المحلّية والعربية والعالمية، ويزيد من تشكّك المواطن العادي في الرواية الرسمية في ظلّ التدفّق الهائل للمحتوى عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمنصّات المجهولة أو الإعلام الخارجي الذي يتحرّك بطبيعة الحال وفق أجندات دول، أو من يملكها أو يموّلها، ولكلّ من هذه الجهات مصلحة استراتيجية تعمل في تقديمها وخدمتها، والظنّ ألا يقدّم أيّ منها مصلحة الأردن أو غيره إذا تضاربت مع مصلحته الاستراتيجية تلك. إلى جانب ذلك، تواجه المؤسّسات الإعلامية التقليدية أزمةً ماليةً خانقةً، فلا يخفى على أحد وضع الصحف الورقية المالي، بالإضافة إلى المؤسّسات الأخرى التي تعاني تراجع سوق الإعلان، وحتى من يعتمد منها على التمويل يمرّ في ظروفٍ تهدّد استمراريته، لتراجع مستوى التمويل العالمي من جهة، وتشديد شروط الموافقات على التمويل، ما يستوجب مراجعة هذه الإجراءات وإيجاد حلول توفّق بين الأهداف الوطنية ومتطلّبات التمويل.
تقلّص الإيرادات الإعلانية يفاقم من الأزمة بشكل متسارع، ما يضغط على المؤسّسات الإعلامية، ويقلّل من قدرتها على الابتكار والتطوير
كما أن تقلّص الإيرادات الإعلانية يفاقم من الأزمة بشكل متسارع، ما يضغط على المؤسّسات الإعلامية، ويقلّل من قدرتها على الابتكار والتطوير. وعلى المستوى المهني، يهدّد ضعف التدريب المستمرّ وغياب استراتيجيات التحوّل الرقمي قدرة الإعلام الأردني على مواكبة التطوّرات العالمية. وهناك فجوة رقمية كبيرة بين الإعلامين، التقليدي والرقمي، في الأردن، ويواجه خرّيجو الإعلام الرقمي اليوم معضلةً أساسيةً في التدريب في تلك المؤسّسات، إذ يختلف الحال عمّا درسه الطالب أربع سنوات عن الواقع الفعلي، فهناك حاجة لتحوّلٍ رقمي حقيقي يجعل المحتوى منافساً وجذّاباً، وبالتالي، باعثاً على الاستمرار. وبطبيعة الحال، توفير فرص عمل للخرّيجين والخرّيجات من كلّيات الإعلام، فليس كلّ شاب (أو شابّة) لديه القدرة على أن يكون صانع محتوى ينافس في مجال يحتاج إلى قدرات عالية للظهور والتأثير.
ذلك كلّه، إضافة إلى ضعف التشبيك مع المنصّات الإعلامية الإقليمية والدولية، يجعل الرسائل الأردنية أقلّ حضوراً في الفضاء الإعلامي الإقليمي وحتى العالمي. تتقاطع هذه التحدّيات مع أزمة أعمق في البنية التنظيمية والمهنية للإعلام، وهي الحوار الجاري مع نقابة الصحافيين الأردنيين بشأن شروط العضوية، الذي يعكس معضلة تمثيل المهنة. ورغم انفتاح النقابة وموقفها الجدّي بقيادتها المُنتخَبة، يظهر سؤال كبير: هل يبقى صحافيون أردنيون من دون حماية مهنية أو حقوق تنظيمية، خصوصاً في الإعلامين، الرقمي والمجتمعي، وحتى في مؤسّسات إعلام رسمية كبرى، الذين لا تنطبق عليهم شروط العضوية بشكلها الحالي؟ وزاد من هذه الأزمة أن العضوية باتت شرطاً للتغطية الإعلامية الرسمية، بحسب ما أعلنته النقابة، وأكّده رئيس الوزراء جعفر حسّان قبل أيام.
يقتصر دور الإعلام الأردني المحلّي على "إطفاء الحرائق" بدلاً من صياغة رواية استباقية للحدث وتستمرّ بعده
يتسبب هذا الواقع بفجوة بين التشريعات والواقع العملي، ويُضعف فرص تطوير بيئة إعلامية شاملة واحترافية، ولذلك لا بدّ من وضع خريطة طريق لقطاع الإعلام، تنظّم القطاع وتظهر الرسالة الأردنية بوضوح وفاعلية، وهذا لا يتم إلا عبر توحيد المرجعيات الإعلامية ضمن غرفة عمليات واحدة تتواصل بشكل منهجي مع الإعلاميين المحلّيين والمراسلين الأجانب والمؤسّسات الدولية، لإنتاج محتوىً مهني يعكس الرسالة الأردنية بوضوح، ويعمل وفق استراتيجية تراكمية تشبه "كرة الثلج"، وتأسيس تقليد حواري منتظم لتحديد القضايا المحورية، حتى في غياب الأزمات، واختيار خبراء مؤهّلين للتحدّث عنها عبر المنصّات المختلفة، وملخّص إعلامي أسبوعي للصحافة يوضّح ملامح الحراك الإعلامي ويضمن وضوح الرسائل الموجّهة، وتعزيز خطاب مهني نقدي معتدل، قادر على الدفاع عن الرواية الرسمية بأسلوب مستقلّ وغير مباشر. وأخيراً، يجب الإسراع في الاستثمار في الإعلام الرقمي الاحترافي لتقليص الفجوة الرقمية وتعزيز الحضور الإقليمي والدولي.
في النهاية، تقوية الرسالة الإعلامية الأردنية ليست مجرّد تحسين في آليات النشر أو صياغة البيانات، بل هي إعادة بناء منظومة كاملة تشارك فيها الحكومة، والنقابة، والمؤسّسات الإعلامية، والمجتمع المدني، لضمان إعلام وطني قادر على التأثير وصناعة الرواية الأردنية الحقيقة والمقنعة، لا مجرّد التعليق عليها.












































