الأقاليم.. تغطية صحفية بلا سبق إصرار ولا ترصد
بعد توقف دام أكثر من ثلاث سنوات، عادت فكرة الأقاليم إلى الصحافة بقوة، غير أن عودتها تلك جاءت مترافقة مع قدر كبير من الالتباس والغموض، فحتى الصحيفة أو الصحفيون والكتاب الذين اعتادوا الدفاع عن الموقف الحكومي وجدوا أنفسهم هذه المرة في حيرة، ببساطة لأن الموقف الحكومي نفسه تغير خلال أشهر، فقد اختلف موقف نفس الحكومة بعد التعديل عن موقفها قبل التعديل من نفس الموضوع وهو ما عكس نفسه على طريقة تعاطي الصحافة مع القضية.
يذكر المتابعون أن وزير الداخلية السابق وهو الوزير الأقرب الى الموضوع بحكم منصبه كان يعارض مشروع الأقاليم ويسانده رئيس الوزراء في ذلك قبل التعديل، وقد كان لذلك أثر ملحوظ في طبيعة التغطيات الصحفية، على الأقل فإن عدم الوضوح وقلة المعلومات وتناقضها بين مصدر وآخر تسببت في ارتباك المتابعات الصحفية، سواء على صعيد التقارير والأخبار أو على صعيد مقالات الكتاب.
لكن الصورة تبدلت في آخر أسبوعين، حيث تكثفت الأخبار الرسمية التي كان على الصحافة متابعتها وبمساحات كبيرة، كما أن وزير الداخلية الجديد أعلن تأييده للمشروع وقام بعدة أنشطة في هذا المجال وجدت طريقها الى صفحات الصحف، كما أعلن رئيس الوزراء موقفاً داعماً وتصدى للرد على بعض الأفكار والتحفظات بعد أن كان قبل أشهر ينأى بنفسه عن الخوض في نقاشات مع الأفكار السائدة في هذا الموضوع وفي مواضيع كثيرة غيره.
في الأثناء حاولت بعض الصحف موازاة الحماس الحكومي المتجدد واقتصر الأمر في الأيام الأولى على المواد الصحفية الاخبارية، غير أنه سرعان ما اتضح وجود تفاوت في طبيعة المواد المنشورة بين صحيفة وأخرى، فعلى سبيل المثال وفجأة شكلت صحيفة "الدستور" فريق متابعة من مندوبيها في كل المحافظات وكتبوا تقارير جاءت جميعها مؤيدة للفكرة نشرتها على صفحتين بعنوان "تأييد رسمي وشعبي لمشروع الأقاليم"، غير أن صحيفة "العرب اليوم" نشرت بعد يومين تقريرا ميدانياً أيضا ولكنه جزئي اقتصر على محافظة الزرقاء يعطي إشارات بأن التحفظ أو الاعتراض على المشروع هو السائد، رغم أن الشعب الذي تحدثت عنه "الدستور" هو نفس الشعب الذي تحدثت عنه "العرب اليوم".
صحيفة "الرأي" اختارت أن تعقد ندوة بحضور العديد من الشخصيات ذات العلاقة من وزراء ونواب حاليين وسابقين وبعض المهتمين ونشرت محتوى النقاش الذي دار بها غير أن قارئ التغطية الاخبارية المنشورة يستطيع بسهولة اكتشاف التعمّد في إبراز الآراء المؤيدة وتقليص مساحة بضعة آراء متحفظة طرحت أثناء النقاش.
لكن ما سيكشف التفاوت في مواقف الصحف هو ندوة حول المشروع اعتبرت مهمة أيضاً، جرت في مجمع النقابات شارك بها مؤيد بشدة للفكرة هو النائب ممدوح العبادي ومعارض بقوة للفكرة هو الكاتب موفق محادين، لكن صحف الرأي والدستور والغد اكتفت بنشر خبر مختصَر منقول عن وكالة الأنباء الرسمية "بترا" بينما غطته "العرب اليوم" و"السبيل" تغطية خاصة بمساحات معتبرة.
المفارقة الصحفية الأبرز كانت في المقالات، فقد اهتم كتّاب "الغد" و"العرب اليوم" ونشروا عدداً كبيرا من المقالات، بينما اختار اغلب كتاب الصحف الأخرى الابتعاد عن النقاش بآرائهم الخاصة ربما باستثناء الكاتب الساخر احمد الزعبي في الرأي الذي كتب مقالة ظريفة بعنوان "أقاليم يا قلب العنا".
في "العرب اليوم" كتب رئيس التحرير طاهر العدوان ومدير التحرير فهد الخيطان أكثر من مقالة لكل منهما مبدين قدراً كبيراً من التحفظ ومبرزين ما سموه مخاطر المشروع، وفي "الغد" تفاوت الكتاب بين منتقد مثل "ياسر ابوهلالة" ومؤيد مع بعض الملاحظات مثل محمد ابو رمان وسميح المعايطة، غير أن الكاتب الأكثر بدا حماساً للكتابة فهو جميل النمري في صحيفة "الغد" الذي كتب حوالي عشرة مقالات، امتدت بين شهر آب الماضي وآذار الحالي، وهي مقالات تصلح كحالة دراسية تمثل وضعية صاحب رأي يقف أمام موضوع غابت عنه المعلومات وتبدلت المواقف الرسمية منه خلال زمن قصير.
في مقاله الأول يتوقع جميل النمري عودة مشروع الأقاليم الى دائرة الضوء بعد تسريبات رسمية، وينبش بعض ما تحفظه ذاكرته حول مجريات طرح وتلاشي الموضوع في السابق، وبعد هذا المقال بشهرين يعيد التأكيد على صحة توقعه حول عودة النقاش، ومرة أخرى وفي نهاية تشرين ثاني الماضي يشير الى وضوح المعارضة الرسمية الحكومية للمشروع ويدخل في نقاش مع هذا الموقف معتبراً أن سببه هو خوف البيروقراطية المركزية من تراجع نفوذها، ثم يعود ويقدم اقتراحات سوف يتبين أنه لا يصر عليها كثيراً، لكنه بعد التعديل وفي مطلع آذار ومع خروج وزير الداخلية المعارض للمشروع، يلاحظ النمري وجود غموض في الموقف الحكومي الجديد وأن على الحكومة أن تعالج هذا الغموض، ويقدم مقترحاته اسهاما في ذلك لأنه فيما يبدو توقع أن الموضوع مطروح للنقاش فعلاً، لكنه وبعدها بأيام وفي مقالين متتاليين 17 و 18 آذار وبعد تصريحات واضحة لرئيس الوزراء، يكتب بعنوان موحدة للمقالين هو "مملكة الأقاليم" مستسلماً أو متعاطياً فيما يبدو مع التوجه الحكومي المعلن، لكنه وبشيء من الأسى وباسترخاء يقول هذه المرة: لو كان لي أن أقترح بديلاً لاقترحت كذا وكذا".
قصة مقالات جميل النمري مع نقاش هذا الموضوع هي قصة صاحب رأي يجتهد ويقترح ويقبض النقاش جدياً غير أنه في النهاية لا يجد من يناقشه.











































