الأغوار الجنوبية في الأردن حلول تكيف مناخي هشة

(هشاشة حلول التكيف تربك مزارعي الموز وتعرقل مشاريع تنموية)
الرابط المختصر

وسط كم هائل من بقايا أشجار الموز يتجول أبو المجد في مزرعته بمساحة نحو سبع دونمات، كلما خطا خطوة  يصدر صوت قرمشة أوراق جافة تحت قدميه ويكاد أن يتعثر بساق شجرة  ملقاة، يعول على هذه المزرعة كمصدر دخل  وحيد وحلم  للنهوض من واقع معيشي صعب في لواء الأغوار الجنوبية في الأردن، إذ يدفع سنويا نحو 3 آلاف دينار لقاء كراء الأرض من مالكها ليستطيع إعالة أسرة من 7 أفراد فضلا عن العناية بوالديه وإخوته. 

حاله كحال معظم سكان قضاء غور الصافي  التابع لمحافظة الكرك البالغ عددهم حسب آخر إحصائية عام 2018م نحو 37 ألف نسمة، وحيث تتجاوز نسبة الفقر  61.9%، ليسجل أعلى مؤشر لجيوب الفقر في الأردن.

ما يؤرق أبو المجد ليس الإنتاج ولا تسويقه، بل سؤال بات يلح عليه كلما أنهى قطاف يومه، وهو كيف يتخلص من بقايا مخلفات الإنتاج المقدرة شهريا بنحو 2 إلى 3  طن؟ في هذا الصدد، يقول"كنت أتخلص من مخلفات الموز بحرقها؛ لأن التكلفة المادية لمعالجتها وتحويلها إلى سماد عالية، إذ تتطلب العملية حفر حفرة واستئجار عمال ومتابعة". وبالرغم من أن اللجوء لحرق المخلفات يعرضه لغرامة مالية تصل لنحو 500 دينار أردني، إلا أنه يعترف بقيامه بذلك" "كنت أتجاوز القانون بطريقتي فيغض المفتش عينه ولا يحرر بحقي مخالفة ".

استبشر خيرا حين سمع بوجود حل أقل تكلفة للتخلص من المخلفات الزراعية، فخاض تجربته الأولى في ربيع 2023 عندما بدأ يتبرع بها لجمعية "سيدات عين عباطة الخيرية" التي أنشأت مشروعا لتحويل المخلفات إلى سلال وتسويقها.

 

يقول أبو المجد " عندما بدأت التبرع بمخلفات الموز للجمعية ومشروعها الذي يحولها إلى سلال خفّ علي عبء التخلص منها، وكذلك أثر حرقها على البيئة".

 

يطرح هذا التحقيق الإشكاليات التي يتعرض لها المزارعون في منطقة الأغوار الجنوبية بالأردن في التخلص من مخلفات الموز والحلول المقترحة من قبل بعض الجمعيات لهذا المشكل ذو التبعات البيئية والصحية وحدود هذه الحلول في ظل ضعف الدعم الحكومي.

 

آثار صحية وبيئية

يتسبّب حرق الموز والمخلفات الزراعية بصفة عامة في مخاطر بيئة، فوفق خبير الاقتصاد البيئي، عامر جبارين، " تُطلق الانبعاثات المتولدة عن عملية الحرق غاز ثاني أكسيد الكربون وأكسيد النيتروجين، وجسيمات عضوية متطايرة تؤثر على جودة الهواء، وتقلل من خصوبة التربة وتهدد التنوع البيولوجي"، ويضيف " الحرق ممارسة شائعة  في المزارع مما يؤدي إلى تدمير الحياة الطبيعية البرية وكسر السلاسل الغذائية". 

وللحرق أيضا آثار صحية، فلقد  أظهر مسح حول الصحة في الهند أن حرق بقايا المحاصيل يزيد من الجسيمات الدقيقة في الهواء ويشكل خطرا صحيا، حيث يفاقم الربو على المدى القصير مثلا. وفي دراسة أخرى أجراها  المعهد المركزي للهندسة الزراعية الهند يمكن أن يسبب الدخان في الهواء في حصول إلتهاب الحلق وألم العيون والسعال واحتقان الأنف.

 تضاف إلى كل هذه الأضرار، الكلفة العالية للتخلص من المخلفات الزراعية والتي عانى منها أبو المجد، ومن ضمنها ضرورة توفير أجور العمال لتحويل المخلفات إلى سماد عوضا عن حرقها. تحد  أوضحته دراسة معهد الدراسات البيئية، جامعة كوروكشترا بالهند التي بيّنت أن خيار الحرق هو ما يلجأ إليه في العديد من الأحيان المزارعون بعيدا عن القانون.

 

يقول مزارع الموز الجعافرة أن " بعض المزارعين يمارسون الحرق تجنبا لدفع أجور نقل المخلفات ولأنهم لا يعرفون أين يذهبون بها أصلا". 

 

قانون يُجرم الحرق

بسبب الأضرار البيئية والصحية ، فإن القانون الأردني فرض منع حرق المخلفات الزراعية وتسليط عقوبات على من يمارسه. يحظر قانون حماية البيئة  رقم(6) لسنة 2017م والذي يحاول المزارعون تفاديه، كما جاء في المادة 8  منه "تجميع أي من المخلفات أو الأنقاض أو الفضلات الصلبة أو السائلة أو نقلها أو إلقائها أو فرزها أو معالجتها أو طرحها أو حرقها أو نبشها، ووفق المادة 27 (أ) من هذا القانون "يُغرّم كل من يقدم على حرق المخلفات  بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تزيد على سنة وبغرامة لا تقل خمسمائة دينار ولا تزيد على ألف دينار أو بكلتا هاتين العقوبتين". وتناط مهمة تحرير المخالفات بوزارة البيئة ممثلة في الإدارة الملكية لحماية البيئة.

تواصلت معدة التقرير مع وزارة البيئة والإدارة الملكية للحصول على  احصاءات حول بلاغات حرق مزارعين للمخلفات في مناطق الأغوار، وكان الرد أن لا مخالفات بهذا الخصوص لهذا العام دون الإشارة لأعوام سابقة، كما لم يتم مدّنا باحصائيات الحرائق المسجلة. لكن بالبحث في أرشيف أخبار وكالة بترا وبتتبع أخبار صادرة عن مديرية الدفاع المدني، ثبت نشوب حرائق عديدة في مزارع الموز خلال السنوات الماضية.

 

التغير المناخي يزيد الوضع سوءا

يزرع الأردن الموز على مدار العام في أربعة مناطق جغرافية تميزها تربة غنية بالبوتاس والأسمدة وهي كما تبين الخريطة الشونة الشمالية، الشونة الجنوبية ودير علا و منطقة غور الصافي. بلغت مساحة  الأراضي المزروعة بالموز  لعام 2022م  نحو 9 آلاف دونم، توجد أكثر من نصف المساحة في الشونة الجنوبية بنسبة 61% يليها غور الصافي بنسبة 24%   حيث شكّلت مساحة أشجار الموز المزروعة فيه أكثر من ربع المساحة المزروعة بالأشجار لعام 2022م.

 

 

 

 لا توجد معلومات حول حجم مخلفات الموز سنويا لدى الجهات المسؤولة،  وبسؤال خبير الاقتصاد البيئي عامر جبارين عن حجم مخلفات الموز يؤكد أن لا دراسات محددة أيضًا عن ذلك.  أما عن 10 آلاف طن مجموع ما أنتجه غور الصافي التابع للواء الأغوار الجنوبية لعام 2022م فيقول" كمية  المخلفات، تعتمد على الطريقة المستخدمة في الحصاد، 

 

فلو أخذنا نسبة 20% من الإنتاج ستعطي حوالي ألفين طن من المخلفات، ووفق دراسة حصلت في مصر،  تنتج شجرة الموز الواحدة 80% من المخلفات وينتج عن كل هكتار نحو 220 طن نفايات سنويا.

بحث المزارعين في الأردن عن حلول للتخلص من المخلفات له وجه آخر، فالحرارة المتقدة في أوائل نيسان وحتى أيلول تعزز احتمال نشوب حرائق في مخلفات الموز وتزداد فرصة ذلك مع ما تشهده الأغوار من تغيرات مناخية ، ولقد تضمنت السياسة الوطنية للتغير المناخي لعام 2022-2050م  عدة تحذيرات من احتمال ارتفاع درجة حرارة الهواء في الأردن لنحو 2.1درجة وفق التوقعات المناخية حتى 2100م حسب سيناريو نموذج التنبؤات المناخية الإقليمية، فضلا عن انخفاض معدل هطول الأمطار السنوي بنسبة 21% ما ينبئ بحالة جفاف أكثر شدة مع زيادة في الحد الأقصى لعدد أيام الجفاف المتتالية، هذا  وجاء ترتيب الأردن في مؤشر قابلية التأثر بالمناخ المنشور على موقع وعد المناخ التابع للأمم المتحدة  في المرتبة   49 من أصل 185 بلد.

 

حل تحويل المخلفات إلى "سلال"

أمام تفاقم حجم مخلفات الموز ومع الخوف من تزايد لجوء المزارعين إلى الحرق وتسبب ذلك في نشوب الحرائق، تم التوجه من قبل بعض الجمعيات في الأردن نحو تحويل المخلفات إلى سلال يتم تسويقها وتوفير دخل مادي لمن يقوم بذلك. وقع اختيار هذا الحل خاصة بعد أن أثبت نجاعته في مصر، حيث تم تحويلها إلى عديد من المنتجات ومنها السلال، كما وقعت الهيئة القومية للإنتاج الحربي سنة 2022  بروتوكول تعاون مع "شركة بابيرس الأسترالية " في مجال إنشاء مصانع تحويل مخلفات أشجار الموز إلى ورق وأسمدة ومنسوجات.

شرعت جمعية "سيدات عين عباطة الخيرية" سنة 2023 في مشروع لتصنيع السلال إنطلاقا من مخلفات الموز، حيث جلبت ماكنة خاصة لاستخلاص الألياف من سيقان الموز، ومن ثم معالجتها بالنشر في الهواء الطلق ليتم تحويلها فيما بعد إلى سلال من قش وتحف فنية. تستفيد حاليا من المشروع 11 سيدة أصبحن متمكنات من صناعة السلال.

 

السيدة سلمى سيالات، إحدى المستفيدات، هي أم  لطفلين يبلغ عمرهما أربعة أشهر وخمس سنوات تقول: " مشروع  الموز وفّر لي دخلا إضافيا ساعدني في دفع مصاريف إيجار البيت والإنفاق على أولادي، فأنا أقبض عشرة دنانير باليوم لقاء عملي".

رغم نجاح مشروع جمعية عين عباطة في تدوير مخلفات الموز عبر تحويلها إلى سلال، إلا أنه واجه معضلة أساسية  وهي صعوبة تسويق المنتجات، حيث تقول رئيسة الجمعية" دائما وأبدا تفتقر مشاريع منطقة لواء الأغوار الجنوبية إلى التسويق، وبصفة عامة، فإن الجمعيات التي تشتغل هناك هي بحاجة إلى دعم وتسويق لمنتجاتها" كما أشارت أنه نتيجة لهذا الوضع تضاءل عدد المستفيدات من 11 سيدة إلى خمس سيدات، الأمر الذي أقلق أبو المجد حيث وجد نفسه من جديد أمام كمية هائلة من المخلفات لا يستطيع التخلص منها سوى بالحرق.

ليست جمعية عين عباطة أول من استثمر في لواء الأغوار الجنوبية  في مخلفات محصول الموز لتحويله إلى سلال، فلقد بعثت رئيسة جمعية سيدات حديثة زينة دغيمات مشروعا  عائليا لإعالة أسرتها عام 2005م دون التقدم لصندوق دعم الجمعيات بعد أن تلقت تدريبا من مؤسسة نهر الأردن في 2004م.  توسّع فيما بعد لتستفيد منه 10 سيدات، ويعتمد المشروع على معالجة  أوراق الموز بالماء ثم تجفيفها، ثم في مرحلة ثانية استخدام الإبرة لغزل السلال، لكن تطور المشروع  بقي يعتمد في التسويق على الطلبيات فقط. لذلك تُبدي دغيمات قلقها حول مدى استدامته.

 

بصفة عامة، تنشط في منطقة الأغوار الجنوبية، 15 جمعية تهدف لإنشاء مشاريع تنموية، ومنها جمعيتي عين عباطة وحديثة التابعتان لوزارة التنمية الإجتماعية، إلا أنهما لم تحصلا على دعم من خلالها.

توجهت معدة التقرير لمديرية تعزيز الإنتاجية والمساكن في وزارة التنمية الاجتماعية للوقوف على مدى دعمها للجمعيتين المذكورتين، ليصل الرد مقتضبا، عبر الناطق الإعلامي للوزارة، حيث يفيد بأن الوزارة تدعم الجمعيات بمشاريع انتاجية من خلال ثلاثة  مديريات - تعزيز الانتاجية ومديرية الجمعيات وصندوق دعم الجمعيات -  وذلك باختيار جمعيات تقدمت بدراسة جدوى وميزانيةُ تقديرية للمشروع، مؤكدا أن مديريات الوزارة في الميدان تتابع تلك المشاريع وتقدم تقارير دورية، ولم يرد أي تعليق على الجمعيتين. أما عن استدامة التسويق فيقتصر دورها على  على إقامة   المعارض الموسمية، ووفق الناطق الإعلامي فلقد أقيمت خمسة معارض على مستوى الإقليم ، كما دربت الوزارة  جمعيات وأسر على تسويق منتجاتها وإدارة المشاريع بالتعاون مع المنظمات.

في انتظار إيجاد حلول مستدامة لمسألة حرق مخلفات الموز، يُعلّق أبو المجد  أمله على تواصل مشروع تحويلها إلى سلال، وتتمنى أم محمد سيالات ألا يُغلق بوجهها مصدر دخل مكّنها من شراء علبة حليب لصغيرها، حيث تقول: " من الصعب تخيل العودة للماضي، لدي طفلين وأمامي مهمة توفير عيش كريم لهم، مشروع السلال غطى جزءا من احتياجاتنا اليومية".

ويطمح مزارعو الموز في الأغوار الجنوبية أن يتم إيجاد حل يوازي ما أوجده القطاع الخاص للتخلص من مخلفات أشجار النخيل عام 2013 حيث تم إنشاء مصنع لتحويلها إلى أسمدة عضوية في الشونة الجنوبية.

 

أنتج هذا التحقيق بتمويل من الاتحاد الأوروبي، ولا تعكس بالضرورة آراءه. زمالة FPU

 

 

 

 

 

نتعرف في هذا البودكاست على سبب توجه مزارعو الموز لحرق المخلفات الزراعية، وما يعيق حل تبنته جميعيتان خيريتان في نفس المنطقة لمشكلة المزارعين.


 

أضف تعليقك